أدى الانفجار الهائل في مرفأ بيروت إلى دمار أجزاء من العاصمة ومقتل أكثر من 175 شخصًا وجرح 6000 آخرين وتلف احتياط الحبوب للبلاد. ويبدو أن سبب الكارثة هو سوء تخزين 2750 طنًا متريًا من نيترات الأمونيوم في المرفأ منذ العام 2014 على مقربة من المدينة المكتظة بالسكان. ويتركز الحديث اليوم عن المقصرين والمهملين والفاسدين في المرفأ، لكن حصر المسؤولية بالأفراد يغفل المشكلة الأهم، وهي نظام إدارة مرفأ بيروت الذي يضيّع المسؤولية. وقد تم وضع هذا النظام الهجين في أوائل التسعينات حيث شكل انقلاباً على الطريقة الرشيدة التي كانت معتمدة لإدارة المرفأ في السابق.
يقبع لبنان في المرتبة 153 من أصل 190 دولة على مقياس سهولة التجارة الدولية، إذ يستغرق امتثال الصادرات للإجراءات الحدوديةBorder Compliance 96 ساعة مقارنة بـ13 ساعة في المرافئ الفعالة و48 ساعة لإجراءات الوثائق (Documentary Compliance) مقارنة بساعتين في المرافئ الفعالة. ويستغرق امتثال الواردات للإجراءات الحدودية 180 ساعة في لبنان مقارنة بـ9 ساعات في المرافئ الفعالة، إضافةً إلى 72 ساعة لإجراءات الوثائق مقارنة بـ4 ساعات في المرافئ الفعالة. وقد أدى تعقيد المعاملات إلى تشجيع الرشاوى والفساد، بما في ذلك التهرب الجمركي والتهريب، فأصبح مرفأ بيروت، مغارة “علي بابا”، ووصل الإهمال والتقصير إلى الذروة مع تخزين مادة نيترات الأمونيوم وانفجارها.
لقد حان الوقت لإعادة مرافئ لبنان إلى القطاع الخاص كما كانت حال مرفأ بيروت من العام 1887 إلى العام 1990، أي قبل أن تقرر السلطة السياسية الاستئثار بالمرفأ ووضع يدها عليه. ففي العام 1887 استحصلت “شركة مرفأ وأرصفة وحواصل بيروت” على امتياز إنشاء المرفأ وإدارته وفقاً لنظام يسمى حاليا البناء والتشغيل والتملك (Build-Operate-Own, BOO). فتملكت هذه الشركة الخاصة الأراضي المزمع إنشاء المرفأ عليها وطمرت المرفأ القديم وأنشأت مرفأً جديداً بردم البحر، وكلّ ذلك على نفقتها الخاصة، واستثمرت رأس مال قدره خمسة ملايين فرنك واستدانت مبلغ خمسة ملايين فرنك. وقد استكملت الشركة المشروع بنجاح في العام 1894 وشرعت في تشغيله، فتولّت عتل البضائع وتخزينها تحت مختلف الأوضاع الجمركية وفي المخازن والمنطقة الحرة. وقد وفر هذا النظام على الحكومة اللبنانية تكاليف بناء المرفأ وتوسيعه وأعباء إدارته وسمح للدولة بالاستحصال على مردود من الجمارك والضريبة على الأرباح، كما حمى المرفأ من التدخلات السياسية.
من هنا، أقترح العودة إلى هذا النظام الذي أثبت نجاحه في لبنان لأكثر من 70 عاما وبيع جميع المرافئ اللبنانية بالمزاد. وسيسمح بيع مرفأ بيروت لشركة خاصة وفقاً لنظام البناء والتشغيل والتملك بإعادة بناء الأجزاء المدمرة بشكل أسرع، فالحكومة لا تملك الأموال في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، ولو توفرت لأهدرتها. أما الشركات العالمية المتخصصة في بناء الموانئ وامتلاكها وإدارتها، ففي إمكانها ضخ الأموال اللازمة والخبرة والكفاءة. وسيسمح بيع موانئ طرابلس وصيدا وصور بالمزاد إلى الشركات الخاصة وفقاً لنظام الـ BOO أيضاً بتطوير تلك الموانئ وتحويلها إلى مراكز تجارية كبيرة على البحر الأبيض المتوسط، ما يساهم في إنماء هذه المناطق ويحرك العجلة الاقتصادية فيها.
فلنتخيل على سبيل المثل أن مزاد مرفأ بيروت رسا على شركة فرنسية وفازت شركة صينية بملكية مرفأ طرابلس وشركة خليجية بمرفأ صيدا وشركة نروجية بمرفأ صور. هكذا فإن من شأن المنافسة بين الشركات الأربع أن تسرع الإجراءات وتقلل الفساد والرشاوى وترخّص كلفة المعاملات. فإذا أساءت إحدى هذه الشركات إدارة مرفئها وعمّ الفساد، يمكن للتجار اللبنانيين والأجانب الانتقال بكل بساطة إلى ميناء آخر. لذا ترتقي المنافسة بالمرافئ اللبنانية وتحسن إدارتها وتضمن تأمين أفضل خدمة وأدنى كلفة خوفا من هروب التجار إلى المرافئ الأخرى.
ومن الطبيعي بيع المرافئ المحلية للشركات العالمية، كما أن من الطبيعي إعادة شرائها. فمرفأ بيروت مثلا كان مملوكاً ومداراً من الشركة الفرنسية إلى أن اشترته الدولة اللبنانية في العام 1960؛ وحينها فقط أصبحت جميع الأراضي الداخلة في نطاق المرفأ أملاكا عامة للدولة. لكن الدولة أبقت إدارة المرفأ وقتذاك بيد الشركة الخاصة بعدما تم تحويلها إلى شركة لبنانية باسم “شركة إدارة واستثمار مرفأ بيروت”. هكذا انتقل المرفأ من كونه قطاعاً خاصّاً صرفاً إلى ما يسمّى حاليأ بنظام الشراكة بين القطاعين العام والخاص (Public-Private Partnership, PPP). لكن هذا النظام أعطى تأثيراً أكبر للقوى السياسية على إدارة المرفأ، كما انتقلت تكاليف الاستثمار إلى خزينة الدولة بعدما كانت على عاتق الشركة الخاصة في النظام السابق، وهذا ما لا يمكن للخزينة تحمله اليوم.
اما النظام الحالي للمرفأ فيعود إلى أوائل التسعينات، حينما تخلصت الدولة من الشركة الخاصة واستبدلتها بـ”اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت” التي تم إعفاؤها من تدقيق ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي وإدارة المناقصات بحجة أنها ليست مؤسسة عامة. ومُنِحَت اللجنة صلاحيات ونظاماً مالياً مشابهاً للشركة الخاصة التي كانت تدير المرفأ قبلها، ولكنها عملت من دون ضوابط السوق الذي يحكم عمل الشركات. فالشركة الخاصة التي تستثمر أموالها في مشروع غير مجدٍ تتكبد الخسارة وتدفعها من مالها، أما اللجنة المؤقتة، فلا تخاطر بأموالها الخاصة ولا تتحمل تبعات قراراتها، لان خزينة الدولة هي التي تدفع. وأعطى هذا النظام سلطة مطلقة على المرفأ للقوى السياسية التي تعين اعضاء اللجنة المؤقتة المعفاة من معظم الضوابط.
لقد جاء الانفجار من مرفأ بيروت المعروف بسوء إدارته وتفشي الفساد والمحسوبيات فيه وتفلته من الضوابط. وبات من غير المقبول إبقاء طريقة إدارة المرفأ على حالها والاكتفاء بتغيير الأسماء. لقد حان الوقت لإعادة المرافئ اللبنانية إلى الشركات العالمية وفقاً لنظام البناء والتشغيل والتملك (BOO) واستخدام عائدات المزاد لتعويض ضحايا الانفجار. فلن تقدم اي شركة خاصة على تخزين مواد متفجرة مجانًا في واحدة من أغلى المناطق العقارية في لبنان من جهة، وحتى لو وقع الانفجار في مرفأ تملكه شركة خاصة، لتعين عليها تعويض الضحايا، ما يخلق لديها حافزًا كبيرا للحذر والسلامة، على عكس اللجنة المؤقتة أو أية إدارة أخرى تضعها الحكومة اللبنانية.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار