مارس حاكم #مصرف لبنان السابق رياض سلامة سياسة طبع الليرة طوال الحقبة الماضية، متسّلحاً بما يسمح له هذا الامتياز المنصوص عليه في قانون #النقد والتسليف، وذلك لتلبية حاجات السوق والمصارف، ولتغطية خسائر مكشوفة أيضاً، وأخرى غير معلومة، تحت ضغوطات سياسية مختلفة أو ربما بمعزل عنها.
لكن عملية سكّ العملة، وإن رفدت خزينة “المركزي” بالأرباح، فقد نقلت البلاد إلى ضفة الفقر بعدما قضت على معظم القوة الشرائية في لبنان.
من المعلوم أنّ قانون “النقد والتسليف” يقيّد امتياز طبع العملة المعطى لـ”المركزي” عندما يلزمه بتغطية ما لا يقلّ عن 50 في المئة من موجودات الذهب واحتياطي العملات الأجنبية. المادة 69 من القانون المذكور تنصّ على أنّه “لا يجب تحت أيّ ظرف كان أن تتجاوز الكتلة النقدية المطروحة في السوق هذا السقف من دون أن تحتسب موجودات مصرف لبنان من العملة الوطنية من ضمنها”. أكثر من ذلك، ذهب المشرّع في المادة 69 إلى ما هو ضمانة إضافية حين ألزم المصرف المركزي بضمان ودائعه تحت الطلب محسوبة مع حجم الكتلة النقدية، وتغطيتها من خلال موجوداته من الذهب والعملات الأجنبية بما نسبته 30 في المئة.
وفق خبير مصرفي، “أغلب البنوك المركزية تحقق من رسم سكّ العملة أرباحاً، باعتبارها بندَ دخل، لكن مصرف لبنان سجّل الأرباح المتوقّعة من رسوم سكّ العملة تحت بند الأصول”.
أمّا أستاذ الاقتصاد التطبيقيّ في جامعة جونز هوبكنز، الخبير في البنوك المركزية، ستيف هانك، الذي يعتبر أن “بند رسم سكّ العملة خيال محض”، فيشير إلى “أن مصرف لبنان استخدم فئة الأصول الأخرى لإخفاء الخسائر في قروض للحكومة”.
تبدّلت مقاربة مصرف لبنان للأزمة المالية وطريقة التعامل معها منذ بداية آب 2023، وأصبحت المعالجات ترتكز أكثر على نقاش تقنيّ بين المصرف المركزي والمصارف، وإن لم تتطابق وجهات النظر في عددٍ من المجالات، وفق جمعية المصارف في لبنان .
وإلى جانب إقرار المركزي بمبدأ الأزمة النظامية، وبأن الدولة هي المسؤول الأول عن الأزمة، وقد بدّدت الأموال، وعليها مسؤولية إعادتها، فإنه توقّف عن استعمال امتيازه بطبع الليرة لتغطية خسائره عبر اعتبارها خسائر مؤجّلة.
طباعة النقود بشكل يفوق حجم النمو الاقتصادي يقلّل القيمة الشرائية للعملة؛ في حال كان الناتج المحلي الإجمإلى هو مقياس إنتاج السلع والخدمات، ستعمل الشركات على زيادة الأسعار بهدف زيادة الأرباح، وبفعل زيادة طباعة النقود وتوافرها سيدفع المستهلكون مقداراً أعلى من الأموال، الأمر الذي سيحتّم حدوث التضخم، وبالتالي سيسفر بدوره عن تدهور الاقتصاد. وهذا ما حدث في لبنان.
هل أساء مصرف لبنان استعمال امتياز طباعة العملة لتغطية الخسائر أم كان مرغماً؟ ما هي القيمة التي حصّلها؟ وما نتائج ذلك؟
مارديني
رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني يؤكد على إساءة مصرف لبنان استعمال امتياز طباعة العملة لتغطية الخسائر. ويقول لـ”النهار”: “إن كمية النقد الموضوعة في التداول ارتفعت من 4 تريليونات ليرة مع بداية الأزمة في 2019 إلى نحو 80 تريليوناً في عزّها أيّ منذ سنة. وبالتالي، تضاعفت كمية التداول بالنقد 20 مرة خلال 4 سنوات. إنه السبب الرئيسي لانهيار سعر صرف الليرة، ولانتشار حالات الفقر في لبنان بعدما تراجعت مداخيل اللبنانيين التي كانت تكفي نوعاً ما لسدّ حاجاتهم الأولية قبل 5 سنوات؛ فمن كان يتقاضى زهاء 3 ملايين ليرة كراتب شهريّ (يناهز الـ2000 دولار) كان مرتاحاً نوعاً ما. أما اليوم، فالأمر مختلف إذ إن هذا الراتب يعادل الـ30 دولاراً أو أكثر بقليل.
بالتأكيد، سوء استعمال هذا الامتياز انعكس انهياراً في القدرة الشرائيّة، وأنتج الفقر المدقع لدى شريحة واسعة من اللبنانيين”.
ويلفت مارديني إلى أن “المركزي” حقق الأرباح من طبع الليرة على حساب الشعب اللبناني الذي يحمل هذا النقد ويتداول به. وبالتالي، زيادة كمية التداول لنفس حجم الإنتاج في البلد تنعكس تراجعاً في القدرة الشرائية لدى المستهلك أي المواطن بنفس المقدار. وتنتقل القدرة الشرائية من المواطن إلى الجهة التي تطبع العملة، أي مصرف لبنان، الذي يحوّلها إلى الحكومة عندما يقرضها. عندما يسمح هذا الأخير بأن يصل الدولار إلى سعر يناهز الـ90 ألف ليرة بعدما كان 1500 ليرة، فهذا يعني أنه ربح 98 %، أو على الأصحّ أن 98% من القدرة الشرائية لدى المواطن اللبناني تمّ الاستحواذ عليها من خلال انهيار سعر صرف الليرة. وهذه الأموال ذهب جزء منها لتغطية التزامات “المركزي” تجاه المصارف اللبنانية وبالليرة اللبنانية، علماً بأن الاستدانة تمّت بالدولار، والجزء الآخر تمّ إقراضه إلى الحكومة لتغطية النفقات العامة”.
من المعروف أن الدولرة في لبنان ليست ظاهرة جديدة، بل هي عملية كان مفادها دائماً استبدال الليرة كأصل يحفظ القيمة بعملة أخرى، وبدرجة أقلّ كانت استبدالاً لليرة كوسيلة للتبادل التجاري. وهناك أمور سهّلت حصول «الدولرة»، مثل التدفقات المالية من الخارج، سواء من المغتربين أو من المودعين الأجانب، بالإضافة إلى أن الاقتصاد اللبناني مفتوح، أي أن حساب رأس المال فيه محرَّر، كما أن عملية التحويل من الليرة إلى الدولار لم تكن مكلفة.
البعض يرى أنه مع «الدولرة» الشاملة فقد المصرف المركزي دوره كمموّل أساسي للاقتصاد، كما فقد فاعلية أدواته النقدية، التي يمكن من خلالها أن يحفّز السوق، وأن يحقق أهداف معدلات التوظيف التي يضعها كل سنة. وهو يفقد ورقته الأقوى المرتبطة بأرباح طبع العملة (Seigniorage).
فهل الاعتماد على الدولرة الذي بدأ يتوسع قلّص من الطباعة؟
ما هو الواقع اليوم مع الحاكم بالإنابة وسيم #منصوري؟
برأي مارديني، تمّ تقليص حجم طباعة الليرة مع استلام نائب الحاكم الدكتور وسيم منصوري زمام الأمور، وهذا بمعزل عن توسع الدولرة، حيث تراجعت الطباعة من الرقم 83 تريليوناً إلى نحو 60 تريليوناً اليوم.
لقد سحب مصرف لبنان جزءاً من العملة الوطنية من التداول، مما انعكس استقراراً في سعر الليرة؛ وهذا إجراء جيّد.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن انتشار الدولرة هو نتيجة التمادي في طبع الليرة لا سبب لها. فعندما ينشط سكّ العملة الوطنية ينصرف حاملوها إلى شراء الدولار. ومع انهيار العملة الوطنية يتهافت الأفراد على شراء الدولار لغياب الثقة.
ويعود تقليص الطباعة إلى قرار “المركزي” بضبط سعر الصرف وليس بالدولرة. وعدم الطبع يُفضي إلى نوع من الاستقرار، ويسمح للشركات بالعمل بشكل طبيعيّ، وبالتالي للأفراد بتقاضي رواتبهم من دون أيّ اقتطاع من ضريبة التضخّم”.
سياسة نقديّة استنسابية
تعتبر السياسة النقدية للدول، والتي تقع على عاتق البنوك المركزية، من أبرز أدوات ضبط إيقاع واستقرار الوضع الاقتصادي للدولة.
وعملية طباعة البنكنوت (Banknote) تخضع لمعادلات وقوانين علمية، ولا تتمّ بشكل عشوائيّ أو بقرارات ارتجالية بفعل ضغوط سياسية، أو من قبل مَن يفتقرون إلى الخبرات الكافية في علم الاقتصاد، خصوصاً في حالة عدم الالتزام بغطاء الذهب أو غطاء الدولار. وفي الحالة الأكثر اعتماداً، وهي الطباعة بكميات كبيرة، من دون التقيّد بالحدود، تكون النتيجة الحتميّة زيادة الأسعار وانخفاض القيمة الشرائية للعملة، ونشوء الخضّات وعدم الثقة في داخل الأسواق. أمّا في حال الالتزام بسياسة التساوي بين الغطاء ونسبة الإصدار، وفقاً للناتج المحليّ، فتكون الأوضاع أفضل.
كيف تعاطى مصرف لبنان مع هذا الامتياز الممنوح له في قانون النقد والتسليف؟
يعتبر مارديني أن “قانون النقد والتسليف منح هذا الامتياز لمصرف لبنان، وهو أحد البنود الواجب تعديلها بما يمنع هذا الأخير من التصرّف بالكتلة النقدية بشكل استنسابيّ. ومن المفترض الانتقال من سياسة نقدية استنسابية Discretionary Monetary Policy إلى سياسة نقدية مبنية على قواعد Rules-Based Monetary Policy
وهناك عدة قواعد:
– بعض البلدان يطبع العملة بحجم النمو، فلا تتم زيادة حجم النقد بالتداول إلا بمقدار النمو الاقتصادي؛ فإذا كان هناك نمو اقتصادي وسكانيّ فلا شكّ في أن عرض السلع والخدمات سيزداد بشكل عام، ممّا يسمح بزيادة المال لتلبية هذه الاحتياجات وتجنّب الضغوطات الانكماشيّة.
– وهناك من يتابع حجم التضخم فيلجأ إلى تخفيض التداول بالعملة الوطنية في حال لمس وجود أيّ تضخّم، ممّا يؤدّي إلى الاستقرار في الأسعار.
– وثمّة قاعدة أخرى دافعنا عنها منذ بداية الأزمة وهي إنشاء مجلس نقد يكفل تحقيق الاستقرار. إنّ مجلس النّقد يستند بطباعة الليرة إلى حجم الدولار في الاحتياطي، حيث تؤخذ العملة غير المحليّة -على سبيل المثال- الدولار الأميركي أو اليورو كعملة أساسية، ويتمّ تثبيت سعر الصرف بين العملة المحلية وهذه العملة الأساسية عند سعر معيّن. وهذا يتطلّب من البنك المركزي التوقف عن طباعة العملة الوطنية والتركيز على التأكد من أن الليرة اللبنانية الموجودة بالفعل في السوق مدعومة بالكامل، وبنسبة 100% بالدولار الأميركي”.
أما بعد، فبالتأكيد أن السياسة النقديّة في لبنان بحاجة إلى هندسات ذكيّة مجرّدة من أيّ تدخّلات سياسية ترسم الحلول الجريئة والكفيلة بالنهوض بالاقتصاد الوطني.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار