للمرة الأولى منذ أكثر من 15 سنة، انخفض سعر برميل النفط إلى ما دون 30 دولاراً بعد أن كان قد تخطى سقف الـ60 دولاراً في مطلع هذه السنة. هذا الانخفاض جاء لمصلحة قطاع الكهرباء في لبنان الذي يعتمد على المشتقات النفطية لتشغيل معامل الطاقة، إذ لطالما اتخذت مؤسسة كهرباء لبنان ارتفاع أسعار النفط ذريعة لتبرير خسائرها، بما أن تسعيرة الكهرباء وُضعت على أساس سعر الـ 20 دولاراً لبرميل النفط في العام 1994. ولكن اقتراب سعر النفط من مستويات العام 1994، يجعل من هذا التبرير غير ذي قيمة، بما سيسمح لها عملياً بتغطية معظم نفقات الكهرباء من فواتير المواطنين دون الحاجة إلى المعونة السنوية التي تقدّمها الخزينة، والتي تسبّبت حتى اليوم في نحو نصف الدين العام.
ليس جديداً القول إن وضع قطاع الكهرباء مزرٍ لدرجةٍ تجعل الدولة مستمرة في تكبد الخسائر حتى لو انخفض سعر برميل النفط إلى دولار واحد. إذ يؤكد رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني، أن “فواتير الكهرباء بالكاد تغطي الكلفة التشغيلية التي تضم الموظفين والمتعاقدين والمستشارين ومقدمي الخدمات وغيرهم، في حين تعجز المؤسسة عن تأمين التمويل الضروري لزيادة الاستثمارات أو حتى لشراء حاجتها من الفيول. وهنا يكمن جوهر خسائر قطاع الكهرباء، أي ارتفاع نفقات مؤسسة كهرباء لبنان وتدني مداخيلها، وهو أمر رفض جميع وزراء الطاقة المتعاقبين معالجته وانشغلوا باستقدام السفن والتشاجر على دفاتر شروط لتلزيم المعامل، فيما كان من الأجدى لهم تعيين مجلس إدارة يراجع الصفقات والعقود والاستخدام والتوظيف من أجل ضبط النفقات التشغيلية وتحسين إنتاجية المؤسسات، وتغيير التعرفة الثابتة إلى أخرى متغيرة ترتفع بارتفاع النفط وتنخفض بانخفاضه”.
وعلى الرغم من هذا الوضع، يستغرب مارديني كيف أن الوزارة “لا تزال منشغلة بالصفقات العمومية في ظل نفاد المال من خزينة الدولة ومن المصارف اللبنانية التي كانت تقرض الخزينة. فقد ورث الوزير الحالي من سلفه دفتر شروط تعجيزياً لتلزيم معامل الكهرباء بشهادة شركة “فيشتنر” وإدارة المناقصات والمهتمين بالاستثمار في قطاع الطاقة، ويهدف دفتر الشروط التعجيزي إلى إفشال قانون الـBOT رقم 129 الذي أقره مجلس النواب في العام 2019 عبر فرض حلّ موقت وتقنية معينة على العارضين… إذ بدل تعديل دفتر الشروط والتخلي عن الحل الموقت والشروط التعجيزية الأخرى والأخذ بملاحظات إدارة المناقصات، قررت الوزارة الرجوع عن القانون 129 الذي كان سيسمح للقطاع الخاص بتحمل كلفة بناء المعامل الجديدة وتشغيلها وبيع الكهرباء بسعر أدنى من تكلفة كهرباء لبنان. وحاولت الوزارة إقناع النواب أن سبب تخليها عن الـBOT يعود إلى وضع الدولة المالي، لتتفادى الاعتراف بصحة ملاحظات إدارة المناقصات على دفتر الشروط”.
والمعلوم، وفق ما يقول مارديني، أن “وزير الطاقة حاول تسويق حلّ الهندسة والشراء والبناء والتمويل Engineering Procurement Construction and Financing (EPCF) بحيث تدفع الدولة تكلفة بناء المعامل من خلال قروض يساعد العارضون بتأمينها. وأكدت الوزارة أنها لن تلجأ إلى مناقصة، بل ستبحث عن اتفاق بالتراضي من دولة إلى أخرى. وقد سوّقت مصادرها أن فرنسا وألمانيا تتنافسان لإعطاء قرض للحكومة اللبنانية يسمح لها بتلزيم بناء المعامل لشركتَي “توتال” و”كهرباء فرنسا” مع احتمال انضمام شركة “جي إي” في حالة فرنسا و”سمينز” في حالة ألمانيا. ولكن سرعان ما تراجعت الوزارة عن تفاؤلها مع تسريب معلومات عن عدم رغبة فرنسا وألمانيا في إعطاء المزيد من القروض للدولة اللبنانية في ظل غياب الإصلاحات الجدية التي تضمن سدادها لهذه القروض في المستقبل. ومن هنا طرحت بعض الجهات التفاوض مع الحكومة الصينية.
ليس مستغرباً القول إن ثمة خطراً حقيقياً من إصرار الوزارة على “تحميل الخزينة كلفة بناء المعامل بما يسبب في زيادة الدين العام، وكأن الدولة لا تعاني من أزمة سداد ديون ولا تتجه إلى “قصّ شعر” أموال المودعين في المصارف لتغطية ديونها”، وفي هذا الإطار يستند مارديني إلى “تجارب البلاد الآسيوية والأفريقية مع الصين لم تكن مشجعة”. فقد وافقت الصين مثلاً على إعطاء القروض للحكومة السريلانكية بعد إجراء اتفاق بالتراضي من دولة إلى أخرى لبناء مرفأ، واشترطت تلزيمه لشركات صينية لقاء مبلغ خيالي رجّح بعض المحللين تضمنه عمولات كبيرة لعرّابي الاتفاق. وكانت دراسات الجدوى أكدت أن مداخيل المرفأ، بعد تشغيله، لن تستطيع تغطية تكلفة القروض الصينية، ما يشبه إلى حد كبير وضع الكهرباء في لبنان اليوم. وبعد التنفيذ، اكتشف المسؤولون السريلانكيون عجز الدولة عن الدفع، فأصرّت الصين على مصادرة المرفأ بالإضافة إلى 6300 هكتار من الأراضي المحيطة به لمدة 99 عاماً. وأعفت هذه المصادرة سريلانكا من ديون تقارب المليار دولار، ولكن البلاد أصبحت أكثر مديونية للصين من أي وقت مضى بسبب تراكم الفوائد”.
أمام ما تقدم، يصرّ مارديني على أن “حلّ أزمة الكهرباء يبدأ من الداخل، ونحن اليوم أمام فرصة تاريخية جراء انخفاض أسعار النفط العالمية التي قد لا تتكرر في المستقبل، وعلى الحكومة أن تضغط على وزير الطاقة، الخبير في تسعير الكهرباء، لينقل لبنان إلى مرحلة المعادلة المتغيرة لسعر الكهرباء بما يتوافق مع توصيات البنك الدولي والدول المانحة. ومن المرجح أن يتم هذا الانتقال بشكل سلس بسبب انخفاض أسعار النفط، فتكون الحكومة الحالية قد أنجزت أهم عملية إصلاح في تاريخ الكهرباء في لبنان دون أن ترهن نفسها للخارج. كما يمكن أن يترافق تعديل صيغة التسعير في كهرباء لبنان مع تحرير التعرفة خارج إطار المؤسسة، وفتح سوق الكهرباء للمنافسة دون التدخل في نوع الفيول أو فرض حلول موقتة. وتسمح هذه الإصلاحات بدخول مستثمرين محليين وبناء معمل كهرباء على نفقتهم، ما يريح الدولة من منّة القروض الإضافية ويحفّز كهرباء لبنان على القيام بإصلاحاتها البنيويّة التي ستخفّف كلفة إنتاجها وتجعلها أكثر تنافسية”.
ومع انخفاض سعر برميل النفط إلى ما دون الـ30 دولاراً، تبرز فرصة العمر لإصلاح قطاع الكهرباء دون الحاجة إلى رهن البلاد للدول الأجنبية مثل الصين وغيرها، والتي بحسب مارديني “لن ترحم لبنان عندما تستحق ديونها. فالحكومة تواجه اليوم صعوبة في الوصول إلى اتفاق على إعادة هيكلة الديون مع “أشمور” و”فيدلتي”، علماً أن هذه الشركات لا تمتلك جيوشاً ولا استخبارات ولا قدرة على الرشوة. أما الدول، فقد تشترط تبادل المعلومات الاستخباراتية وتصرّ على إبقاء هذا البند قيد الكتمان، كما قد تتدخل في الانتخابات لحماية مصالحها الاقتصادية، ولبنان في غنى عنه”.