كانت خطوة حاكم المصرف المركزي رياض سلامة المتمثلة بإعلانه الرفع النهائي للدعم، بمثابة زلزال أيقظ الطبقة السياسية من “وضعية اليوغا” والطمأنينة العميقة. هي التي لم يهزها انفجار مرفأ بيروت حتى. وأكثر الأطراف السياسية توجساً من إعلان سلامة، كانت رئاسة الجمهورية والسرايا الحكومي، لخوفهما من خروج الوضع الاقتصادي-المعيشي تماماً عن السيطرة في “العهد القوي” فيما تزداد أحوال اللبنانيين سوءاً بشكل دراماتيكي. ذلك أنه، حتى الآن، ليست هناك حلول –ولو تضميدية- رادعة للانفجار الاجتماعي، كالبطاقة التمويلية الموعودة، التي تدور منذ إقرارها “من هالك لمالك لقباض الأرواح”، كون تمويلها غير “مؤكد” بعد ومن “كيسك يا مواطن”!.
والكباش الدائر بين فريق العهد المتمثل بالتيار الوطني الحر وفريق سلامة المتمثل برؤساء الحكومات السابقين وعلى رأسهم الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، يجعل منسوب الأوراق الإبتزازية يزداد بين الطرفين، من بلاغ البحث والتحري بحق سلامة الصادر عن قاضية القصر غادة عون، إلى عدم دخول البطاقة التمويلية حيز التنفيذ بعد، والإستمرار بسياسة الدعم على الرغم من المس بالاحتياطي الإلزامي للمركزي، ويصبح تشكيل الحكومة منوطاً بمن يلوي ذراع الآخر، فيما “التصفيات النهائية”، لم يحن موعدها.
وفيما تملأ الأطراف السياسية الوقت الضائع في ظل غياب تسوية خارجية للأزمة السياسية، بسياسة شد الحبال على رقاب اللبنانيين، بات ترشيد الدعم حاجة ملحة بل وحتمية في ظل استنزاف دولارات المصرف المركزي. فلمن سترجح كفة الكباش الحاصل؟ وهل تبصر البطاقة التمويلية النور، أم يسبقها الإنفجار الكبير؟
البطاقة “الرشوة” من كيس المواطن
وفي الأساس، كان اقتراح البطاقة التمويلية لحماية احتياطي مصرف لبنان، والدعم المباشر للعائلات الفقيرة بعدما أثبتت سياسة الدعم فشلها سواء لناحية التهريب أو الاحتكار. لكن وسواء تمّ الإبقاء على سياسة الدعم، أو اعتماد البطاقة التمويلية الأشبه برشوة انتخابية على أبواب الانتخابات النيابية، فإن احتياطي مصرف لبنان هو المصدر الوحيد لتمويل كليهما، وهو تمويل من جيوب المودعين الذين أصبحوا فقراء بفعل المنظومة الحاكمة، وهي سرقة موصوفة للبنانيين، مع “تربيح جميل”!
وفيما أنفاس اللبنانيين تتسارع خوفاً وقهراً وذلاً قبل أشهر من الرفع الكلي للدعم عن حاجاتهم الأساسية، يتلهى المفاوضون على تشكيل الحكومة، بـ “الجهة” التي ستؤول إليها وزارة الشؤون الاجتماعية في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي-إن شُكّلت- بعدما باتت وزارة الشؤون المصدر الوحيد لاستقبال الأموال المفترض تخصيصها لدعم الشعب اللبناني، هذا إن أتت…
مصادر التمويل: سجّل على لوح الثلج!
وبعد أن أقر المجلس النيابي قانون البطاقة التمويلية في حزيران الماضي، لمساعدة حوالي 750 ألف أسرة لبنانية (75% من اللبنانيين) بمبلغ شهري يتراوح بين 93 و127 دولاراً، ترك على عاتق الحكومة تمويل البطاقة بقيمة 566 مليون دولار “من قروض البنك الدولي المخصصة لمشاريع غير منجزة”، فيما تعهدت الحكومة بتنفيذ برنامج ترشيد الدعم. وها هي تماطل اليوم برفع الدعم ولا تنجز البطاقة التمويلية، هي التي أبقت على دعم المحروقات، ولو بوتيرة أخف.
فبعد أن كان الدعم على المحروقات وفق دولار الـ 3900 ليرة، انخفض ليصبح وفق دولار الـ 8000 آلاف ليرة، ما يتطلب تمويلاً بقيمة 225 مليون دولار، أي نصف قيمة البطاقة التمويلية. وفيما يسير سلامة –مكرهاً- بالتمويل بعد إعلانه رفضه الاستمرار بالدعم، يُخشى أن يستمر تمويل دعم المحروقات من تحويلات اللبنانيين عبر شركات التحويلات المالية، كأن تصرف المبالغ المحولة جزئياً أو كلياً، بالليرة اللبنانية وفق دولار السوق، أو وفق تسعيرة يحددها مصرف لبنان.
كل هذه يعني أن البطاقة التمويلية لن تبصر النور قريباً، وأن أحد أسباب عدم الشروع بتنفيذها، غياب التأكيد على التمويل! فيما لن تجرؤ أي جهة سياسية على تحمل تبعات رفع الدعم قبل السير بالبطاقة التمويلية، حتى لو من جيوب اللبنانيين، أي احتياطي مصرف لبنان!
بدورها، تنفي السلطة المس باحتياطي المصرف، وتروج لمصدرين خارجيين لتمويل البطاقة، والأول هو قروض البنك الدولي غير المنجزة (246 مليون دولار)، لكن تحويل قسم منها لصالح البطاقة التمويلية يحتاج لموافقة البنك الدولي. والثاني، هو مستحقات لبنان لدى صندوق النقد الدولي(900 مليون دولار)، والتي يجب أن تصرف على أمور طارئة وملحة. لكن تعذر التمويل الخارجي يبدو سيد الموقف، والحديث عنه حتى اللحظة أشبه بوعود محفورة على “لوح ثلج”، طالما أن “لا ثقة” بالمنظومة اللبنانية!
المجتمع الدولي: لا ثقة
فحتى الآن، لم تبصر الحكومة الجديدة النور لتدخل في مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، أما البنك الدولي الذي أسقط مشروع سد بسري، فلن يفرط بقروضه التي لم تنفذها السلطات اللبنانية بعد، سيما وأن تمويل البطاقة التمويلية قبل أشهر من الانتخابات النيابية، يعتبر تعويماً مجانياً للطبقة السياسية، وهو ما لن يقدمه المجتمع الدولي لهذه الطبقة بالمجان، هو الذي يمعن في تحذيرها من العقوبات على فسادها وأدائها السياسي.
أكثر من ذلك، وبعد انفجار مرفأ بيروت،الذي يرقى لمستوى جريمة قتل بالقصد الإحتمالي، لم تأتِ المساعدات الخارجية للبنانيين عبر الدولة اللبنانية، بل عبر جمعيات أهلية ودعم مباشر وبقي تمويل مؤسسة الجيش اللبناني، الدعم شبه الوحيد للبنان “الدولة”.
غياب الثقة هذا يترافق مع وجود حكومة تصريف أعمال من المفترض أن تعد جداول العائلات الفقيرة للبطاقة التمويلية، وهي حكومة لن تقوم بتحمل تبعات رفع الدعم، ورئيسها صدرت اليوم بحقه مذكرة إحضار في قضية انفجار المرفأ، وهي عاجزة عن اتخاذ القرار السياسي.
قيومجيان: جريمة أخلاقية!
وفي حديث لـ”التحري”، يقول وزير الشؤون الاجتماعية السابق ريشار قيومجيان عن الخشية من تمويل البطاقة من احتياطي المصرف المركزي “هذا أمر غير مسموح به لا قانونياً ولا أخلاقياً، وأقصى شيء يمكن فعله في حال انعدام التمويل، هو رد أموال الناس إليهم، فالاحتياطي هو أموال الناس المحجوزة في البنوك!”. في المقابل، يشدد على أنه “يجب البحث عن مصادر أخرى للتمويل”.
وفي ظل تعذر التمويل عبر الخزينة اللبنانية كما يجري عادة في كل دول العالم التي تهتم بالطبقات الأكثر فقراً، لأن الخزينة مفلسة، يشير قيومجيان إلى مصادر التمويل الأخرى. أي قرض البنك الدولي البالغ 246 مليون دولار، والذي “يؤمل أن يصرف ضمن برنامج العائلات الأكثر فقراً، ما يخفف الوطأة على البطاقة التمويلية لتستهدف بدورها العائلات الفقيرة”. و”حقوق السحوبات الخاصة للبنان من صندوق النقد الدولي، والتي استحقت في 23 آب الحالي، ومن شروط صندوق النقد استعمالها لضرورات قصوى، ما يتيح للبنان أن يمول عبرها شبكة الأمان الاجتماعي”.
لطرف ثالث محايد!
ومع أن قيومجيان مطمئن لناحية توفر التمويل الخارجي، لكنه متخوف من آلية التنفيذ. إذ كان لافتاً كيف فجأة “حليت وزارة الشؤون بعيون الكل”.
وهو إذ يخشى أن “تتحول البطاقة التمويلية إلى بطاقة انتخابية فئوية مصلحية، وتوزع على المحسوبين على الأحزاب وأزلامهم”، يلفت إلى أن “عدة فرقاء يؤثرون فيها وهم مجلس الوزراء ووزارة الشؤون الاجتماعية ووزارة المالية”، داعياً إلى إشراك “طرف ثالث محايد كالبنك الدولي أو منظمة الغذاء العالمية، سواء في عملية توزيع البطاقة أو حتى مراقبة تعبئة الاستمارات خوفاً من عدم اعتمادها معايير شفافة وعلمية. فلا تصل البطاقة لمستحقيها من الشعب”.
سياسة الدعم الفاشلة: احتكار وتهريب
بدوره، يرى الخبير الاقتصادي باتريك مارديني في حديثه مع “التحري” أن الدعم بشكله الحالي أثبت فشله الذريع “فكل المواد المدعومة قطعت من الأسواق والناس تنتظر بالطوابير للحصول عليها”، وسياسة الدعم “قطعت السلع من السوق ولم تخدم الفقير، لا بل رمته في نيران الشراء من السوق السوداء”.
ويشدد مارديني على أن البطاقة التمويلية أفضل بكثير من سياسة الدعم الحالية، بشرط أن تترافق مع الرفع الكامل للدعم كونها بديلة عنه. وتكمن فائدتها أنها “تكلفنا في السنة 566 مليون دولار بينما الدعم الحالي يصل إلى 7 مليارات سنويا، أي أنها أقل كلفة بكثير”. عدا عن أن اموال البطاقة “تصل للناس مباشرة، بينما الدعم لم يستفد منه الناس بقدر المهربين وتجار السوق السوداء والمحتكرين”.
وعن عدم تنفيذ آليات البطاقة حتى يومنا هذا، يرى مارديني “تأخيراً متعمداً للإبقاء على سياسة الدعم. فمعظم الأحزاب السياسية تستفيد من التهريب بمبالغ طائلة ولا يناسبها رفع الدعم الذي يؤدي إلى وقف التهريب وعودة البضاعة المفقودة الى السوق”.
المس بالاحتياطي… مزيد من انهيار الليرة!
وعن تمويل البطاقة، يلفت إلى ضرورة التمويل الخارجي تفادياً للمس بالإحتياطي الإلزامي لمصرف لبنان، “لضمان الحفاظ على استقرار الليرة، فتمويل البطاقة من احتياطي الدولار مصرف لبنان، يؤدي إلى تدهور سعر الصرف، وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين بشكل قياسي”.
ولا ينكر مارديني أنه بمجرد دخول وزارة الشؤون في آلية تحديد العائلات التي ستطالها البطاقة التمويلية “نكون دخلنا في الزبائنية، فكيف إذا كنا على أبواب الانتخابات؟”. لكن وفي بلد 50-60% من شعبه باتوا تحت خط الفقر، “تبقى الزبائنية في البطاقة التمويلية أخف وطأة من زبائنية استمرار الدعم نسبة لضعف تمويل البطاقة مقارنة بتمويل استمرار الدعم”.
في المحصلة، تشتري الطبقة السياسية الوقت الضائع لضمان استمرارها، وتموله من احتياطي مصرف لبنان، هي العالمة أن لا تمويل خارجياً للبنان قبل تشكيل حكومة تباشر بالإصلاحات والمفاوضات مع صندوق النقد، وهي حكومة من الصعب انبثاقها عن مجلس نيابي يمنع رفع الحصانات عن نواب مستدعين في قضية انفجار المرفأ، فمن لا يأبه بقتل مواطنيه وتدمير مدينتهم، لن يأبه بالمزيد من الدمار والقتل والتجويع!
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع التحري