يؤدّي الاقتصاد النقدي إلى انتشار عمليّات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتزوير العملة، نتيجة السحوبات والإيداعات النقدية الكبيرة التي تتم “بالشنطة” دون مراقبة مصرفيّة وامتثال لنظام “إعرف عميلك”، أو إداريّة، بالتوازي مع التحويلات الصادرة والواردة، مع اعتماد التجار على النقد الورقي في تعاملاتهم.
كتبت باولا عطية لـ “هنا لبنان”:
يشهد لبنان منذ العام 2019 ومع اشتداد الأزمة الاقتصاديّة، نقلة في طبيعة اقتصاده الذي بدأ يتحوّل من اقتصاد مُراقب ومُنظّم دولياً يلحق القواعد العالمية، إلى اقتصاد نقدي عشوائي ويشكّل خطراً على المدى المتوسط والبعيد.
فهذا التحوّل الذي ينخر النظام المالي في لبنان، يحوّله من نظام مالي ومصرفي يحترم كل الاتفاقات الدولية ويلتزم المعايير المالية والمحاسبية الدولية ومراقب من الجهات المالية المسؤولة دولياً، إلى اقتصاد قائم على “الكاش” يثير قلق المصارف التجارية والمركزية الأجنبية والمصارف الأجنبية المراسلة.
فالـ “cash economy” يؤدّي إلى انتشار عمليّات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وتزوير العملة، نتيجة السحوبات والإيداعات النقدية الكبيرة التي تتم “بالشنطة” دون مراقبة مصرفيّة وامتثال لنظام “إعرف عميلك”، أو إداريّة، بالتوازي مع التحويلات الصادرة والواردة، مع اعتماد التجار على النقد الورقي في تعاملاتهم. وبالتالي يستحيل تنظيم هذا الاقتصاد أو مراقبته، داخلياً، إقليمياً أو حتى دولياً.
ولذلك تحارب الدول المتقدّمة هذا النظام الذي لا يخضع للرقابة ويمكن استعماله لأهداف مجهولة، هاربة من التبادل عبر النقد وحاصرة جميع عمليات التبادل المالي بالمصارف.
والأسباب التي دفعت لبنان بالاتجاه نحو الاقتصاد الكاش تعود إلى الحملات على القطاع المصرفي والمحاولات المستمرّة والممنهجة لضرب هذا القطاع وتحميله مسؤولية الأزمة، ما أفقد اللبنانيين الثقة بالقطاع وبالدولة من جهة، وتوجه مصرف لبنان نحو طباعة المزيد من العملة، من جهة أخرى، لكونه مجبراً بموجب قانون النقد والتسليف بسدّ الفجوة المالية في موازنة الدولة، ولا سيما في تمويل العجز. فالحكومة تحتاج شهرياً إلى أكثر من ألف و300 مليار ليرة لسداد بند الرواتب والأجور لموظفي القطاع العام، ودفع خدمة الدين بالليرة.
وهو ما يؤدّي إلى ارتفاع نسب التضخّم، فبحسب تقرير البنك الدولي الفصلي الصادر في عام 2021، والذي حمل عنوان “لبنان يغرق”، فإن الأثر التراكمي لكل زيادة بنسبة 1 في المئة في النقد في التداول على التضخم، هو في حدود 1.29 في المئة. أي أن زيادة العملة المتداولة بنسبة 100 في المئة تؤدي إلى زيادة الأسعار بنسبة 129 في المئة سنوياً، أي بمتوسط يبلغ حوالي 10.75 في المئة شهرياً.
وعلى الرغم من أنّ لبنان عضو فاعل في المنظمة الإقليمية لمجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (MENA FATF) وكان من السباقين إلى إقرار الاجراءات القانونية والتنفيذية المحلية والعالمية لضبط عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وتنفيذها في النظام المصرفي اللبناني وباقي المؤسسات المعنية. إلّا أنّ رقعة الاقتصاد النقدي تزداد يوماً بعد يوم، وتتوغّل في نظامنا المالي منذرة بمخاطر لا تحمد عقباها.
انهيار العملة من أهم أسباب التوجه للاقتصاد النقدي
وفي هذا الإطار يقول الخبير المالي بهيج الخطيب في حديث خاص لموقع “هنا لبنان”، إنّ “استخدام العملات الورقيّة أو الكاش ينطوي على مخاطر عديدة. فمن المعروف أنّه تاريخيّا سعت الدولة إلى الاتجاه نحو التداول بالعملات الإلكترونيّة، وبطاقات الائتمان. كما أنّ الكثير من المواطنين في الدول المتقدّمة يستخدمون هذه الأخيرة في أصغر العمليات النقديّة التي تتمّ بينهم وبين الغير”.
ولفت الخطيب إلى أنّه “وبسبب انهيار العملة اللبنانيّة والشلل الذي أصاب القطاع المصرفي، أجبر البعض على الاتجاه نحو الاقتصاد الكاش أو النقدي، أيّ تسديد المعاملات والاحتفاظ بالأموال بشكلها النقدي”.
ما مخاطر الاقتصاد النقدي؟
وعن مخاطر الاقتصاد النقدي ذكر “عمليات السرقة، والنشل، والسطو المسلّح وغير المسلّح، الاحتيال والتزوير، ما يعرّض حياة الأفراد للخطر، إلى جانب تزايد مخاطر تبييض الاموال. فكما هو معروف فإنّ المنظّمة العالميّة لمكافحة تبييض الأموال (FAT) تفرض على الدول الالتزام بمعايير معيّنة، وعددها 40 توصية لتعدّ الدولة ملتزمة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهذا الأمر يساعد على بسط قوى الأمن سلطتها ومكافحتها لما سبق”.
ورأى الخطيب، أنّه “كلمّا اتجهنا نحو الاقتصاد النقدي، تفلّتنا من القيود التي تفرضها منظمة (FAT)، ما يؤدّي إلى تفلّت البلد من التوصيات”، مشيراً إلى “أننا أصبحنا نحمل الأموال “بالشوالات” لدفع فواتير بسيطة نتيجة تراجع قيمة العملة اللبنانيّة مقابل الدولار. وبالتالي قد يتمّ وضع لبنان على قائمة الدول ضمن “المنطقة الرماديّة”، وهو المتوقّع حصوله في الأشهر المقبلة”.
لبنان في المنطقة السوداء؟
وأضاف “إذا استمرينا في اتجاه الاقتصاد الكاش، سيتمّ وضع لبنان فيما بعد في “المنطقة السوداء” أي على قائمة الدول غير المتعاونة في مجال مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. ما قد يؤذي لبنان ويعرّضه إلى عقوبات إقتصاديّة ودوليّة. وسيؤدّي إلى تنامي وتعاظم عصابات السطو المسلّح، والمنظمات الإرهابية، وحتى المنظّمات السياسيّة والدينيّة الإرهابية. وهنا سيتفلّت الوضع الأمني من كلّ الضوابط وستضعف الأنظمة التي تساعد على كشف هذه العصابات ومحاربتها. ما يؤدّي إلى زعزعة أمن البلاد، ويضعف هيبة الدولة، ويزيد من المخاطر الاجتماعية”.
الاقتصاد الكاش يفقد الجهات الخارجيّة الثقة بلبنان
من جهته لفت الخبير الاقتصادي باتريك مارديني في حديثه لموقع “هنا لبنان” إلى أنّ “خطورة الاقتصاد الكاش تكمن بأنّه يساهم في رفع مستويات التهرّب الضريبي، فمن يدفع بالكاش لن يصرّح عن معاملاته، رواتب موظفيه، مبيعاته، إلخ.. ما يسمح له بتسجيل أرقام غير واقعيّة لدى الجمارك، ويؤدي إلى تراجع إيرادات الحكومة من الضرائب، ويعزّز الاقتصاد غير الشرعي”.
كما أنّ الاقتصاد الكاش بحسب، مارديني، يحفّز الأعمال غير الشرعيّة، من تبييض وغسيل أموال، فمن حقّق أرباحاً وأموالاً طائلة من طرق غير شرعيّة، أو أعمال إرهابية، يستطيع صرف أمواله بالدفع نقداً، من دون الخضوع للنظام المصرفي أو المالي القائم”.
ويختم مارديني “يصعّب الاقتصاد الكاش عمليّة الإقراض للطبقة الفقيرة والوسطى، كما أنّه يعطّل عمل القطاع المصرفي، حيث يشجع الأفراد على عدم وضع أموالهم في المصارف، ما يضرب الدورة الاقتصاديّة والاستثمارات، ويعرّض لبنان لمخاطر مصرفيّة وعزلة دوليّة. فيصبح هناك خوف بالتعاطي مع لبنان من قبل المصارف المراسلة، حيث ستتكبّد هذه الجهّات تكاليف أكبر للتأكّد من أنّ مصدر الأموال نظيف، ما سيخفف التعاملات مع لبنان، وينعكس على تصنيفه رمادياً”، مشدداً على أنّ “الدعاوى على المصارف أيضاً تأخذ لبنان باتجاه العزلة، وتفقد الجهات الخارجيّة الثقة بالتعامل معه، وتفسح المجال أكثر فأكثر أمام تغلغل الإقتصاد الكاش أكثر في النظام المالي، وبالتالي انحدار علاقة لبنان مع الدول الخارجيّة والمصارف المراسلة”.