يوم الاثنين 31 تموز/ يوليو 2023، غادر رياض سلامة منصب حاكم مصرف لبنان بعد ثلاثة عقود من تولّيه المهام، وهو القرار الذي كان قد أعلنه في شباط/ فبراير الفائت في خضم انتقادات واسعة له ومطالبات بإقالته لاتهامه بالوقوف خلف الانهيار الاقتصادي غير المسبوق لبلاده.
على الرغم من أنه صاحب الرقم القياسي للبقاء في منصب حاكم المصرف المركزي في أي بلد حول العالم، 30 عاماً، إلا أنه بات يوصف بشكل متزايد في السنوات الأخيرة وحتى تقاعده بأنه “أسوأ مصرفي في العالم” و”أسوأ حاكم لبنك مركزي في العالم” بل ويتهم بإدارة “أكبر عملية احتيال حكومي في التاريخ” بـ”هندسته” عملية احتيال الطبقة السياسية في بلاده على أموال المودعين والاستيلاء عليها بذريعة الإنفاق الحكومي.
من “ساحر” إلى “حرامي”
في عام 1993، قام رئيس الحكومة اللبنانية آنذاك رفيق الحريري بتعيين رياض سلامة (البالغ 73 عاماً الآن) حاكماً للمصرف المركزي في لبنان، على أن يكون قرار تعيينه قابلاً للتجديد كل ست سنوات. في سنوات ولايته الأولى، وصف بـ”الساحر” لقدرته على الاحتفاظ بالليرة اللبنانية مستقرة في بلد غير مستقر، وعزي إليه الفضل في ما عُرف حينذاك بـ”تعافي الاقتصاد اللبناني عقب الحرب الأهلية (1975 – 1990)”.
بنى الحريري وسلامة معاً اقتصاداً يعتمد على التدفقات الأجنبية الهائلة لتمويل العجز الهائل، والحفاظ على سعر صرف العملة
بنى الحريري وسلامة معاً اقتصاداً يعتمد على التدفقات الأجنبية الهائلة لتمويل العجز الهائل، والحفاظ على سعر صرف العملة لسنوات طويلة عند 1514 للدولار. في ذروة هذه السياسة، احتفظ القطاع المصرفي في لبنان بودائع تناهز قيمتها أربعة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
بدأ كل هذا في الانهيار من عام 2015، متأثراً بعدم الاستقرار الإقليمي وانهيار أسعار النفط وتبعات ذلك على التدفقات الخارجية. ولجذب ودائع جديدة، لجأ سلامة عام 2016 إلى ما عُرف بـ”الهندسة المالية” والتي بموجبها دفع مصرف لبنان أسعار فائدة أعلى من أسعار السوق لاقتراض الدولارات من البنوك التجارية، والتي عرضت بدورها معدلات فائدة سخية للمودعين.
يذكر تقرير لـ”الإيكونومست” أن هذه السياسة كانت “ناجعة” لكافة الأطراف لبعض الوقت؛ المصرف المركزي قام بتعبئة احتياطه، واستفادت المصارف وعملاؤها بأرباح جيدة. ولم تنظر الحكومة اللبنانية في أبعاد وتبعات هذه السياسة أو تفكر هي أو البرلمان في أي دور رقابي حيالها.
حتّى عندما حاول عدد محدود من المصرفيين وخبراء الاقتصاد دق ناقوس الخطر في عام 2018، لم يسمع لهم أحد، واطمأن كُثر لتصريح سلامة بأن “الليرة بألف خير”. ولم يمر سوى عام واحد لتبدأ ودائع البنوك التجارية في التقلّص، ولم تعد التدفقات الجديدة تكفي لسداد الالتزامات القديمة.
لم يعد بإمكان سلامة التظاهر بأن الأمور تسير على ما يرام بحلول كانون الأول/ ديسمبر عام 2019. حيث بدأت قيمة الليرة في التراجع بسرعة كبيرة. لم يجرؤ أحد، مع ذلك، على إقالة سلامة أو محاسبته عن تبعات سياساته الاقتصادية، نسبياً بفضل علاقاته الوثيقة مع النخب السياسية والتجارية والإعلامية في لبنان، ومع رعاة أقوياء مثل أمريكا وفرنسا.
من بين سلسلة من القرارات التي وصفت لاحقاً بأنها كارثية، تُعتبر “منصة صيرفة” واحدة من أسوأ ملامح سياسة سلامة التي أضرت بالمودعين وبالاقتصاد اللبناني. وهي عبارة عن منصة إلكترونية لتبادل العملات الأجنبية كانت تهدف إلى ترويض السوق السوداء المتنامية ووقف التقلبات الجامحة في الليرة. لكن فوائدها اقتصرت على المصارف التجارية والمستوردين والنخب الثرية الأخرى.
حالياً، يقول خبراء اقتصاد إن قصته ليست سوى “قصة فشل شخصي وخزي”، مرّت لأن المسؤولين السياسيين في لبنان لا يتحملون مسؤولياتهم ولا يفكروا في المستقبل ولا ينظروا عن كثب.
هل يحاسب رياض سلامة؟
ولا تتوقف التكهنات والتساؤلات عن مصير رياض سلامة وإمكانية محاسبته عن دوره في انهيار البلاد اقتصادياً.
ولا يُرجح أن يحظى بـ”تقاعد هادئ” في ظل ملاحقته دولياً من قبل السلطات المالية والأمنية في بلجيكا وفرنسا وألمانيا وليختنشتاين ولوكسمبورغ وسويسرا، لاتهامه في قضايا فساد. وهو متهم محلياً باختلاس نحو 330 مليون دولار من المصرف المركزي.
ينفي سلامة التهم الموجهة إليه، ويقول إنه خرج من وظيفته السابقة، عام 1993، بثروة 23 مليون دولار، “استثمرها بذكاء”.
وفي حين أن هناك مذكرتي توقيف دوليتين بحقه، من فرنسا وألمانيا، لا يشترط القانون اللبناني تسليمه. لكن هناك أنباء تفيد بممارسة الدول الأوروبية الضغوط على لبنان لتسليمه أو إجباره على الخضوع للتحقيق. وليس واضحاً إن كانت هذه الضغوط ستؤتي ثمارها، أو إن كان أنصار سلامة السابقون الباقون في السلطة قد يتوقفون عن حمايته بعد تقاعده.
في تصريح لرصيف22، يشكك الكاتب والمحلل الاقتصادي منير يونس في إمكانية تطبيق العدالة على سلامة محلياً. يقول: “في لبنان، هناك إمكانية كبيرة للإفلات من العقاب خاصةً وأن هناك حماية لرياض سلامة”، معتبراً أن التعويل الأكبر هو على المحاكمات الدولية التي تنتظره. الطبقة السياسية اختارت رياض سلامة كبش محرقة وهو لم يقصِّر وليس بريئاً. لكننا نتحدث عن مساءلته عن 300 مليون دولار بينما فجوة لبنان تناهز 80 مليار دولار
ومن جهته، يرفض الخبير الاقتصادي د. باتريك مارديني، تركيز المطالبات على محاسبة سلامة وحده دون بقية عناصر المشهد السياسي اللبناني المشاركين بالدور الأكبر برأيه في الأزمة الاقتصادية الراهنة.
يقول مارديني لرصيف22: “الطبقة السياسية جميعها تتحمل مسؤولية الأزمة الاقتصادية في لبنان. الوزراء المتعاقبون الذين أهدروا أموال المودعين على النفقات الحكومية بما فيها الكهرباء والاتصالات والبنى التحتية والتوظيفات العشوائية على أساس طائفي وعلى الهدر والفساد”، متابعاً: “الطبقة السياسية اختارت رياض سلامة كبش محرقة وهو لم يقصِّر وليس بريئاً. لكنه يتحمل في رأيي مسؤولية صغيرة ويخضع لمساءلة بالفعل. لكننا نتحدث عن مساءلته عن 300 مليون دولار بينما فجوة لبنان تناهز 80 مليار دولار”.
ويضيف: “على الأرجح سوف يُحاكم عن الـ300 مليون دولار. كما أنه ملاحق من القضاء الأوروبي، ويستحق ذلك. لكن محاولة التعمية وتصويره وكأنه المسؤول الوحيد عن الأزمة وتبرئة بقية الطبقة السياسية وخاصةً الوزراء والكتل الذين تسلموا وزارات معينة وأهدروا فيها الأموال، مرفوض ويُعتبر تضليلاً”.
ماذا بعد سلامة؟
سؤال آخر أكثر أهمية يشغل اللبنانيين، هو: من يخلف رياض سلامة؟ يوضح يونس أنه لم يعين “بديل” لرياض سلامة حتّى الآن لأن الحكومة الحالية في لبنان هي حكومة تصريف أعمال ولأن منصب رئيس الجمهورية شاغر وينبغي أن يؤدي حاكم المصرف اليمين أمام الرئيس. يتوقع يونس أن يستغرق تعيين حاكم جديد للمصرف “شهوراً طويلة” بالنظر إلى الاعتبارات السالفة الذكر.
ويلفت مارديني أن “منصب حاكم مصرف لبنان ليس شاغراً لأنه مع خروج رياض سلامة من حاكمية مصرف لبنان تسلّم نائب الحاكم الأول، وسيم منصوري، المنصب في مرحلة تصريف أعمال إلى حين تعيين حاكم أصيل آخر بعد انتخاب رئيس الجمهورية.
وينطبق النظام الطائفي ذاته الساري على السلطة السياسية على مصرف لبنان حيث يوجد أربعة نواب لحاكم المصرف المركزي، يخضعون لقواعد تقاسم السلطة الطائفية في لبنان من أربع طوائف مختلفة. منصوري هو النائب “الشيعي” لحاكم المصرف الذي ينبغي أن يكون “مارونياً”. يوجد أربعة نواب لحاكم المصرف المركزي، يخضعون لقواعد تقاسم السلطة الطائفية في لبنان من أربع طوائف مختلفة
وبشأن مرحلة “ما بعد رياض سلامة”، ينوّه مارديني إلى أن أزمات لبنان الاقتصادية مرتبطة أكثر بـ”النهج” وليس بشخص رياض سلامة. يدلل إلى ذلك بتصريح منصوري في المؤتمر الصحافي الذي أعقب تسلّمه منصب حاكم مصرف لبنان والذي طالب فيه البرلمان اللبناني بتشريع يخوّل له الاستمرار في إقراض أموال المودعين للحكومة اللبنانية.
ويعقّب على ذلك بقوله: “هذه سياسة خاطئة تؤشّر إلى استمرار النهج السابق لكن بأدوات مختلفة – النهج السابق كان يستعمل منصة صيرفة وفرق السعر بين سعر الدولار رسمياً وفي السوق الموازية، كي يجيّر ما تبقى من أموال المودعين التي يُطلق عليها احتياطي العملات الأجنبية، لصالح الحكومة اللبنانية”. ويردف مارديني: “وسيم منصوري، على ما يبدو من تصريحه، يريد أن يتابع هذا النهج لكن ليس من خلال منصة صيرفة وإنما عبر الإقراض المباشر للحكومة”.
يتفق يونس مع مارديني في التأكيد على أن سياسة إقراض المصرف للحكومة بالدولار من أموال المودعين “كانت من أشنع وأسوأ الممارسات الاقتصادية”. لكن يونس يرى أن منصوري على العكس من سلفه “يحاول أن يوقف هذه الممارسة باشتراط وجود قانون يوافق عليه البرلمان لتمويل أي التزام حكومي بالدولار”، منوهاً إلى أن القانون المطلوب “مشروط بجملة إصلاحات يحددها صندوق النقد الدولي”.
مع ذلك، يستدرك يونس بأن المشكلة تكمن في أن المنظومة السياسية في لبنان لا ترغب في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي حيث مضى على الاتفاق المبدئي بين الطرفين أكثر من سنة، ولم تطبق أي من الإصلاحات التي يشترطها الصندوق لأنها “قاسية للغاية وتمس المنظومة السياسية والطائفية كما تمس مصالح القطاع المصرفي المرتبط عضوياً مع هذه المنظومة”.
“لا ملامح للخروج من الأزمة”
لا يبدو يونس متفائلاً بوجود ملامح للخروج من النفق المظلم الذي يقبع فيه اقتصاد لبنان. يقول: “لبنان حالياً يمر في منعطف خطير جداً؛ لا يوجد اتفاق مع صندوق النقد الدولي. ما تبقى من دولارات في المصرف المركزي هي للمودعين، وهو رصيد يتناقص شهرياً لأن حاجات الدولة بالدولار كانت تأخذها من مصرف لبنان. وليس هناك مصادر خارجية للدولار حيث يربط المجتمع الدولي أية مساعدات وقروض للبنان بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي. ولم يعد هناك ‘هدايا‘ للنظام السياسي الحالي من الخارج كما في السابق. والمنظومة السياسية والطائفية تخاف شروط الصندوق ولا تريد تطبيقها”.
ويتابع: “نعيش في هذه المتاهة منذ سنوات. كانت هناك خطة إصلاح في عام 2020، أسقطوها. ثم حدث اتفاق مع صندوق النقد في نيسان/ أبريل 2022 ولم يُطبق حتى الآن، والنزيف يتواصل… الليرة فقدت 98% من قيمتها وأصبح لبنان بين أعلى الدول تضخماً في العالم، والهجرة للخارج مستمرة ولا توجد وظائف…”.
أزمة أخرى تصعّب أي مسار لـ”الإصلاح الاقتصادي” يلفت إليها يونس تتمثل في أن “اقتصاد الكاش في لبنان والذي يقدّره البنك الدولي بـ50% من الناتج بما يعادل نحو 10 مليار دولار خارج الإفصاحات ورادار المالية العام بما قد يشمل التهرب الضريبي وغسيل الأموال”.
سيستمر النهج السابق لكن بأدوات مختلفة كي يجيّر ما تبقى من أموال المودعين التي يُطلق عليها احتياطي العملات الأجنبية، لصالح الحكومة اللبنانية
يعتقد يونس أنه “لا يبدو من خلال ما نراه اليوم، ملامح خروج من الأزمة”، سيّما في ظل استمرار ضغط السياسيين على مصرف لبنان للاستيلاء على باقي أموال المودعين في بلد بلا حكومة بصلاحيات كاملة، ولا رئيس جمهورية وخلافات عميقة بين الكتل السياسية والطائفية في البرلمان. ويختم: “المشهد سيئ وسلبي للغاية وليس واضحاً إذا كانت هناك سبل ممكنة للخروج من الأزمة قريباً”.
سبيلان وحيدان
يتشبّث مارديني في المقابل بالأمل في أن هناك سبيلين وحيدين لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية. يقول: “على المصرف المركزي وقف تمويل الحكومة اللبنانية أولاً. وثانياً، وقف زيادة حجم الكتلة النقدية (وقف طباعة المزيد من الليرة اللبنانية)” في ما يصفه بـ”فصل السياسة النقدية عن السياسة المالية”، مشدداً على أن “القيام بهاتين الخطوتين هو أهم إصلاح يمكن القيام به لأنهما تعكسان بدء عملية إصلاح جدي للسياسات النقدية”.
يشرح: “الحكومة اللبنانية اليوم لا بد أن تتموّل من مداخيلها سيّما الضرائب والدولار الجمركي الذي استحدثته. ينبغي أن تحكم نفقاتها في إطار مداخيلها بدون التوسّع في ‘مصاريف اعتباطية‘ تطلب من المصرف المركزي تمويلها. على المصرف أن يقول للحكومة لا إذا طلبت منه الاقتراض بالليرة اللبنانية لأن هذا يولّد التضخم. وإذا طلبت منه إقراضها بالدولار، يقول لا لأنها أموال لها أصحاب واحتياطي إلزامي”.
ويرى مارديني أن إنشاء لبنان “مجلس نقد” من صلاحياته منع إقراض الحكومة ومنع طباعة ليرة غير مغطاة بعملات أجنبية ومنع المصرف المركزي من أخذ ودائع من المصارف من دون تغطية، من شأنه المساهمة في تنفيذ هذه الإصلاحات وإعادة تكوين احتياطي العملات الأجنبية في لبنان بسرعة كبيرة ووضع الضوابط اللازمة لوقف التضخم وهدر الاحتياطي الأجنبي.
يوم أمس، حذر رئيس حكومة تصريف الأعمال في لبنان نجيب ميقاتي أنه بنهاية شهر آب/ أغسطس لن يستطيع لبنان تأمين الدواء ولا دفع الرواتب بالعملة الأجنبية في حال عدم إقرار الخطة النقدية والاقتصادية التي تقدم بها القائم بأعمال حاكم مصرف لبنان، وسيم منصوري.