بدلاً من الشراكة بين القطاعين العام والخاص التي تؤمّن مصالح الدولة وتسدّ عجزها عن تنفيذ بعض المشاريع وتكون المنطلق الأساس للتطوير والتحسين وإنعاش الخزينة، تبرز في لبنان الشراكة المركَّبة بغية تحقيق مصالح شخصية، تفوح منها شبهات الفساد. ولعلّ خير دليل على فرضية المحاباة في عقود الشراكة هروب الشركات العاملة في قطاع النقل البرّي من تلزيم القطاع الذي أقرته الحكومة في العام 2022. فقد خلت مكاتب وزارة الأشغال العامة والنقل من أي متقدّم لثلاث مرات متتالية. وقد أعزا بعض المطّلعين السبب إلى انعدام الثقة في الدولة.
ففي حين وُجد قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص ليكون بديلاً للاقتراض وترتيب الديون على الخزينة، جرى العكس في قطاع الكهرباء. فبدلاً من أن تدرّ شركات مقدمي الخدمات أموالاً مستحقة للدولة، حجزت مؤسسة كهرباء لبنان لتلك الشركات مقعداً على متن قطار السلفات الحكومية ليصبح وجودها عبئاً على عبء. وقد حُرِمَت شركة الكهرباء في المقابل من الجباية الصحيحة والعادلة، إذ أدى ضعف الدولة وعدم قدرتها على تحقيق المساواة إلى تهرب مناطق بأكملها من الدفع وتطبيق القوانين. وفي الجانب الآخر، عطّل التباين السياسي مشاريع حيوية كانت ستصنع خرقاً إيجابياً في الحالة المأساوية التي وصلت إليها مالية الدولة واقتصادها. وفي خضمّ التخلي أو التغاضي والاستهتار، يحضرنا ملف معالجة النفايات. إذ ألم يكن من الأجدى للبيئة وللاقتصاد لو أن الدولة اللبنانية عملت بجدية على إدارة هذا الملف بالشراكة بين القطاعين العام والخاص وبشكل منظّم وشامل، فيأخذ كل ذي حقّ حقه؟
من هنا تبرز أهمية اتباع الشراكة مسارها الصحيح للحد من المخاطر على الحكومة وتحسين مستوى الخدمات وتطوير البنى التحتية وتأهيلها. ومن الأمثلة على ذلك: تعزيز خدمات الاتصالات والحصول على الطاقة النظيفة ومعالجة مشاكل النفايات وجذب استثمارات جديدة. ولتحقيق هذه الأهداف، ينبغي وضع مسار يركز على اختيار الشريك من القطاع الخاص من خلال إجراءات تنافسية شفافة بدل الاتفاق بالتراضي مع شركة خاصة وتسويق هذا التوجه على أنه شراكة مع القطاع الخاص. ورغم أن قانون الشراكة يتمتع بمزايا عديدة، إلا أنه حصر الطريقة التنافسية المعتمدة بالحوار التنافسي Le Dialogue Compétitif، وغيب طريقة تقديم الاقتراحات غير الملتمسة التي تحقق الإبداع والابتكار. ولا بدّ إذاً من العمل على تحسين هذا القانون ليتخطى فشل التجارب السابقة، فتأخذ المنافسة مسارها ويتساوى الجميع أمام الفرص وينعم المواطن بتحصيل حقوقه كاملة.
الشراكة بين القطاعين العام والخاص
بين تصويب القانون وتوضيح المفهوم
تخلت الدولة عن دورها الحيادي التقليدي المنحصر في الدفاع عن الأمن والقضاء باتجاه التدخل في الاجتماع والاقتصاد والبيئة. ولكن الدولة أخفقت في هذا الدور التدخلي إلا باعتبارها دولة عناية أو رعاية أو دولة ناظمة، لا دولة منفذة للمشاريع التي تتطلبها تلبية الاحتياجات الناجمة عن هذا التدخل في الحياة الاقتصادية والاجتماعية وحماية البيئة:
- لنقص في التمويل.
- لنقص في التكنولوجيا.
- لنقص في الخبرات.
- لنقص في المهارات الإدارية الفاعلة.
- لنقص في المرونة.
- لنقص في المقدرات والكفاءات.
وقد باتت الحاجة بالتالي ملحة إلى تحمل المخاطر، إذ يفرض التلازم بين المخاطر والمسؤوليات تقاسم المخاطر بين القطاعين العام والخاص بالاستناد إلى توزيع المهمات والمسؤوليات.
ويكثر الكلام الذي يبلغ حد الضجيج حول التدخلات السياسية غير المشروعة في مجالات الشأن العام واستخدام الإدارة أداةً في العمل السياسي. ويذهب أصحاب هذا الكلام إلى تبرير اللجوء إلى الشراكة مع القطاع الخاص في مجال إدارة الموارد العمومية للدولة بأي شكل أو ثمن. وينظر هؤلاء إلى عقود الشراكة مع القطاع الخاص باعتبارها أداة لمكافحة الفساد، لكن الأمر ليس كذلك. فالشراكة وعقودها بعد أن انتشرت وانطلقت لم تخل من الفساد حتى قيل إن الفساد نشأ معها أو نجم عنها. أما محاربة الفساد، فمحلّه اعتماد الحوكمة في القطاع العام في كافة مجالات الإدارة، بما في ذلك التلزيمات ومنها تلزيمات عقود الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
وينظر البعض الآخر إلى الشراكة مع القطاع الخاص على أنها أداة لتحرير القطاع من رقابة الدولة، مع العلم أن هذه الشراكة تضع هذا القطاع الخاص المراد تلزيمه تحت مجهر الرقابة الفاعلة المنتجة للقطاع العام التي تواكب العمل توتقيمه وتقوّمه ولا تشله.
ويخشى البعض تبديد المال العام من خلال عقود الشراكة مع القطاع الخاص. وتجدر الإشارة إلى أن الشراكة مع القطاع الخاص، إذا ما طبقت وفقاً للقواعد والمعايير التي ترعاها مثل الشفافية والفاعلية، وسبقتها الدراسات التمهيدية المطلوبة من دراسة جدوى اقتصادية ومالية ودراسة أثر بيئي وتحديد وتحليل وتوزيع للمخاطر، ستؤدي إلى زيادة المداخيل العمومية لقاء بدل مقطوع للقطاع الخاص.
وفي حال اتبعت الشراكة مع القطاع الخاص مسارها الإجرائي الصحيح، يصبح من الممكن التطلع إلى تحقيق بعض المزايا من خلالها، ومنها:
- الحد من المخاطر على الحكومة.
- نقل التكنولوجيا.
- تأمين فرص العمل ومكافحة البطالة.
- تحسين مستوى الخدمات في ظل رقابة الدولة.
- تطوير البنى التحتية وتأهيلها.
- تطوير خدمات الاتصالات.
- تطوير خدمات الطاقة الكهربائية.
- الحصول على طاقة نظيفة بديلة.
- معالجة مشاكل النفايات المنزلية والطبية والصناعية.
- جذب استثمارات جديدة.
ولعلّ من أهم خطوات المسار الإجرائي الصحيح عملية اختيار الشريك مع القطاع الخاص من خلال إجراءات تنافسية شفافة، لا التوجه إلى شركة خاصة وتسويق هذا التوجه على أنه شراكة مع القطاع الخاص. إذ تكون هذه شراكة مع الذات والمصالح الخاصة لا مع القطاع الخاص.
وتُجرى العملية التنافسية من قِبَل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة وبإشرافه ومراقبته مع تطبيق أحكام قانون الشراء العام على عقود الشراكة مع القطاع الخاص في كل ما لا يتعارض مع قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص رقم ٤٨ تاريخ ٧/٩/٢٠١٧ (الفقرة الخامسة من المادة الثالثة من قانون الشراء العام – نطاق التطبيق). ولعلّ من الأهمية بمكان تعيين رئيس المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة وأعضائه وتعزيز دوره وتكريس استقلاليته ومهنيته.
وتختلف النظرة إلى قانون الشراكة مع القطاع الخاص بين مؤيد ومعارض؛ والواقع أن القانون لا يخلو من بعض المزايا. ففي ظل وجود تعاريف واجتهادات ومفاهيم متناقضة أحياناً لعقود الشراكة يستبعد البعض فيها العقود التي يحصل فيها الملتزم على أتعابه بصفة بدل عن الخدمات أو المنتجات التي يؤديها ويدخلها في مفهوم الامتيازات، تأتي أهمية التعريف الوارد في المادة الأولى من قانون الشراكة مع القطاع الخاص. فقد نصّت هذه المادة على ما يلي: مشروع ذو منفعة عامة يشارك فيه القطاع الخاص عن طريق التمويل أو الإدارة وإحدى العمليات التالية: التقييم، الإنشاء، التشييد، التطوير، الترميم، التجهيز، الصيانة، التأهيل والتشغيل.
ويعني ذلك أن قانون الشراكة في لبنان لم يأخذ في التعريف الذي اعتمده لتحديد عقود الشراكة طريقة تأدية بدل أتعاب الملتزم.
أما المآخذ على القانون فيُذكَر منها:
صياغة الإجراءات بافتراض أن الطريقة التنافسية المعتمدة هي طريقة الحوار التنافسي Le Dialogue Compétitif. وتلائم هذه الطريقة حصراً الشراكات الكبرى المتعلقة بمشاريع معقدة لا تملك الجهة العامة صياغة مواصفاتها بالدقة والتفصيل، فهي لا تعرف الوسيلة المثلى لتحقيق الأهداف التي تبتغي، بل تعرف الأهداف وتعرف ما تريد لكنها لا تعرف كيفية الوصول إلى ما تريد.
وفي المقابل، تغيب عن القانون طريقة تقديم الاقتراحات غير الملتمسة وهي طريقة تحفز الإبداع والابتكار وتمثل شراكة ديمقراطية مع القطاع الخاص حيث تنقل المبادرة إليه في إطار كاف وواف من الرقابة والضوابط.
ولا يتطرق قانون الشراكة كما قانون الشراء العام بشكل واضح ودقيق ومفصل إلى آليات الرقابة على تنفيذ عقود الشراكة، وهو ما يعرف بالرقابة على الأداء.
وكذلك لا يتضمن النص إمكانية مراقبة عمليات الشراكة من قبل المجتمع المدني بدءاً من الإجراءات وصولاً إلى التلزيم والتنفيذ.
وتبقى الإشارة إلى الأمر الأهم، وهو أن قانون الشراكة بصيغته الحاضرة من النواحي الإجرائية فيما يتعلق بتنقل الدراسات والمستندات بين المجلس الأعلى للخصخصة ومجلس الوزراء (الذي يبدو وكأنه المجلس الأعلى للمجلس الأعلى للخصخصة) لا يلائم المشاريع التشاركية الصغيرة ذات الآجال المتوسطة. ويستلزم ذلك وضع استراتيجية لهذه المشاريع وإخضاعها لأحكام قانون الشراء العام أو لآليات خاصة بها.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق