المودعون في مهبّ الصلاحيات: مَن يضبط تركيبة الهيئة المصرفية؟

الهيئة المصرفية

تنكبّ اللجان النيابية المشتركة في الأيام الأخيرة على دراسة وتعديل مشروع قانون إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها، وتحديداً صلاحيات الهيئة المصرفية العليا فيه، من الحكومة إلى مصرف لبنان المركزي فمجلس النواب (عقدت اللجان النيابية 6 جلسات لمناقشته منذ 30 نيسان إلى 2 حزيران، بالإضافة إلى انعقاد اللجنة الفرعية أمس)، ولكلّ طرف رأي فيه، لأنّه سيُميِّل الدفّة إلى إصلاح مصرفي مالي فعلي أم وهمي. فمَن يقود مَن وإلى أي نتيجة وبأية صلاحيات؟

ينصّ مشروع القانون بالنسبة إلى الهيئة المصرفية العليا على أنّ الجهة المخوّلة بإدارة ملف إعادة هيكلة المصارف هي الهيئة المصرفية العليا. في حين أنّ المشروع الحكومي الأخير لم ينصّ على إنشاء هيئة خاصة كما كان مقترحاً في مشاريع قوانين سابقة. هنا يوضّح المحامي والأستاذ المحاضر في جامعة القديس يوسف (USJ)، كريم ضاهر، أنّ «اللجنة التي كان يرأسها الدكتور سعادة الشامي في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وأعدّت نسخة هذا المشروع الأساسية، اقترحت إنشاء هيئة خاصة لإدارة عملية إعادة الإصلاح وتنظيم وضع المصارف. أمّا في النسخة الأخيرة من المشروع التي عملت عليها حكومة الرئيس نواف سلام وفريق عمل وزارة المال، اعتُمِد خيار منح الهيئة المصرفية العليا هذه الصلاحيات، مع تعديل في تركيبتها، لتضمّ وجوهًا جديدة ويُستبعَد منها أعضاء حاليِّون».

ونصّت المادة الخامسة من مشروع القانون على تعديل المادة العاشرة من قانون 28/1967، لتتكوّن الهيئة المصرفية العليا من حاكم مصرف لبنان بصفته رئيساً، أحد نواب الحاكم يُعيّنه المجلس المركزي، رئيس لجنة الرقابة على المصارف، خبير قانوني في الشؤون المالية والمصرفية يُعيَّن بمرسوم بناءً على اقتراح وزير العدل، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، خبير في الشؤون المصرفية والمالية أو في التدقيق المحاسبي والجنائي، يُعيَّن بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناءً على اقتراح وزير المالية أو وزير الاقتصاد.

ملاحظات حاكم المركزي؟

في المرحلة الأولى، يشرح ضاهر، أنّ حاكم مصرف لبنان كريم سعيد طرحَ بأن تتألّف الهيئة من الحاكم نفسه كرئيس، بالإضافة إلى نائبَين من نوّابه يُعيَّنان من قبل المجلس المركزي كما وقاضٍ له خبرة في الأمور المالية والمصرفية والإفلاسية، يعيّن بمرسوم بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى، فضلاً عن مدير عام وزارة المالية العضو في المجلس المركزي. وهناك أيضاً خبير من أصحاب الإختصاص يُعيَّن كعضو (شخص معنوي أو طبيعي)، يشارك في الاجتماعات من دون أن يكون له حق التصويت ولا أن يكون رأيه ملزماً، بالإضافة إلى رئيس لجنة الرقابة على المصارف أو مَن يُعيّنه، الذي يحضر الاجتماعات كذلك للشرح أو الإستيضاح، من دون أن يمتلك صلاحية التصويت.

أُثيرت اعتراضات من بعض النواب حول غياب استقلالية الهيئة وعدم إشراك خبراء مستقلين، كَون الغالبية من أعضائها ينتمون إلى المجلس المركزي.

بناءً على ذلك، أوضح ضاهر أنّ «صندوق النقد الدولي أبدى ملاحظاته على مشروع الحكومة بالنسبة إلى تعيين رئيس لجنة الرقابة على المصارف كعضو في الهيئة الجديدة، نظراً لدوره الرقابي الذي يتعارض مع موقعه ضمن هيئة تنفيذية. كما انتقد عدد من النواب والخبراء تعيين رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، الذي يُنتخَب بأكثرية أصوات من قِبل المصارف، معتبرين أنّ في ذلك تعارضاً مع المبادئ والمعايير وتضارباً واضحاً في المصالح».

 

لاحقاً، عاد «حاكم المركزي» وقدّم طرحاً جديداً يتناول آلية التعامل مع أزمات نظامية مستقبلية، وليس فقط معالجة تداعيات الانهيار الحالي. بحسب هذا الطرح، في حال تعثّر أكثر من مصرف أو وُجِدت أزمة منهجية نظامية، ناهيك عن دورها في إصلاح وضع المصارف «الناشئ عن أزمة النظام المصرفي والمالي التي لا يزال يعاني منها لبنان منذ العام 2019» (ممّا يعني بصورة ضمنية الإعتراف في القانون بنظامية الأزمة الحاضرة وكل ما تستتبعه هذه التسمية من نتائج)، تُنشأ لجنة خاصة يرأسها حاكم مصرف لبنان، وتضمّ بحسب ضاهر: «حاكم مصرف لبنان، رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية لضمان الودائع أو مَن ينتدبه لهذه الغاية (ما زال الاعتراض الأساسي قائماً حول عضويّته)، قاضياً من أصحاب الخبرة في الشؤون المالية و/أو المصرفية و/أو الإفلاسية (يُعيَّن بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى)، محامياً يتمتّع بخبرة مالية ومصرفية (تقترح نقابة المحامين 5 أسماء تُحصَر بـ 3 من قِبل مصرف لبنان ليُعيَّن واحد منهم بمرسوم من مجلس الوزراء)، ومحاسباً متخصِّصاً في المحاسبة والتدقيق الجنائي (يُعيَّن بمرسوم من مجلس الوزراء من ضمن 3 أسماء يقترحها وزير المال)».

هنا، يُشير ضاهر إلى أنّه كان من المحبّذ بالنسبة إلى المحاسب (الخبير) «أن تُرشَّح الأسماء من قِبل نقابة خبراء المحاسبة مباشرة لإعطاء حيّز إستقلالية وشفافية أكبر. إلّا أنّ هذه الصيغة المطروحة أصبحت أقرب إلى ما كنّا نطالب به، خصوصاً لكون اللجنة مختلفة عن الهيئة المصرفية العليا».

التمييز بين الهيئة المصرفية العليا واللجنة الخاصة

تبقى الهيئة المصرفية العليا الجهة المختصة في حال تعثّر مصرف واحد فقط، بشرط ألّا يكون ضمن إطار أزمة نظامية وبالمطلق كمرجع معني بالقطاع المصرفي عملاً بصلاحياتها الأساسية المنصوص عنها في القوانين النافذة المرعية الإجراء. أمّا في حال تعثّر أكثر من مصرف، فتُكلَّف اللجنة الخاصة، التي وُصِفت تركيبتها آنفاً، بمعالجة الوضع.

هنا يشرح ضاهر بأنّ «المطلوب هو مقاربة المسألة بموضوعية وشفافية وبعيداً من تضارب المصالح والمحسوبيات وتفادي فتح الملفات والمساءلة، لأنّ الثقة وإعادة النهوض بالقطاع والإقتصاد لا يعودان إذا جرت المقاربة من منظار المصالح الخاصة أو الفئوية. فهذه الهيئة، كما هو مقترح حالياً، ستكون مِحوَر القانون بأكمله، إذ ستُناط بها صلاحيات مصيرية وتعود لها سلطات استنسابية وأحياناً مطلقة، ترسم مسار الأمور للسنوات المقبلة وتسمح أو لا تسمح بالعودة إلى أصل الوباء، بالتالي تضع حدّاً لنزعة التفلّت من العقاب. لذلك، أصبح تشكيلها محل تجاذب حاد بين مختلف الأطراف. فالفريق الذي لا يرغب بكشف الملفات أو المحاسبة، يسعى إلى ضبط تركيبة الهيئة بطريقة تُبقي الأمور تحت السيطرة، وأن تكون قراراتها غير علنية، على رغم من أنّ المادة الثامنة من مشروع القانون تُلزم بنشر القرارات. بالتالي، سيصبح واضحاً إذا كان هناك محاباة أو استنسابية».

خلاف سياسي ولوبيات مؤثرة

لا شكّ في أنّ الكتل النيابية التي تضمّ غالبية القوى السياسية، تُبدي تخوّفاً من فتح الملفات لأسباب متعدّدة، «بعضها يخشى على مصالحه المباشرة، وبعضها الآخر يدافع عن مصالح لوبيات مصرفية ومالية نافذة. وهؤلاء يرَون في هذه الهيئة تهديداً وجودياً، فيسعون إلى تشكيلها بطريقة تضمن استمرارية نفوذهم والإبقاء على قاعدة الصمت والإخفاء التوافقية المعروفة بالأومرتا (Omerta)» بحسب ضاهر.

ضمن هذا السياق، يُطرح خيار إبقاء الموضوع ضمن «الهيئة المصرفية العليا» بدلاً من إنشاء هيئة جديدة.

مبدأ فصل السلطات

من النقاط التي ناقشها النواب أيضاً، مسألة فصل السلطات، وتحديداً مدى ملاءمة منح هذه الهيئة صلاحية تصفية المصارف أو عدم تصفِيَتها واعتماد خيار إصلاح الوضع، وفي الحالتَين ملاحقة مسؤوليها قانونياً عن طريق القضاء المختص أو عدمه، خصوصاً إذا زاد عدد المصارف التي يجب تصفِيَتها. واعتبر البعض أنّ ذلك قد يُفضي إلى تعسّف في ممارسة السلطة أو أنّ هناك تساهلاً ومحاباة.

هنا يُشير ضاهر إلى «ضرورة الاستعانة بالنماذج العالمية، لا سيما النموذج الفرنسي الأقرب إلينا، الذي يتضمّن آليات واضحة لفصل السلطات وتوزيع الصلاحيات ضمن الجهاز (المصرفي) الواحد (ACPR) بشكل يُعطي حيّزاً من الإستقلالية ويمنع تضارب المصالح. علماً بأنّ في هيئة ACPR الفرنسية قُسِّمت صلاحيات الإشراف المصرفي بين هيئتَين هما، بحسب ضاهر:

 

– Le Collège: يرأسه حاكم المصرف المركزي، ويُعنى بالسياسات المصرفية العامة، من مِنَح وسَحب رُخَص المصارف إلى تطبيق القوانين التنظيمية. ويمكن اعتباره النظير للهيئة المصرفية العليا والمجلس المركزي في لبنان.

– هيئة ثانية، تُسمّى لجنة الإصلاح (Comité de résolution): يرأسها أمين عام، وتتألّف من ممثلين عن السلطات العامة وخبراء مستقلين. وتُعنى هذه الهيئة حصراً بإصلاح المصارف (إصلاح مصرف أو تصفِيَته، وتنفيذ أدوات الإصلاح كبيع الأصول أو إعادة الرسملة أو دمج المصارف أو الإصلاح الداخلي (bail-in))، خصوصاً في حال الأزمات، وفقاً لـ4 حالات منصوص عليها في القانون.

هذا النموذج يتماشى مع ما يُطالَب به في لبنان برأي ضاهر، الذي يُضيف أن تُنشأ هيئة مستقلة مماثلة تختص حصرياً بملف الإصلاح المصرفي، هو طرح «قد يوافق عليه حاكم مصرف لبنان نفسه في حال لم يُستعمل هذا الموضوع سياسياً، للحَدّ من صلاحيات المصرف المركزي وتعطيل أحكام قانون النقد والتسليف. بيد إنّه قدّم طرحاً جديداً بهذا الاتجاه، متخلّياً عن مقاربته السابقة التي كانت محطّ انتقاد أو إنزعاج. ويُحسب له هذا التقدّم، كونه أبدى انفتاحاً واستعداداً للحوار، وهذه بادرة إيجابية تُسجّل لصالحه وتعطي الأمل».

بعض الثغرات في مشروع القانون الجديد

لحظَ مشروع القانون مرحلتَين أساسيّتَين: مرحلة الإصلاح ومرحلة التصفية، لكنّه «أغفل مرحلة وسيطة تُعرف في النموذج الأوروبي بخطة التعافي (Recovery Plan) التي تُتيح للمصرف الذي يواجه صعوبات مالية أن يتقيّد بالمتطلّبات الإحترازية ويُقدِّم الضمانات اللازمة ومنها الملاءة، ويؤمِّن الضمانات اللازمة ويُقدّم خطة تعافٍ قابلة للتنفيذ تُمكّنه من الاستمرار من دون اللجوء إلى أدوات إصلاح قسرية. يجب أن تُعطى المصارف هذه الفرصة لإثبات قدرتها على الاستمرار عبر تأمين رأس المال الكافي والملاءة المطلوبة والوفاء بالالتزامات خلال فترة قصيرة (لا تتجاوز 3 أشهر)».

في حال فشل المصرف بتنفيذ خطة التعافي خلال مدة معينة، أو إذا تبيّن أنّه غير أهلٍ للتعافي ولا يستطيع متابعة أعماله لأسباب بنيَوية جوهرية بناءً على تقرير لجنة الرقابة على المصارف، للجنة، بعد استطلاع رأي مصرف لبنان، أن تقرّر إمّا إصلاح الوضع أو التصفية وفقاً للمادة 7 من مشروع القانون.

ويوضح الرئيس السابق للجمعية اللبنانية لحقوق المكلّفين (ALDIC) «إنّ القانون كما هو مطروح الآن، يمنح الهيئة صلاحية تقديرية غير مقيّدة، لتقرير ما إذا كانت ستُبدّل إدارة المصرف أو تحجز على أصول مسؤولين من إداريِّين ومراقبين، ما يُعدّ ثغرة خطيرة. يجب أن يكون التغيير في الإدارة وحجز أموال أعضاء مجلس الإدارة السابقين ومدققي الحسابات والمدراء التنفيذيِّين إلزامياً، كما هي الحال راهناً من القانونَين 2 /67 و110 /91، سواء في حالة الإصلاح أو التصفية، على الأقل بصورة احترازية، إلى حين إثبات عدم وجود مسؤوليات مباشرة عليهم وذلك، ضمانةً للحقوق وعدم تبديدها أو تسييلها. كما يجب إعادة تقييم جميع العمليات التي نفّذتها الإدارة السابقة أي ما يُعرف بالـ Voidable Transactions، والتدقيق فيها تحسّباً لاحتمال وجود شبهات أو مخالفات». كما أنّه يجوز للمحكمة إبطال أعمال قام بها المصرف خلال المرحلة المشبوهة في حال توفّرت فيها شروط المادة 508 من قانون التجارة.

كيف تُحمى أموال المودعين؟

طرح بعض النواب تساؤلات مهمّة حول كيفية حماية أموال المودعين في حال اللجوء إلى التصفية. وهنا ينبغي التمييز بين حالتَين بحسب ضاهر:

– في الحالات المستقبلية، يجب أن يكون هناك إنذار مسبق للمودعين وتدابير احترازية تمنع الوقوع في أزمة نظامية وإنهيارات متسلسلة، كما هو معمول به في أوروبا، فلا تُضمَن سوى 100 ألف يورو لكل مودع.

– في الحالة الراهنة، لا يجوز فرض الخسائر على المودعين كما لو أنّها أزمة طبيعية. بل يجب توفير ضمانة واضحة لهم، سواء عبر التصفية أو الإصلاح، وإدراجهم ضمن آلية تؤمّن استرداد ودائعهم بقدرٍ عادل.

لذلك، يُعدِّد رئيس لجنة حماية المودعين السابق في نقابة المحامين، مصادر تمويل صندوق ضمان الودائع بـ«استرداد الأموال الناتجة من الفساد أو المكاسب غير المشروعة، تخصيص الضرائب المفروضة على العمليات التي أضرّت بالودائع (مثل إعادة تسديد القروض بأقل من قيمتها وعمليات Sayrafa والدعم)، استرداد الأرباح والفوائد المدفوعة أو الموزّعة بشكل غير قانوني أو بفائدة باهظة لا تتناسب مع معدّلات السوق، تمييز الودائع المشروعة عن غير المشروعة، تخصيص نسبة من أرباح مشاريع الشراكة المستقبلية (PPP) مثل تلك المتوقّعة من البنى التحتية والمرافق العامة كما ونسبة معيّنة من إيرادات ربح النفط، بيع الشركات التي يملكها مصرف لبنان وتحقيق أرباح منها وإنما بعد إصلاحها وتحسين الحَوكمة والشفافية لتفادي الهدر والفساد».

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة الجمهورية