تشكلت أخيراً الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء في لبنان بعد انتظار دام ثلاثة وعشرين عاماً، مما يمثل خطوة أولى مهمة على مسار الإصلاح والنهوض بهذا القطاع الحيوي. يعتبر عدم وجود هيئة ناظمة منذ عام 2002 سبباً أساسياً في عدم تطور قطاع الكهرباء، حيث كان القانون يلزم وجود هيئة ناظمة لترخيص أي منتج كهرباء جديد يريد الدخول إلى السوق.
منعت هذه الثغرة القانونية دخول شركات جديدة إلى القطاع وحالت دون زيادة إنتاج الكهرباء، حيث كان الوزراء المتعاقبون يحتفظون بصلاحيات واسعة تشمل كل الصفقات في قطاع الكهرباء من شراء الوقود إلى بناء المعامل وتأجير البواخر. استمر هذا الوضع لعقود طويلة بسبب عدم رغبة الجهات السياسية في التخلي عن هذه الصلاحيات المالية الضخمة.
تهدف الهيئة الناظمة بشكل أساسي إلى تشجيع المنافسة في القطاع من خلال ترخيص منتجين وموزعين جدد للكهرباء، وتحقيق الفصل بين صلاحيات الوزير وصلاحيات الهيئة الناظمة. يقسم قانون 2002 قطاع الكهرباء إلى ثلاثة أقسام رئيسية: الإنتاج والنقل والتوزيع، مما يفتح المجال أمام دخول شركات خاصة في مجالي الإنتاج والتوزيع بينما يبقى النقل تحت إشراف الدولة كقطاع استراتيجي.
تبرز أهمية الهيئة الناظمة في معالجة مشكلة الجباية التي تعاني منها كهرباء لبنان، حيث تقدر نسبة الهدر التقني وغير التقني بحوالي 40%. يمكن للهيئة أن تساعد في حل هذه المشكلة من خلال تشريع عمل المولدات الخاصة وتحويلها إلى شركات توزيع مرخصة تشتري الكهرباء بالجملة من الدولة وتبيعها بالتجزئة للمواطنين.
يتطلب تطبيق هذا النموذج تحويل مقدمي الخدمات الحاليين (المولدات) إلى شركات توزيع حقيقية تتحمل مسؤولية الجباية بدلاً من تحميل الدولة خسائر عدم الدفع. يساعد هذا التحول في ضمان حصول الدولة على 100% من إيراداتها من بيع الكهرباء بالجملة، مما يوفر الموارد اللازمة لتشغيل المعامل الحكومية وزيادة ساعات التغذية.
تشمل الحلول قصيرة المدى تطوير نظام طاقة هجين يجمع بين المولدات الحالية ومزارع الطاقة الشمسية، مما يساعد في تخفيض تكلفة الإنتاج والحد من التلوث البيئي. يمكن لهذا النظام أن يشكل جسراً نحو دخول منتجين جدد يحتاجون إلى سنوات طويلة لبناء معامل جديدة.
تتجه التطورات العالمية في قطاع الكهرباء نحو اللامركزية من خلال آليات مثل “التسويات التفاوضية” و”تجميع خيارات المجتمع”، حيث يمكن لمجموعات من المستهلكين التفاوض مباشرة مع منتجين محليين لشراء الكهرباء. تتيح هذه الآليات للمجتمعات المحلية والبلديات اختيار مصادر طاقتها والخروج من النظام المركزي التقليدي.
يتمتع القانون الحالي بآليات تمويل مستقلة لـ “الهيئة الناظمة” من خلال تخصيص 1% من فواتير الكهرباء ورسوم التراخيص، مما يضمن استقلاليتها المالية والإدارية. يتطلب نجاح هذا المسار الإصلاحي تطبيقاً جدياً للقانون وعدم السماح بالتدخلات السياسية التي عطلت القطاع لعقود طويلة.
تحتاج الدولة اللبنانية أيضاً إلى تطوير البنية التحتية للغاز الطبيعي لتخفيض تكاليف الإنتاج بشكل كبير، سواء من خلال مد أنابيب الغاز من مصر أو قطر. يشكل توفير الغاز الطبيعي عاملاً أساسياً في جذب الاستثمارات الخاصة لبناء معامل جديدة وتحقيق كهرباء مستدامة وبأسعار معقولة.
تمثل هذه الخطوات جزءاً من رؤية شاملة لإصلاح الخدمات العامة في لبنان وإعادة بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات من خلال تطبيق مبادئ الشفافية والمساءلة والكفاءة في إدارة القطاعات الاستراتيجية.