كهرباء بلا كلفة؟

كهرباء بلا كلفة؟

منذ إيقاف الإقتتال الداخلي الذي استمر 15 عاماً، يسمع اللبنانيون سمفونية تأمين الدولة الكهرباء 24/24، بأسعار منخفضة. لكن قطاع الكهرباء كان على مدى 25 سنة الماضية، يسجل تطوراً عكسياً مع زيادة عدد الخطط وارتفاع منسوب الحديث عن اصلاحات. وأخيراً، دخل على مسار طرح خطط الإنقاذ، طرحٌ لخصخصة القطاع، بأشكال مختلفة.

أصحاب خطط الخصخصة استعملوا الدعاية لكسب التأييد الشعبي والسياسي، وصولاً إلى زعمهم تأمين الكهرباء بـ”صفر كلفة”. فهل هذا صحيح؟

إقتصادياً، إن الحديث عن “صفر كلفة” لا يصحّ أبداً، لأن إنتاج أي سلعة ينطوي على كلفة. وهذه الكلفة تدخل في تحديد سعر مبيع السلعة. والحديث عن صفر كلفة بالنسبة إلى الكهرباء، من باب اهتمام القطاع الخاص بتوليد وتوزيع الكهرباء وعدم تحميل مؤسسة الكهرباء أي كلفة في ذلك، هو أمر لا يصحّ إطلاقاً. فتحويل طريقة إنتاج وتوزيع الكهرباء من المؤسسة العامة إلى القطاع الخاص، يتطلب آلية عمل طويلة، تترتب عليها أكلاف إضافية، لناحية كلفة خفض عدد الموظفين في مؤسسة الكهرباء تناسباً مع تقليص خدماتها ونطاق عملها، ناهيك بالخسائر التي ستُوضع على كاهل الدولة نتيجة إهمال محطات وآليات ستتوقف عن العمل بعد خصخصة القطاع.

أما الحديث عن الخصخصة في هذا المجال، فعاد من خلال تقديم “المعهد اللبناني لدراسات السوق”، دراسة بعنوان “حل مشكلة الكهرباء في لبنان بكلفة صفر دولار”، والمستندة إلى “السماح لأي شركة بإنتاج الطاقة الكهربائية وبيعها مباشرة للمواطن بالسعر الذي تراه مناسباً”. على أن هذا المدخل للخصخصة، برأى باتريك المارديني الذي قدّم الدراسة بإسم المعهد، خلال مؤتمر صحافي عقد الإثنين 12 كانون الأول/ ديسمبر في بيروت، سيؤدي إلى “تدفق المستثمرين وزيادة محطات الانتاج”.

وعود المارديني بـ”طفرة في الإنتاج” التي ستخلقها “رغبة شركات الامتياز وأصحاب المولدات الخاصة بتحسين إنتاجهم، وإرادة كبار رؤوس الأموال وجميع الفاعلين في القطاع في دخول القطاع وبناء مصانع متطورة وطويلة الامد”، لا تعطيها مصادر في مؤسسة الكهرباء أهمية. وتشير المصادر إلى أن “لبنان ليس ساحة منافسة إقتصادية شريفة، وتجربة القطاع الخاص في لبنان ليست مشجعة، ليس بسبب ضعف إمكانيات القطاع الخاص، إنما بسبب السياسة اللبنانية، والنموذج الإقتصادي القائم على تسليم القطاع الخاص مشاريع تصب في خدمة السياسيين، فتتحكم السياسة في عملية الإنتاج والتوزيع، وليس الإقتصاد وقواعده”.

وتستند المصادر في شرح وجهة نظرها إلى تجربة شركات مقدمي الخدمات التي “تبرهن أن الهدف من الخصخصة، وفق النموذج اللبناني، هو ضرب القطاع العام وتفريغ القطاع الخاص من دوره الإقتصادي”. وتؤكد المصادر أن “تسليم قطاع الكهرباء للشركات الخاصة، وحصر دور مؤسسة الكهرباء ببعض المهمات في دائرة جغرافية محددة، يزيدان الضغط على الدولة ولا يساعدانها، كما يروج أصحاب المصالح في القطاع الخاص”. وتتساءل المصادر عن “مصير المعامل الحالية وكلفة صيانتها، ودور المحطات والعمال المثبتين والمياومين”. فهذه التساؤلات “غير واردة في حسابات الشركات الخاصة. والحل بالنسبة إليها هو بنسبةٍ من الأموال تُدفع للمتضررين، دون تأمين فرص عمل بديلة”.

لا تنفي المصادر دور الشركات الخاصة في تطوير القطاعات الحيوية، وبخاصة الكهرباء. “لكن القطاع الخاص في لبنان يدخل السوق عبر دفاتر شروط وتلزيمات سياسية، فينتج خدمات مرهونة بالسياسيين، وبأسعار تناسب الصفقات السياسية لا المنطق الإقتصادي. وهذا ما يحصل في الكهرباء والاتصالات والنفايات”. وعليه، فإن التلويح بخفض الكلفة جراء المنافسة بين الشركات هو “خدعة لطمأنة الرأي العام، ولتمهيد الطريق أمام القضاء على ما تبقى من قطاع عام”.

وتسلط المصادر الضوء على استغلال الطاقة الشمسية والرياح والمياه لإنتاج الكهرباء، “فلبنان غني بمصادر المياه، والرياح التي تؤمنها بيئته قادرة على إنتاج كهرباء تكفي حاجته. أما الدولة، فقادرة على إدارة عملية الإنتاج هذه.. ومن دون الحاجة إلى القطاع الخاص. وفي حال إشراك القطاع الخاص في الإدارة وتقديم بعض الخبرات التقنية، فإن ذلك لا يعني ضرورة تخلي الدولة عن قطاع الكهرباء لمصلحة الشركات الخاصة. وقدرة الدولة تُظهر بوضوح أن الأزمة في طريقة إدارة ملف الكهرباء، وليس في الجهة التي تديره”.

وعن دور المحاصصة السياسية في إنتاج أزمات متكررة وتمهيد الطريق أمام الشركات الخاصة لاحتلال السوق، يلفت الوزير السابق شربل نحاس، في حديث لـ”المدن”، إلى تأثير ضرب الدولة عملية التوظيف في الإدارة العامة واستبدالها بمبدأ المياومين، على مفهوم الإدارة العامة ودورها. وكلام نحاس يدل على أن الخصخصة التي تشيعها الشركات الخاصة التي تملك تدخل السوق بتأشيرة الإتفاقات السياسية، لا يُبنى عليها لإنتاج أي سلعة أو خدمة بمواصفات وأسعار مناسبة للقدرة الإقتصادية لغالبية اللبنانيين.

عليه، لا يمكن بناء قطاع الكهرباء إنطلاقاً من إيهام المواطن بأن كلفة الخدمة ستنخفض، وكلفة تغيير نظام إنتاج هذه الخدمة. وتحويلها من يد الدولة إلى يد الشركات الخاصة، لن يُرتب على الدولة أكلافاً مادية. فلا الكلفة صفر صحيحة، ولا آلية عمل الشركات الخاصة مع الدولة مطمئنة. فالطرفان، وفق التجربة اللبنانية، وجهان لعملة واحدة

إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع المدن