حذّر المبعوث الفرنسي المكلّف متابعة تنفيذ مقررات مؤتمر «سيدر» بيار دوكان، بعد لقائه رئيس الوزراء سعد الحريري، من عدم انتظار حلول سحرية، مشدّداً على أهمية القيام بسلسلة إجراءات في سبيل خفض النفقات. أما في المقابل، فتبدو الحكومة غير مستعدة لعصر نفقاتها على التلزيمات والصفقات العمومية، وذلك على الرغم من خطورة الوضع المالي. فقد نصّت ورقة الاجتماع الاقتصادي المالي في قصر بعبدا على «رفع حصة المشاريع الاستثمارية الممولة، من خلال قروض خارجية ميسرة بعد دراسة جدواها المالية، أو بالاشتراك مع القطاع الخاص، وذلك من مجمل النفقات الاستثمارية العامة».
يتخوّف رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني من «أن يفوق رفع حصّة المشاريع الاستثمارية ما سينتج من عصر الدولة مصاريفها الجارية، وهذا يعني زيادة إجمالي النفقات العامة. فقد بلغ حجم استثمار الدولة واكتسابها للأصول الثابتة 1.67 تريليون ليرة في موازنة عام 2019، أي حوالى 25% من عجز الخزينة و2% من الناتج المحلي؛ فكان بإمكان لبنان التقيّد بشروط «سيدر» وتفادي ملاحظات دوكان وإراحة الأسواق المالية فيما لو عمدت الحكومة إلى وقف هذه المشاريع. أمّا الحديث عن زيادتها، فيذهب عكس الاتجاه الإصلاحي المنشود، إذ إنّ هذه الزيادة تؤدي إلى تفاقم نسبة الدين العام والعجز، حتى لو جاء التمويل من خلال قروض ميسرة».
أما بالنسبة إلى الحديث عن إشراك القطاع الخاص، فيُخشى أن يكون «كلمة حق أُريدَ بها باطل»، لأنّ الدولة اعتادت صرف مبالغ طائلة على بناء المنشآت، ومن ثم تسليمها الى شركات خاصة لإدارتها من دون أن تتكبّد هذه الأخيرة أية تكلفة على الاستثمار. وبهذه الطريقة تستحوذ الشركات على أتعابها سلفاً وتعطي ما تبقى من الأرباح للدولة. ولا يؤدي هذا النوع من إشراك القطاع الخاص إلى حل المشكلة، فخزينة الدولة لم يعد باستطاعتها تحمّل كلفة المشاريع، كما أنّ الشركات المحظوظة لا تقلّص الهدر، فهي في نهاية المطاف تنفق أموال الدولة من دون تحمّل أي مخاطر».
ويقترح مارديني «تبنّي لبنان قاعدة سقوف الإنفاق التي أثبتت جدواها في دول عديدة مثل سويسرا وهونغ كونغ، والتي توازي بين النمو الاقتصادي ونمو إجمالي النفقات العامة. وبما أنّ لبنان يتوقع نمواً اقتصادياً بنسبة صفر على أحسن تقدير، فإنّ إجمالي زيادة النفقات العامة لا ينبغي أن يتعدّى الصفر. ويساهم سقف الإنفاق في حماية المالية العامة من طلبات زيادة الاعتمادات. فإذا أراد وزير زيادة النفقات الاستثمارية، يكون عليه أولاً أن يجد الاعتمادات في وزارته لتمويلها. وهذا ما يكوِّن حافزاً لكل وزير لتقليص فائض الموظفين في وزارته وإيقاف العقود والبرامج غير المجدية وتحسين المؤسسات التي تسبب خسائر أو خصخصتها، وهو ما ينتج إصلاحاً حقيقياً في كل وزارة».
ويضيف، إن «الالتزام بسقف الإنفاق يحتّم تحميل الشركات الخاصة كلفة المشاريع على نفقتها هي، لا نفقة الخزينة. فعلى سبيل المثال، يمكن للشركات المختصة أن تبني سدوداً على نفقتها عبر نظام منتجي المياه المستقلين (Independent Water Producer – IWP) ثمّ تبيع المياه للمواطن، ما يوفّر على الدولة كلفة بناء السدود. وبالتوازي، تشق الشركات الطرقات على نفقتها الخاصة ويدفع المستهلك بدل استخدامها عند الحاجة (Toll Roads)، وتبني شركات الاتصالات الخاصة شبكات الألياف الضوئية على نفقتها وتتنافس على بيع خدماتها للمشتركين. وهكذا يمكن نقل جميع المصاريف الاستثمارية إلى القطاع الخاص، ما يؤدي إلى تخفيف الأعباء ويتيح للوزراء إدخار الاعتمادات لتمويل مشاريع اخرى».
يعاني لبنان اليوم من تراجع في حجم التدفقات المالية من الخارج وزيادة صعوبة تمويل الدولة بالعملات الأجنبية، ما يزيد الضغط على الليرة. ويعود ذلك إلى ارتفاع عجز الموازنة وشعور المستثمرين بأنّ لا قدرة للدولة على خفض نفقاتها. وقد أثبتت تجارب سقوف الإنفاق في العديد من الدول قدرتها على خفض العجز وتحفيز الإصلاح، خصوصاً عند اعتمادها كقاعدة دستورية (كما هو الحال في سويسرا).
وقد وعدت الحكومة اللبنانية بورشة قوانين إصلاحية تعيد ثقة المانحين والمستثمرين. فهل يخطو لبنان باتجاه تعديل دستوري يفرض سقفاً للإنفاق ويعطي إشارة قوية للمجتمع الدولي والأسواق المالية على مصداقية الوعود بالإصلاح؟