تمخضت الحكومة… فولدت حبراً على ورق إصلاحات الكهرباء تفوح منها رائحة فيول البواخر

تمخضت الحكومة… فولدت حبراً على ورق إصلاحات الكهرباء تفوح منها رائحة فيول البواخر

تمخض الجبل فولد فأرا… وهكذا حال الحكومة مع الورقة الاصلاحية التي توصلت اليها بعد مهلة الـ72 ساعة التي طلبها رئيسها لتقديم حلول للإصلاح الاقتصادي والاستجابة للمطالب الشعبية. ثار الشعب وصدحت الحناجر، واقفل البلد، وافترش الناس الطرق والساحات، وكلّت ألسنتهم من مطالبة الحكومة بالرحيل والاستقالة، واعادة تشكيل نظام حكم جديد شفاف يضع نصب عينيه اجراء عمليات تطهير وتنظيف الادارة من الفاسدين والضرب بيد من حديد لاستعادة الاموال المنهوبه على يد مسؤولين احتكروا الدولة وحولوها الى مزارع ومالياتها الى حساباتهم، وبنوا قصورا وامبراطويات مالية عابرة للقارات.

انتظر الناس قرارا بحجم اصواتهم، وأملوا ولو أملا ضئيلا أن يستفيق أحد ما في السلطة ويستجيب لمطالبهم. ولكن الحكومة كعادة أهل السلطة لم تر الناس ولا تريد، ولم تشعر بوجعهم، فاختبأت منهم ولجأت الى جلسة وصلوا اليها تهريبا خوفا من الناس، واجتمعوا ساعات بعيدا وأقروا ما قالوا إنها اصلاحات، ولكن في الواقع هي ليست سوى أفكار ملّت منها الناس، طروحات مكررة معظمها فاشل غير قابل للتطبيق وبعضه مؤجل لإقراره في المجلس النيابي الذي من غير المضمون ان يوافق عليه.

تضمنّت ورقة الإصلاحات التي أعلن عنها الرئيس الحريري عددا من البنود يذهب في اتجاه خصخصة بعض المرافق العامة ذات الطابع التجاري، على أمل تحسين خدماتها وزيادة وارداتها. ولكن قطاع الكهرباء، الذي يعاني خسائر سنوية ضخمة مسؤولة عن 45% من الدين العام، بقي عصيا على التغيير، علما انه الأحوج اليه. وتتحدث الورقة عن تأمين الكهرباء في النصف الثاني من العام 2020 عبر الإسراع في إبرام عقود بناء معامل دائمة وموقتة وشراء الطاقة في مواقع عدة منها الزهراني وسلعاتا ودير عمار. وتقترح الورقة الموافقة على دفتر الشروط المعدّ من وزارة الطاقة واجراء المناقصة من خلال ادارة المناقصات وتقصير المهل.

الإصلاحات التي أعلنها الحريري، وفق ما يقول المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه غسان بيضون، تفوح منها رائحة الفساد “المعتق” وفيول البواخر، معتبرا أن الرابح الأكبر من الورقة و”الإصلاحات” هو الفساد والقطاع الخاص، لاسيما في قطاعي الكهرباء والخليوي. وقد فتحت “الاصلاحات” الباب واسعاً لأطماع القطاع الخاص ونهمه لالتهام ما تبقى من مرافق وموارد وأملاك و”شركات عامة”.

وتبين له من مجمل المقررات أن “الرابح الأكبر هم رعاة الطاقة ومستغلوها، إذ بقي مجلس إدارة كهرباء لبنان على حاله من دون أن تطاله مروحة التدابير الواسعة التي جددت ولاية الهيئة الناظمة لقطاع النفط، وأحيت مشروعي أليسار ولينور، وتم تأجيل تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، وربطه بإقرار تعديلات قانون تنظيم قطاع الكهرباء في مجلس النواب، وربحوا تمرير مناقصة الغاز”.

كما أن “بدعة تكليف رئيس مجلس الوزراء ووزيرة الطاقة ووزير المال ومن يرونه من خبراء واستشاريين لإجراء مفاوضات مباشرة مع الشركات التي رسا عليها الالتزام موقتاً وتوقيع العقود ضمن مهلة أقصاها 28/2/2020، يطرح السؤال عن مبررات إجراء مفاوضات يمكن أن تفتح الباب واسعاً لنوع من “المساومة التي يمكن أن تؤدي إلى تعديلات حول بعض الشروط التي أجريت عليها المناقصة، كما حصل في تلزيم معملي الزوق والجية، حيث حصل وزير الطاقة في حينه على تنزيل بنحو مليون دولار، ليتبين لاحقاً أنه كان بمثابة “طعم”، وأن هذا التفاوض كان يخفي إعطاء الأولوية للشروط الفنية الواردة في عرض الملتزم على المواصفات المحددة في دفتر شروط المناقصة، بالرغم من إلزامه، خلال إجراءات المناقصة، التخلي عن الاختلافات الواردة في عرضه لقبول هذا العرض، وبالرغم من توصية ديوان المحاسبة بالتشدد في مراقبة التنفيذ، ولاسيما بالنسبة الى الشروط الفنية التي ربح الملتزم المناقصة على أساسها”. وذكر بيضون أنه اعترض على التعديل الناتج من “التفاوض”، وتأخر تنفيذ المعملين وإدخال الدولة في دعوى تحكيم أقامها المتعهد استناداً إلى مفاوضاته مع الوزير”. وسأل عما إذا كانت “نتيجة التلزيم ستعرض على رقابة ديوان المحاسبة أم أنها ستسلك خط مجلس الوزراء العسكري حيث يمكن أن يحتمي الفساد؟! وماذا عن “تقييم العروض عبر خبراء تعينهم وزارة الطاقة؟! ألم يحصل ذلك في تلزيم دير عمار 2 حيث لم تتمكن إدارة المناقصات من معرفة أسس التقييم المطبقة ومدى عدالتها وحيادها، ولم تدخل في عملية التقييم من أصلها والتي بقيت على ذمة مستشاري الوزير وبتغطية مجلس الوزراء المستند إلى ما يتكرم به وزير الطاقة على هذا المجلس المؤمن بكفاية وزير الطاقة وأمانته. وأشار الى إقرار دفتر شروط معامل الكهرباء والموافقة لوزير الطاقة على تعيين خبراء للمشاركة في هذه المناقصة، معتبرا أن “كلا التدبيرين يؤدي إلى محاصرة إدارة المناقصات وتحجيم دورها وحصره بتقييم العروض بالشراكة مع الخبراء الذين ستعينهم وزيرة الطاقة”.

أما بالنسبة الى وضع سقف 1500 مليار ليرة لعجز الكهرباء فهو ليس جديدا وفق بيضون، “إذ كان قد ورد في قانون موازنة 2017 و2018 وجرى الانقلاب على هذا السقف ليرتفع إلى 2742 مليار ليرة، وتلته محاولة شطب سلف الخزينة للكهرباء بآلاف المليارات بذريعة سقوطها بمرور الزمن الخماسي!”.

الالتفاف على دور إدارة المناقصات؟

بعد نزول الشعب إلى الشارع، حاولت الحكومة الاستجابة للمطالب عبر الامتناع عن زيادة الضراب وإقرار بعض الإصلاحات. ولكن اللافت أن ملف الكهرباء لم يطله الإصلاح قيد أنملة، بل تم التلميح الى الالتفاف على دور إدارة المناقصات الرقابي وبناء محطات تغويز تفوق حاجات لبنان والإصرار على سفن الكهرباء عبر تقصير المهل.

فهل يكون التقاعس عن إجراء إصلاح حقيقي بالكهرباء شرارة انطلاق مرحلة جديدة من الاعتصامات؟

بحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني “فقد تعودنا الاستعجال في مناقصات قطاع الكهرباء، تارة بسبب حاجة لبنان الى الكهرباء قبل موسم صيف 2017 ثم صيف 2018، وطورا بحجة الاستجابة لمطالب المجتمع الدولي او مطالب الشعب. لكن الحقيقة ان كل التأخير يعود الى عدم عرض وزارة الطاقة دﻓﺗر اﻟﺷروط واﻟﻣﺳﺗﻧدات على إدارة المناقصات، وهو إجراء ﻣﻠزم قانونا، وشرعت في إضاعة الوقت عبر عرضه ﻋﻠﻰ ﻣﺟﻠس اﻟوزراء، وهو إجراء غير ﻣﻠزم. والآن تستغل التظاهرات والاعتصامات للتهرب من تدقيق ادارة المناقصات لدفتر الشروط، علما أنها ملزمة ذلك قانونا، وتحاول حصر دور إدارة المناقصة بإجراء المناقصة حتى لو وجدت هذه الاخيرة أن المناقصة تشوبها عيوب، علما أن المناقصة بشكلها الحالي تشوبها عيوب جوهرية ستؤدي الى احتكار قطاع الكهرباء في العقدين المقبلين من بعض الشركات المحسوبة على أطراف باتت تفوز بجميع مناقصات الدولة”.

وتتضمن الورقة إقامة محطة تغويز ومعمل كهرباء في سلعاتا، علما أن شركة Poten & Partners أجرت دراسة أثر بيئي بطلب من وزارة الطاقة، وأظهرت نتائجها أن موقع سلعاتا ليس الحل الأفضل لإقامة معمل تغويز. ويعود ذلك لأسباب عديدة، منها أن البحر مكشوف ويخضع الموقع للعوامل المناخية مثل الريح والأمواج التي تجعله غير عملي. وقد يسبب تركيب منشآت إضافية في البحر بضرر كبير على الثروة البحرية، بما ان هذه المنطقة تتمتع بكثرة ينابيعها وصفاء مياهها ونظافة بحرها.

ويعتبر مارديني ان “لا جدوى من إقامة محطة تغويز في سلعاتا اصلا، لان محطة دير عمار لا تبعد سوى 20 كيلومتراً ويمكن استجرار الغاز منها إلى سلعاتا. كما ان تكلفة إنشاء محطات تغويز في سلعاتا تقدر بنحو 4 مليارات دولار والدولة لا تحتاج اليها في ظل وجود واحدة في دير عمار. ويعاني بناء معمل الكهرباء في سلعاتا مشاكل تقنية، إذ لا تتوافر حاليا أي بنية تحتية كهربائية مناسبة. ولا وجود لمحطة فرعية Substation (التي تخفض التوتر) ولا وجود لنظام نقل (Transmission System)، وما الى ذلك من أمور، كما أنه ثمة صعوبة في ربط المعمل بالشبكة وأماكن مرور التوتر بما قد يؤدي الى ظهور مشكلات على غرار ما حصل في وصلة المنصورية – عين سعادة في منطقة البترون”.

أما الحديث عن تقصير المهل فيعني وفق ما يقول مارديني العودة الى منظومة الحل الموقت، اي السفن، مشيرا الى أن شركة Fichtner كانت قد وضعت دراسة تشير الى أن الحل الموقت سيكبد الشركة الفائزة بكل موقع نحو 330 مليون دولار من الخسائر في السنوات الخمس الأولى. وتضيف الدراسة ان هذه الخسارة المرتفعة غير مقبولة ولن يسمح بها أي مصرف، ولا يمكن الشركة تعويض الخسارة إلا بعد أن تتخلص من الحل الموقت في السنوات اللاحقة. وتؤكد المخاوف من الكلفة الخيالية للحل المؤقت، وتبين أنه استثمار غير موضوعي لا يمكن تمويله، ولكن الورقة الاصلاحية لم تستطيع اصلاح هذا البند”.

قياسا على تجربة السنوات الماضية، لا يمكن المؤمن العاقل أن يلدغ مرة أخرى من جحر المسيطرين على قطاع الطاقة بمختلف مرافقها، وليس له إن صدَق مرة إلا أن يستغفر الله

إضغط هنا لقراءة المقال على الموقع النهار