بدأ اتجاه لبنان لمعالجة الأزمة المصرفيّة يتّضح، وذلك عبر: (1) تقييد حركة الأموال و(2) «لبننة» جميع السحوبات و(3) فرض «هيركات» بنسبة حوالى 50 % على سحوبات من يملك أكثر من 3000 دولار و(4) الإبقاء على ملكية المصارف لأصحابها المدعومين عبر تحميل خسائرهم للمودعين و(5) وهب المصارف غير المدعومة للمصارف المدعومة تحت ستار إعادة هيكلة القطاع. وتأتي هذه الإجراءات في ظل تفشي وباء «الكورونا»، فيجد اللبناني نفسه غير قادر على الاعتراض، وعالقاً بين مطرقة حظر التجمعات وسندان حلاقة سحوباته على الناشف.
ابتدأ الأسبوع الماضي بالجدال حول قانون تقييد حركة الأموال الذي فضّلت القوى السياسية إقراره عن طريق تعميم من المصرف المركزي على إصداره بقانون عن مجلس النواب. ويسمح هذا الإخراج للسلطة السياسية بالتهرّب من تحمّل مسؤولية التصويت على تقييد حركة الأموال والتبرؤ منها كلامياً ورمي كرة النار على القطاع المصرفي. ويأتي تقييد حركة الأموال بعد خروج أموال المدعومين وأصحاب النفوذ إلى الخارج، ومن بينها تحويل أموال إلى مصارف سويسرية بقيمة 2.3 مليار دولار بين 17 تشرين الأول و14 كانون الثاني، بينما يعاني الأوادم، الذين لا ظهر لهم، الأمرّين لسحب ودائعهم. وستؤدي هذه القيود إلى فقدان ما تبقّى من ثقة بالقطاع المصرفي وبالدولة، لأنّ الأسواق الماليّة والمغتربين والشعب، سيعتبرون أنّ الهدف الوحيد منها هو تجميد أموالهم تمهيداً للسطو عليها. وعليه، ستنخفض التحويلات الخارجيّة (Capital Account& Transfers) بشكل حاد، وهي التي كانت تشكّل مورد لبنان الأساسي من العملة الصعبة، ما سيفاقم من حدّة الانهيار الاجتماعي.
وقد انتهى الأسبوع بتعميمين لمصرف لبنان «يلبننان» جميع السحوبات على سعرين للصرف: الأول 1500 ليرة مقابل كل دولار يسحبه المودع الذي يملك في حسابه أكثر من 3000 دولار، والثاني «سعر السوق»، الذي يُستعمل للبننة سحوبات من يملك في حسابه أقل من 3000 دولار. ويُحدّد سعر السوق في وحدة خاصة للتداول بالدولار، ومن المرجح أن يكون 2000 ليرة لكل دولار، بما يتماشى مع إجراءات المصرف المركزي السابقة بحق الصيارفة. أما نتائج هذين التعميمين، فهي حلاقة (Haircut) بنسبة 50% على سحوبات من يملك أكثر من 3000 دولار و33% على سحوبات من يملك أقل من 3000 دولار، هذا إذا ما بقيت قيمة الدولار بـ 2990 ليرة في السوق الموازية. ويسمح اعتماد نسبتين للحلاقة (50% و33%) بإيهام أصحاب الودائع الصغيرة جداً بأنّهم رابحون، لأنّهم يحصلون على علاوة مقارنة بباقي المودعين، بينما هم في الحقيقة يتعرّضون لحلاقة أخف.
أما الحلاقة، فتحصل على الناشف، لأنّ نسبتها ستزداد كلما ازداد تدهور سعر الصرف في السوق الموازية، كما سيتحمّل المودعون أنفسهم خسائر المصارف بدلاً من أصحابها. وقد كان من الأجدى الطلب من شركات تدقيق خارجيّة (External Audit) ودوليّة موثوقة (Big Four) تحديد حجم القروض المتعثرة لدى المصارف من سندات خزينة وتسليفات، لحسمها من رأس مال أصحاب المصارف. فإذا كان رأس المال غير كافٍ لتغطية الخسائر، يتعيّن على أصحاب المصارف ضخّ رأس مال جديد (Fresh Capital) يُجلب من الخارج من أرباح المصارف الماضية أو من مستثمرين جدد. وتخرج المصارف التي تنجح بذلك من الأزمة؛ أمّا المصارف غير القادرة أو غير المستعدّة لضخّ أموال جديدة، فيخسر أصحابها رأس مالهم وملكيّتهم للمصرف. وفي هذه الحالة، يُعتبر المصرف في حكم الإفلاس وتنتقل ملكيّته إلى الجهة التي ستدفع الخسائر.
وإذا ما قرّرت الدولة تحمّل هذه الخسائر من أموال الخزينة، يصبح المصرف ملكاً للدّولة؛ ولكنها غير قادرة على ذلك بسبب العجز وتعليق سداد الديون. أمّا إذا قرّر المصرف المركزي تغطية الخسائر، فتنتقل إليه ملكيّة المصرف المتعثر؛ ولكنّ شحّ إحتياطي الدولار يُفترض أن يمنعه من الإقدام على مغامرة كهذه. من هنا، نرى أنّ إنقاذ القطاع العام للمصارف (Bail-out) غير وارد، وعليه لا يتبقّى سوى أن يستملكها كبار المودعين الذين تلقّوا فوائد مرتفعة في الماضي (Bail-in) بحيث توزَّع الملكيّة عليهم بعد حسم الخسائر المتبقية من ودائعهم. وبما أنّ كبار المودعين أصبحوا أصحاب المصارف الجدد، يعود لهم قرار إبقاء المصرف في العمل أو تصفيته وبيع أصوله لاسترداد ما يمكن من أموالهم؛ فإذا قرّروا الاستمرار في العمل، تُحلّ مشكلة المصرف لأنّه غطّى خسائره وانتقلت ملكيته إلى الدائنين، أمّا إذا قرّروا التصفية فيتمّ الدفع لصغار المودعين أولًا ولأصحاب المصرف الجدد (أي كبار المودعين) أخيراً.
ولكن بدلاً من اعتماد هذه الآليّة الشفّافة، التي تسمح بمعالجة الأزمة المصرفيّة بطريقة عادلة تحفظ حقوق الأوادم وتوزع الخسائر على من أخطأ كلٌ بمقدار خطأه، يبدو أنّ الاتجاه هو لتحميّل خسائر المصارف للمودعين تدريجياً، عبر لبننة سحوباتهم على أسعار صرف وهمية. اما ملكيّة المصارف فتبقى بيد مُسَبِّبي الخسائر، هذا إذا ما كانوا من المدعومين؛ أما إذا كانوا «بلا ظهر»، فتُصادر مصارفهم وتُعطى للمدعومين تحت ستار إعادة هيكلة القطاع وعمليات الدمج والشراء. وهذا ما يشرح الاستشراس في معركة التعيينات الماليّة التي كادت أن تطيح الحكومة. فالحصول على حصص وازنة في التعيينات المالية يسمح بتقريّر الرابحين والخاسرين من المصارف على أساس المحسوبيّات والزّبائنيّة، بدلاً من الآليّة الشفّافة التي عرضتها. ومن هنا يكثر الحديث عن تغيير «طبيعة النظام الاقتصادي اللبناني» والادّعاء بأنّ لبنان لا يحتاج إلى 40 مصرفًا بل إلى حوالى 10 مصارف فقط، والتّي ما هي إلّا جدار دخان يُستعمَل لتبريّر تحاصص المصارف العشرة المتبقيّة.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع الجمهورية