تعددت الوسائل والاجراءات التي تتبعها دول العالم للتخلص من جائحة “كورونا” فمنها من يحض الناس على البقاء في منازلهم، فيما اكتفى بعضها الآخر بالنصح وتوعية المواطنين، واشترط آخرون على المؤسسات تأمين ظروف عمل صحية تمنع تفشي الوباء، إلا ان معظمها فرض العزل المنزلي في محاولة للحد من انتشاره. وفي جميع الأحوال، تسعى هذه الدول الى تأخير انتشار الوباء ريثما يظهر علاج أو لقاح يقضي عليه.
تتسابق كبريات الشركات العالمية ومختبرات الأدوية لإيجاد العلاج واللقاح المناسبين وتسخر مليارات الدولارات وتجير أضخم الموارد لهذه الغاية. أما الذي يدفع هذه الشركات إلى التضحية بالمليارات لمساعدة أناس لا تعرفهم ولم تلتق بهم ولن تراهم في حياتها، هي “الملكية الفكرية”. فمهما بلغت قوة التضامن الاجتماعي والمحبة والتعاطف، فإنها لن تستطيع وحدها تجيير الموارد الكافية لإيجاد حلول سريعة وشافية لفيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) ما لم تترافق مع الأمل بالحصول على عائد مادي لقاء الاستثمار والمجهود. من هنا يؤكد رئيس المعهد اللبناني لدراسة السوق الدكتور باتريك مارديني “أهمية براءة الاختراع التي تعطي حق ملكية لإنتاج دواء لجائحة “كوفيد 19 ” ويمنع الشركات المنافسة من تصنيعه لمدة من الزمن عادة ما تكون 20 سنة من وقت إصدار البراءة”. هذا الامتياز يسمح للشركة المبتكرة للدواء باسترجاع كلفة استثمارها وتحقيق الأرباح مع مرور الوقت، ما يشجعها في الأساس على إنفاق التكاليف وبذل الوقت والجهد لإيجاد دواء لهذه الجائحة العالمية. أما حرمان هذه الشركات من القدرة على الافادة من ابتكارها، فقد يثبط عزيمتها وينقل اهتمامها لإنتاج أدوية تعالج أمراضا أخرى يمكن أن تدر اموالا تكافئ العلماء والمبتكرين واليد العاملة، ويعوض عن المخاطر التي تتحملها الشركة”.
ثمة تحالف دولي يتشكل من 96 مؤسسة فكرية في 50 دولة بينها المعهد اللبناني لدراسة السوق، هذا التحالف يدعو القادة لحماية الملكية الفكرية. وقد طلبت بعض الاطراف في عدد من الدول استخدام “الإجازات الإجبارية” Compulsory Licensing للأدوية المتعلقة بكوفيد 19. وتسمح الإجازات الإجبارية للشركات المحلية بإنتاج دواء مسجل باسم شركات أخرى دون موافقة مالكها الأصلي تحت ذريعة المصلحة العامة، فيما اقترحت الحكومة الكندية ومجلس نواب تشيلي والإكوادور استعمال الإجازات الإجبارية والسماح بتصنيع اللقاحات والأدوية والإمدادات الطبية المفيدة للوقاية من كورونا دون الحاجة إلى موافقة الشركة المالكة لهذه الابتكارات.
ويعتبر مارديني “هذه الاقتراحات غير مبررة، لأنها إذا اعتمدت بشكل ممنهج في جميع دول العالم ستؤدي إلى تقليص الأمل في إيجاد علاج أو لقاح لـ”كوفيد “19 في أسرع وقت ممكن لمنعها الشركات المبتكرة من الافادة من مردود ابتكارها. من هنا تطيل هذه السياسات من أمد الأزمة وتعمقها على الرغم من نواياها الحسنة، كما تشعر المشرع وصاحب القرار بأنه يساعد مجتمعه بينما هو في الحقيقة يؤخر العلاج عليه وعلى بقية البشرية. كما ان هذه السياسات ليست ضرورية، لان كبريات الشركات العالمية (جينيرال موتورز ولوي فويتون ولوريال وغيرها) بدأت أصلا في تصنيع مستلزمات الوقاية من كوفيد 19، كما قامت الشركات المالكة لبراءات اختراع أدوية قد تساعد في معالجة كوفيد 19 بتعليق تطبيق حقوقها من تلقاء نفسها، ومنها شركة تصنيع الأدوية الشهيرة “أب في” AbbVie” مع دواء Kaletra (Aluvia)، ما يسمح لجميع الشركات الأخرى بإنتاج هذا الدواء دون انتهاك حقوق براءة الاختراع. من هنا، نرى أن أضرار الإجازات الإجبارية تفوق فوائدها”.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم الدول امتنعت حتى تاريخه عن استخدام الإجازة الإجبارية، وإن كانت قوانينها الداخلية تجيز ذلك في حال اقتضى الأمر حماية الصحة العامة وتأمين المصلحة العامة. ويوضح المحامي ريشار ديب ان “المادة رقم 31 من اتفاق تريبس تمنح الدول الأعضاء مرونة في ما يخص الإجازات الإلزامية، وتعطي لكل منها الحق في إصدار إجازات إجبارية وحـــــرية تحديد الأسس (grounds) التي تمنح هذه الإجازات استناداً إليها. وكذلك يحق لكل عضو أن يحدد ما يعتبره حالة طوارئ قومية أو ضرورة قصوى، علما أن أزمات الصحة العامة ـ بما في ذلك أمراض نقص المناعة والسل والملاريا والأوبئة الأخرى ـ تعتبر عادة ظروف تستدعي الضرورة القصوى”.
ويعتبر ان “امتناع غالبية دول العالم عن استخدام الإجازة الإجبارية يعود الى أنها أظهرت على مر السنين انها لا تؤدي إلى تخفيض الأسعار، بل تقتصر على الحد من الاستثمار والتجارب والبحوث السريرية وتثبط عزيمة الشركات عن تزويد السوق بأدوية جديدة. وعلاوةً على ذلك، تثير الإجازات الإجبارية بعض المخاوف المتعلقة بالسلامة، حيث يتعرض مستخدمو المنتجات المقلدة لمخاطر لا تُحمَد عقباها بسبب انخفاض جودة الأدوية غير المعتمدة. وكذلك تنفرد بلدان العالم الثالث بالعديد من الأمراض التي لم يُكتشَف لها أي علاج بعد؛ فإذا ضمنت هذه البلدان حماية براءات الاختراع، يتوفر حافز لشركات الأدوية متعددة الجنسيات يجعلها تستثمر في البحوث الرامية إلى إيجاد علاجات لهذه الأمراض”.
وفي حين يعتقد البعض ان الإجازات الإجبارية قد تساعد في تجنب شح الأدوية، ينفي مارديني وجود ادلة علمية على ذلك، ويؤكد ان اثرها يقتصر على منع مالكي براءات الاختراع الأصليين من تعويضهم بطريقة عادلة عن التكاليف التي تكبدوها في أبحاثهم حتى يتمكنوا من الاستمرار في اختراعاتهم؛ كما يفقد المخترعون والمبتكرون الحوافز اللازمة للاستمرار في تصنيع الأدوية الجديدة والمطورة لمعالجة جائحة كوفيد 19، ما يأخر ظهور علاج أو لقاح يقضي عليه. ويطيل هذا التأخير من مدة التوقف عن العمل، كما تترتب عليه تكاليف ضخمة في جميع دول العالم، ومن بينها الدول التي اعتمدت الإجازات الإجبارية، بأضعاف ما يمكن أن تحصله هذه الدول من جراء اعتماد تلك الإجازات”.
تميز لبنان بفاعلية مواجهته لجائحة كوفيد 19 من خلال جدية وسرعة الإجراءت التي اعتمدتها الحكومة وأيضاً من خلال الإمتناع عن التسويق للإجازة الإجبارية. ولكن لبنان يحتل المرتبة 63 عالميا على مؤشر حقوق الملكية الدولي والمرتبة 120 فيما يتعلق بتوفير حماية الملكية الفكرية ما يعيق قدرة المختبرات اللبنانية على المشاركة بالمجهود العالمي لايجاد علاج أو لقاح لهذا المرض ويحرمها من رؤوس الاموال الدولية المخصصة لهذه الأبحاث. كما يحتل لبنان المرتبة 63 من أصل 86 دولة على مؤشر حاجز التجارة الدولية ما يعني ان لبنان يفرط باستعمال السياسات الحمائية. فعلى سبيل المثال يفرض لبنان تعرفة جمركية على لوازم محاربة كوفيد 19 بما في ذلك الأجهزة الطبية (2.5%) ومعقم اليدين (2.14%). وهذا يعني ان البحث عن ايردات للدولة قد يأتي أحيانا على حساب صحة المواطن.