قبل أيام نشر ناصر ياسين، مدير الأبحاث في “معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدوليّة” في الجامعة الأميركيّة في بيروت، مجموعة أرقام صادمة لما تعرّضت له رواتب اللبنانيين وأجورهم نتيجة الانهيار المالي في البلاد. باختصار، تدنّى الراتب النموذجي للبنانيين، الذي يعبّر عن متوسّط الأجور في السوق اللبناني، من حوالي 15.599 دولار أميركي سنويّاً قبل انهيار سعر صرف الليرة، أي 1.333 دولاراً شهرياً، إلى حدود 3.342 دولار سنويّاً بعد هذا الانهيار، أي 278 دولاراً شهرياً. بمعنى آخر، خسر اللبنانيون ما يقارب 79% من قيمة أجورهم بين الفترتين. مع العلم أنّ التقديرات الجديدة اعتمدت سعر صرف يقدّر عند حدود 7000 ليرة مقابل الدولار، ما يعني أنّ الأجور خسرت المزيد من قيمتها بعد أن شهد سعر الصرف المزيد من التدنّي خلال الأيام الماضية، وصولاً إلى حافة 9000 ليرة.
في الواقع، عندما بلغ الراتب النموذجي اللبناني مستوى الـ 15.599 دولار سنويّاً قبل حصول الانهيار المالي، كان يتقدّم بذلك عن معظم المنطقة، كتركيا ومصر والأردن والعراق. لكنّ الانهيار الأخير جعل من الراتب النموذجي اللبناني يتدنّى إلى ما دون 30% من مستوى الرواتب النموذجيّة في العراق ومصر، وإلى ما دون 23% من الراتب النموذجي الأردني، وإلى أقل من 27%من الراتب النموذجي التركي. بمعنى آخر، بات اللبنانيون من أفقر شعوب المنطقة من ناحية متوسّط الدخل، إذا ما قمنا بقياس قيمته الحقيقيّة بعد احتساب التدنّي في سعر الصرف.
تقول الأرقام إنّ هناك دولتين وحيدتين شهدتا انهياراً شبيهاً في سعر الصرف، وهو ما جعلهما تسجّلان رواتب نموذجيّة تقلّ عن الراتب النموذجي اللبناني، وهما سوريا وإيران. فسوريا شهدت خلال الفترة نفسها تدنّياً في الراتب النموذجي من حدود 2000 دولار سنويّاً إلى حوالي 418 دولاراً، فيما سجّلت إيران تدنّياً في الراتب النموذجي إلى حدود 2000 دولار أميركي بعد أن لامس هذا الرقم مستوى 11 ألف دولار أميركي قبل الانهيار الأخير في سعر صرف العملة المحليّة في إيران. وبالتالي، يمكن القول إنّ لبنان بات من هذه الناحية الدولة الأفقر في المنطقة بعد سوريا وإيران.
إحصاءات ستيف هانكي، التي تعبّر عن مستويات التضخّم في بلدان العالم المختلفة، تشير إلى حقائق أخرى مخيفة على هذا الصعيد. فلبنان سجّل حتّى 25 حزيران من هذا العام ثالث أعلى مستوى تضخّم على مستوى العالم، بنسبة 363%، متخطياً بذلك سوريا التي سجّلت معدّل تضخّم بلغ حدود 314%. وقد كانت تستحوذ على المرتبة الثالثة قبل التطوّرات الأخيرة في لبنان. في الواقع، لم يسبق لبنان في اللائحة سوى زيمبابواي وفنزويلا، وهي دول سبقت لبنان زمنيّاً في انهياراتها الماليّة والنقديّة، ما يدفع إلى التوجّس من إمكانيّة دخول لبنان في نفق التجربة الفنزويليّة، أي تجربة انهيار العملة إلى مستويات خياليّة. مع العلم أنّ فنزويلا سجّلت هذا العام، وفقاً لإحصاءات هانكي نفسها، مستوى تضخّم بلغ حدود 2.553%.
لا يوجد إذاً ما يبشّر بالخير على مستوى الأزمة المعيشيّة، خصوصاً أنّ أرقام ناصر ياسين نفسها، والمستندة على معطيات مسح القوى العاملة والأحوال المعيشيّة للعام الماضي، وبعد احتساب سعر صرف الدولار الحالي، تدلّ على أنّ أكثر من 60% من اللبنانيين سيعتاشون بأقل من 1.3 دولار أميركي في اليوم الواحد، فيما سيعتاش أكثر من 80% منهم على أقل من 3.6 دولار في اليوم. وأرقام ياسين تدلّ على أنّ أكثر من 64% من اللبنانيين سيصبحون تحت خطّ الفقر المدقع، فيما 84% منهم سيصبحون تحت خطّ الفقر. مع العلم أنّ الأمم المتحدة تعرّف الفقراء المدقعين بالأشخاص الذين يعتاشون على أقل من 1.9 دولار في اليوم الواحد.
الجوع أصبح أمراً واقعاً إذاً، وتؤكّد ذلك أرقام الجمارك اللبنانيّة التي تدلّ على أنّ واردات لبنان من السلع تدنّت بنحو 42% في الأشهر الأربعة الأولى من العام، مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، في دلالة على تدنّي القدرة الشرائيّة للبنانيّين، وتراجع قدرتهم على الاستهلاك مع ارتفاع سعر الصرف وانهيار قيمة أجورهم. ولذلك، بات من المألوف رؤية مشهد الرفوف الفارغة في المتاجر، أو سماع قصص عن توقّف القصّابين (اللحامين) تدريجيّاً عن بيع اللحم بعد تراجع الطلب عليه نتيجة ارتفاع الأسعار. كما بات معروفاً أنّ العدد الأكبر من متاجر الألبسة التي لم تقفل قرّرت الاكتفاء بتصريف بضاعتها الموجودة دون استيراد أيّ بضاعة جديدة، نتيجة عجز اللبنانيين عن تحمّل أسعار البضاعة المستوردة.
أمام هذا المشهد القاتم، لا يبدو أنّ السلطة في لبنان تملك ما يمكن الرهان عليه، بعد أن أحرقت جميع أوراقها. مصادر صندوق النقد الدولي أكّدت لصحيفة “واشنطن بوست” الأميركيّة استبعاد موافقة الصندوق على منح قرض للبنان، نظراً لفشل الحكومة في تقديم خطة إصلاح حقيقيّة، وهو ما تقاطع مع تسريبات أشارت إليها “أساس” سابقاً من مصادر لبنانيّة متابعة لعمل الصندوق. أمّا فرنسا، فتخلّت عن موقفها الذي لطالما منح لبنان معاملة تفضيليّة مميّزة، نتيجة المؤشّرات السلبيّة التي تلقتها من أداء الحكومة نفسه. وبغياب الدعم الأميركي والخليجي، الناتج عن سياسة البلاد الخارجيّة، لم يعد هناك ما يمكن انتظاره من دعم مالي من الخارج.
ببساطة، على البلاد أن تنتظر الأسوأ كلّ يوم، ما لم يطرأ تغيير فعلي في الإدارة السياسيّة والاقتصاديّة والإصلاحية للأزمة، ما لا يبدو أمراً وشيكاً إن لم يحصل تغيير في عقل السلطة التي تدير هذه الأزمة.
إضغط هنا لقراءة المقال على موقع أساس ميديا