قدرةٌ “عجائبية” تمتلكها السلطتان السياسية والنقدية على تحويل “الخير العام” إلى “شرٍّ مطلق”. المطلب المحقّ برفع الدعم عن كل السلع، وآخرها الأدوية، لحماية المتبقّي من احتياطي العملات الأجنبية، وإقفال باب التهريب وتوفّر الأدوية في الأسواق، أرادت الحكومة به باطلاً.
عدا عن أنها لم تؤمّن البديل المتمثل بالبطاقة التمويلية قبل رفع الدعم كما وعدت، فقد جرّبت الحكومة مع “الأدوية” ما أثبت فشله مع السلع الغذائية والمحروقات، بدلالة واضحة على أن “عقلها مخرّب”. فـ”شطّار” السلطة لم يتعلموا من تجربة فشل رفع الدعم الجزئي عن المحروقات مؤخراً وما سببه من استمرار للتهريب، وانقطاع المادة، وتخزينها، وبيعها في السوق السوداء بأسعار مضاعفة، فـ”كرروا” الأمر مع الأدوية. حيث رفعت وزارة الصحة الدعم عن الأدوية المزمنة بنسب متفاوته حسب الثمن. فأبقت الدعم بنسبة 65 في المئة على الأدوية المزمنة مرتفعة الثمن، و45 في المئة على المتوسطة الثمن، وحوالى 25 في المئة على المنخفضة الثمن. وكانت النتيجة ارتفاعاً في الاسعار وانقطاعاً في المواد.
رد الفعل المباشر على قرار رفع الدعم الجزئي سيكون بحسب الباحث الاقتصادي والقانوني في “المعهد اللبناني لدراسات السوق” (LIMS) كارابيد فكراجيان “ارتفاع معدلات التهريب لتعويض الفرق في السعر. حيث من المتوقع أن يعمد المهربون إلى زيادة الكميات المهربة للمحافظة على هامش الربح نفسه. في المقابل ستزداد نسب التخزين عند التجار والمواطنين على حد سواء. وإذا كان مفهوماً احتفاظ المرضى بأكبر عدد ممكن من الأدوية خوفاً على صحتهم، فإن التجار سيخزّنونها لبيعها في السوق السوداء لتحقيق أرباح أعلى، أو أملاً بتخفيف نسب الدعم أكثر في المستقبل. وذلك كما حدث بالضبط مع البنزين والمازوت والغاز.
ما يجري سيؤدي إلى رفع أسعار الأدوية المزمنة في السوق السوداء مع عدم توفرها في الصيدليات، بسيناريو مطابق لما جرى مع رفع الدعم الجزئي عن المحروقات الذي استمر من أيار الفائت ولغاية مطلع تشرين الأول، مع الفرق أن عدم توفر البنزين يوقف الأعمال، فيما يوقف عدم توفر الدواء الحياة. وليفترضها كل واحد على نفسه أو عائلته ويترك لخياله تحديد خطورتها.
بالأرقام، يدفع لبنان شهرياً 35 مليون دولار على الأدوية المستعصية، من ضمنها حوالى 10 ملايين دولار على الأدوات الطبية، فيما تبلغ التكلفة الشهرية لأدوية الامراض المزمنة حوالى 25 مليون دولار. فاذا كانت هذه المبالغ متوفرة في مصرف لبنان فـ”الأولى به أن يعطيها مباشرة للمرضى لشراء الأدوية بدلاً من دعم السلعة وذهابها مباشرة إلى جيوب المهربين والمحتكرين”، برأي فكراجيان. ففاتورة الدواء التي وصلت في العام 2020 إلى مليار و200 مليون دولار كانت تكفي لاعطاء الـ 5.2 ملايين مواطن حوالى 230 دولاراً سنوياً. وكان ليكون نصيب العائلة ما يقارب 1000 دولار سنوياً مخصصة فقط للدواء. هذا من دون الأخذ بالاعتبار ان هناك نسبة تقدر بين 20 و30 في المئة ستستثني نفسها من هذه الآلية لعدم حاجتها. وبحسب فكراجيان فإن “الدعم المباشر لم يكن ليوفر وصول الأدوية إلى محتاجيها فحسب، إنما كان ليحد من انهيار سعر الصرف”.
مرة جديدة، تكرر الحكومة الخطأ القاتل نفسه، لكن هذه المرة من على منبر وزارة الصحة. فيستمر استنزاف احتياطي العملات الأجنبية، التي تمثل خط الدفاع الأخير قبل انهيار الاقتصاد الكلّي، وتنتهك الحقوق الخاصة للمودعين. في المقابل ترتفع الأسعار، وتختفي المواد من السوق النظامية وتنهار الليرة نتيجة زيادة الطلب على الدولار وفقدان الثقة. وعلى عكس كل الآراء التي تنادي باستمرار الدعم، خصوصاً على الأدوية لحماية الفقراء، يرى فكراجيان أن “صون حقوق المواطنين يتطلب: الاصلاح الجدي للملف النقدي، الدعم المباشر للمواطنين، واستعادة الثقة بما يحفز المنظمات الدولية ومنها الصليب الاحمر الدولي أو منظمة الصحة العالية وغيرهما على ضخ المساعدات عبر القنوات الرسمية للدولة، والتوقف عن تخبئة الحقائق ومصارحة المواطنين”. ولعلّ تقديم اليونيسف والسفارة الاميركية في بيروت البارحة 97 طناً من المستلزمات الطبية الضرورية والعاجلة للقطاع الصحي تفوق قيمتها مليون دولار، خير دليل على إمكانية المساعدة في حال توفرت إرادة الاصلاح.