ما زالت العملة اللبنانية تعاني حالة من الانهيار الشديد، إذ تجاوز سعر صرفها أمام الدولار عتبة الـ27 ألف ليرة، ما زاد المشهد الاقتصادي تعقيدا في وقت يعاني فيه المواطن من تراجع المستوى المعيشي يوما بعد يوم.
وتضع المصارف اللبنانية قيودا على السحوبات بالدولار، وتسمح عادة بسحبها بالليرة اللبنانية فقط، وفق سعر صرف يحدده البنك المركزي. وبينما يقترب سعر الدولار في السوق الموازية من 30 ألفا، كان مصرف لبنان يحتفظ رسميا بسعر صرف 1570 ليرة للدولار الموجه لاستيراد بعض السلع الضرورية، لكن جميع السلع تباع بالسعر السوقي. وفي 9 ديسمبر/كانون الأول 2021، رفع مصرف لبنان المركزي سعر صرف الدولار الأميركي المودع في المصارف من قبل المودعين، من 3900 ليرة للدولار إلى 8000 ليرة. وأقر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2021 بأن سعر الصرف الرسمي “لم يعد واقعيا”، بعدما فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 بالمئة من قيمتها أمام الدولار، فيما تتعدد أسعار الصرف في السوق الموازية. ويشهد لبنان أسوأ انهيار اقتصادي منذ عقود، وجاءت جائحة كورونا لتزيد الأوضاع سوءا، ووجد عشرات الآلاف من اللبنانيين أنفسهم خلال الأشهر الأخيرة، يخسرون جزءا كبيرا من القدرة الشرائية لرواتبهم، فضلا عن شح في الوقود والأدوية وارتفاع أسعار السلع الغذائية.
انهيار مستمر
ووسط ما يشهده لبنان من تخبطات داخلية نتيجة انقسامات داخلية ووجود شرخ سياسي حاد، إضافة إلى التخبطات الخارجية الأخيرة مع دول الخليج، تزداد الضغوط على الاقتصاد المحلي والليرة اللبنانية. وبحسب رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، فإن أحد أهم أسباب انهيار الليرة أمام الدولار هو استمرار طباعة الليرة اللبنانية لضخها بالأسواق حيث ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة 7 أضعاف منذ بداية أزمة الليرة. وأضاف مارديني، لـ”الاستقلال”، أن هذا الأمر دفع إلى زيادة تداول العملة المحلية بين أيدي اللبنانيين، مشيرا إلى أنه بمجرد وصول هذه الأموال إلى المتعاملين يقومون بتحويلها إلى دولار، وزيادة الطلب على الدولار يؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من الانهيار لليرة اللبنانية. وتجاوزت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية الموجودة في السوق حاليا، وفق إعلام لبناني، الـ40 تريليون ليرة، بعدما كانت نحو 17 تريليون ليرة عند بداية الأزمة في 2019، بمعدل ضخ نحو ترليونين شهريا. ولفت مارديني إلى أن تعديل المصرف المركزي سعر صرف سحوبات المودعين من حساباتهم بالدولار من 3900 ليرة للدولار إلى 8000 ليرة، يعني مزيدا من طباعة الليرة لتغطية هذا الفارق ما سيزيد من الكتلة النقدية للعملة المحلية في الأسواق. لا سيما مع تهافت اللبنانيين للحصول على ليرات مقابل دولاراتهم بالقيمة الجديدة من البنوك وتحويلها سريعا إلى دولارات قبل ارتفاع سعر الصرف بالسوق السوداء، ما سيزيد الطلب على الدولار ويساهم في ارتفاعه مقابل العملة اللبنانية.
دولرة الاقتصاد
وفي ظل هذا الانهيار أصبح الدولار هو سيد التعاملات البينية بين التجار والمواطنين على صعيد تسعير أغلب البضائع والسلع، إضافة إلى سعر المازوت الذي قامت الدولة بتسعيره رسميا بالدولار. كما انعكس هذا السلوك أيضا على أسعار الأدوية والمستشفيات وأقساط المدارس الخاصة والجامعات وإيجار الشقق والمحلات. وأشار الخبير اللبناني إلى أن معظم السلع أصبحت أسعارها مدولرة، مضيفا أن “الزبائن صحيح أنهم يرون الأسعار بالليرة اللبنانية ولكن بتغير سعر صرف الدولار تتغير الأسعار تبعا لهذا التغير، فعلى سبيل المثال إذا كانت السلعة بـ10 دولار وقت كان سعر الصرف 15 ألف ليرة يعني حقها 150 ألف ليرة عندما أصبح سعر الصرف 20 ألف ليرة أصبح سعر تلك السلعة 200 ألف ليرة”. إلا أن هناك بعض الخدمات لم تدخل في إطار الدولرة وفق مارديني، مثل محلات الحلاقة وغيرها من النشاطات التي تعتمد على الأيدي العاملة بنسبة كبيرة. إضافة إلى المطاعم التي لم تجابه ارتفاع الدولار بشكل كلي نتيجة مساهمة الأيدي العالمة بها بشكل جزئي، وذلك نتيجة أن مرتبات العاملين لم ترتفع كثيرا على قدر انهيار الليرة. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2021، أعلن موظفو الإدارات العامة في لبنان إضرابا مفتوحا، احتجاجا على انهيار قدرتهم الشرائية، وقالت رابطة الموظفين (نقابية) إن الرواتب فقدت 97 بالمئة من قيمتها. ورأى الخبير الاقتصادي اللبناني أن على الدولة السماح بالتسعير بالدولار بشكل مباشر، خاصة وأن ارتفاع السلع مربوط بالدولار، ناهيك عن أن التجار يقومون بعد تحصيل الليرات من الزبائن بتحويلها إلى دولار مباشرة، ما يعني أن الاقتصاد أصبح مدولرا. وتابع: “أنا مع أن يقوم المصرف المركزي بشراء كل الكتلة النقدية الموجودة حاليا بالليرة بما لديه من احتياطيات أجنبية ويلغي الليرة من التداول، لتصبح العملة الرسمية في التداول هي الدولار مثل دولة الإكوادور”. “وبالتالي سيتوقف التضخم وتسير البلاد على طريق الإصلاح، لأنه يمنع الدولة من الإهدار كونها لن تستطيع طباعة الدولار”، يضيف مارديني. وهبطت العملات الأجنبية لدى المركزي إلى حد الاحتياطي الإلزامي، 15 مليار دولار، بعدما كان 32 مليارا قبل بدء الأزمة الاقتصادية في 2019.
خسائر اقتصادية
وتعكس هذه المعطيات مدى تدني الوضع الاقتصادي والاجتماعي، حيث بلغت حجم الخسائر بالقطاع المالي 69 مليار دولار، بحسب تصريحات لنائب رئيس الوزراء اللبناني سعادة الشامي، لوكالة “رويترز” في 14 ديسمبر 2021. يأتي ذلك في وقت يعاني فيه المواطن اللبناني من ارتفاع مستوى التضخم والفقر، حيث كشفت دراسة أعدتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (إسكوا)، عن تفاقم الفقر في لبنان “إلى حد هائل” في غضون عام واحد فقط، مشيرة إلى أن الفقر أصبح يطال 74 بالمئة تقريبا من مجموع سكان البلاد. وأوضحت “الإسكوا”، في الدراسة التي نشرتها في 3 سبتمبر/أيلول 2021، تحت عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهمة”، أن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82 بالمئة من السكان، إذا تم أخذ أبعاد أوسع في الاعتبار، مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة. وشكل 2021 العام الأسوأ على صعيد الغلاء وانهيار القدرة الشرائية للبنانيين. فبحسب البنك الدولي، بلغت نسبة التضخم في لبنان هذا العام 130 بالمئة، بينما في 2020 كانت نسبته 84 بالمئة. أما بالنسبة إلى النمو، فمن المتوقع أن ينخفض 10 بالمئة إضافية عام 2021، بعدما سجل في عام 2020 انخفاضا بنسبة 21.5 بالمئة. ويحتاج لبنان وفق حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة في 21 ديسمبر 2021، إلى دعم يتراوح بين 12 و15 مليار دولار لتحريك الاقتصاد مجددا واستعادة الثقة. وأوضح أن “حصتنا في صندوق النقد هي أربعة مليارات، ويمكن أن تأتي دول وتضيف إليها عبر صندوق النقد، ويمكن أن نصل عادة إلى مبلغ يتراوح بين 12 و15 مليار دولار”. وأضاف “بقدر ما نتمكن من استقطاب أموال، بقدر ما نتعافى بسرعة”، لافتا إلى أن “هذا هو المفتاح لأن ينطلق لبنان ويستعيد البلد نشاطه الطبيعي”. وأصبح تحريك العجلة الاقتصادية أمرا ملحا، خاصة مع تراجع الناتج المحلي الذي كان يبلغ 55 مليار دولار عام 2018، لينخفض عام 2020 إلى 33 مليار دولار، ومتوقع في نهاية عام 2021 أن ينخفض إلى 20 مليار دولار. بدوره، قال مارديني، إن لبنان بحاجة إلى استعادة الثقة وليس هناك حلول يمكن أن تكون مجدية إلا في إطار الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، وخلق حالة من الاستقرار في سعر الصرف عبر إنشاء مجلس نقدي يقوم على خلق حالة من الاتزان بين المعروض من الليرة والمتاح من الدولار. وأشار إلى ضرورة أن تسعى الحكومة إلى تقليل نفقاتها حتى تتناسب مع إيراداتها لخفض عجز الموازنة الذي يتسبب بالنهاية في أزمة مالية خانقة للبلاد. كذلك من الضروري ضبط هذه النفقات عبر هيئة الشراء العام على أن يتم تعديل قانون تعيين أفراد هذه الهيئة بأن يكون تعيينهم ليس من قبل الحكومة ولكن بشكل مستقل “حتى يكون هناك رقابة حقيقية”.