فشل علم النفس الذي دخل قبل عقود على مختلف العلوم الانسانية، في صبغ الاقتصاد بقاعدته الأهم: «الوقت يشفي كل شيء». ففي الاقتصاد «الوقت هو المال»، على حد وصف «بنجامين فرانكلين». وكلما تأخرت المعالجات، كلما زادت الأمور تعقيداً، وتعمّقت الخسائر العامة والفردية. وخير مثال على ذلك العلاقة بين المصارف اللبنانية ومودعيها.
السنوات الثلاث من عمر الازمة اللبنانية المستعصية لغاية الآن عن الحل، أخذت العلاقة بين البنوك وزبائنها في اتجاهين خطيرين. الأول، تحصيل الحق بالقوة عبر اقتحام المصارف. وهو خيار يسير به جزء من صغار المودعين العالقين بين «سندان» الفقر و»مطرقة» العجز عن سحب ودائعهم الصغيرة. والثاني، مقاضاة المصارف من قبل لبنانيين متمولين حاملي الجنسيات الاجنبية، أو حتى من الاجانب، في الدول الخارجية.
الدعاوى في الخارج
إذا كان من الممكن «زرع» المسار الأول بـ»مطبات» الوعيد والتهديد وتكثيف الاجراءات الأمنية، فان «المسار الثاني يبدو أنه عبّد أمام المودعين المقيمين خارج لبنان والاجانب»، بحسب المحامي المتخصص في الشأن المصرفي عماد الخازن. و»هو ينذر بأوسع عملية مقاضاة للمصارف في الخارج بعد تسجيل سوابق عديدة بالحكم لصالح المودعين في كل من فرنسا وبريطانيا وكندا… وغيرها من الدول. وأيضا بسبب انقشاع غبار المعركة، وعدم أخذ المحاكم الاجنبية بالاعتبار بند حصر الصلاحية بالمحاكم اللبنانية الذي تتضمنه العقود الموقعة بين المصارف والعملاء. وذلك استناداً الى بنود اتفاقية بروكسل وتعديلاتها».
الحكم لصالح المودعين
هذه الاتفاقية هي ما استندت اليه المحاكم في فرنسا للحكم لصالح المودعة من أصل سوري سميرة ميداني التي تحمل الجنسية الفرنسية وتقيم في فرنسا، في وجه بنك سرادار. فبعد إنذار السيدة ميداني البنك ومطالبته بتحويل وديعتها إلى الخارج، عمد المصرف إلى إقفال حسابها وإصدار شيك بالمبلغ وايداعه عند الكاتب العدل من خلال معاملة عرض وإيداع ، فما كان منها إلا أن أقامت دعوى قضائية. وقد استندت المحكمة الفرنسية الى المادتين 17 و18 من إتفاقية بروكسل لربط صلاحيتها، لان ميداني تقيم في فرنسا منذ أكثر من 30 عاماً ولأن المصرف اللبناني استهدف السوق الفرنسية بتسويق منتجاته وأرسل موظفيه الى فرنسا لتوقيع العقد بينه وبين السيدة ميداني، ولان المصرف يراسل المودعة عبر البريد الالكتروني مستعملاً (.com) وليس (.lb) ما يعني أنها قرينة تدل على أن المصرف يتوجه إلى العالمية، وليس فقط نحو لبنان. كما أن موظفي المصرف استعملوا خط هاتف فرنسياً للاتصال بعميلتهم . وعليه اعتبرت المحكمة أن المصرف بناء على هذه القرائن يستهدف السوق الفرنسية، وبالتالي تصبح المحاكم صاحبة اختصاص بالدعاوى المقامة لديها، حتى ولو كان هناك بند في العقد الموقع ينص على حصر صلاحية التقاضي بالمحاكم اللبنانية. وعليه اخذت المحكمة بالاجتهادات الصادرة مؤخراً عن المحاكم اللبنانية بان الشيك لم يعد وسيلة إبراء بالرغم من كونه وسيلة دفع، وحكمت لصالح المودعة بالزام المصرف بالتحويل. ومع العلم أن المصرف استأنف القرار.
ما جرى مع سميرة ميداني، يقودنا إلى المثال الثاني المشابه الذي حكمت فيه المحكمة البريطانية لصالح فاتشيه مانوكيان في وجه سوسيته جنرال وبنك عودة. حيث اعتبرت المحكمة أنها صاحبة اختصاص للنظر بالدعوى والحكم فيها، وبأن الشيك ليس وسيلة إبراء والزمت المصارف بتحويل المبالغ المستحقة لعملائها. وبحسب المعلومات المتوفرة فان المصارف نفذت تلك الاحكام من دون أن تستأنفها لاختلاف النظام القانوني بين المحاكم الفرنسية وتلك البريطانية كون استئناف احكام المحاكم البريطانية دونه صعوبات وتعقديات.
الايجابيات والسلبيات
هذه الدعاوى تؤسس بحسب الخازن من الآن فصاعداً لتثبيت أمرين:
– الاول، القبول بان المحاكم في الخارج صالحة للنظر في دعاوى المواطنين من حملة الجنسية الاجنبية او اللبنانيين ممن تتوفر فيهم شروط الاقامة الفعلية او الضرائبية في دول اجنبية.
-الثاني اتجاه إلى اعتبار ان الشيك ليس وسيلة إبراء. وعليه ستلزم أحكامها المصارف اللبنانية بتحويل الودائع إلى الخارج.
«الايجابية في ما يحصل هي أن الامور أصبحت واضحة بشكل نقي»، برأي الخازن، «مما يحمي المودعين من الانجرار وراء تجار الازمة واصحاب الوعود الفارغة لتحصيل حقوقهم. فاذا كانت معايير ربط الصلاحية متوفرة لدى المودع، فهذا يعني إمكانية إقامة الدعوى في الخارج واحتمال ربحها بشكل كبير». أما سلبيات هذا الواقع برأي الخازن فتتمثل في «التمييز بين المودعين، وحصول فئة قليلة منهم على حقوقها، من مجمل الاموال المتبقية التي تعود للجميع. فالمواطن الاجنبي او اللبناني المقيم في الخارج يستطيع إقامة دعوى وربحها في حين يعجز المواطن اللبناني عن القيام بالمثل بالطرق السلمية والحضارية بسبب تردد بعض القضاء اللبناني وغياب النصوص الواضحة». من هنا يرى الخازن أن «رغم تناقص الودائع بشكل كبير جداً فان الحاجة إلى قانون كابيتال كونترول عادل لا تزال قائمة. وذلك من أجل العدل بين جميع المودعين وعدم تفرد فئة محظية منهم بالكسب على حساب كل المتبقين».
القوانين الدولية
في المبدأ هناك معياران لمعالجة صلاحية المحاكم الاجنبية للنظر في قضايا المودعين مع المصارف اللبنانية وهما:
– صلاحية المحاكم الاجنبية للنظر في النزاعات الناشئة بين المودعين والمصارف اللبنانية.
– القانون المطبق على تلك النزاعات.
وبحسب الخازن فان القانون الدولي الخاص (اتفاقية بروكسل)، حدد بشكل واضح المحاكم صاحبة الصلاحيات للنظر بالنزاعات التي تتعلق بحماية المستهلك، أي الزبون المصرفي الذي تعتبره ضعيفاً تجب حمايته. وذلك بالنظر إلى كون المصرف هو صاحب الخبرة اي الممتهن. وعلى الرغم من تضمين العقود ان المحاكم اللبنانية هي صاحبة الاختصاص بالفصل بين النزاعات وبأن القانون الذي يطبق هو القانون اللبناني، فان المواطن الأجنبي لا يعرف القانون اللبناني، وليس عميلاً محترفاً ودائماً ما يخضع لشروط المصرف. لكل هذه العوامل اعتبر القانون الدولي أن العميل هو المستهلك الضعيف وأوجب حمايته في اتفاقية بروكسل، من خلال تطبيق قانون بلد المستهلك الضعيف أو مكان اقامة المستهلك الضعيف. ووضع شروطاً ومنها أن يكون المصرف لديه فرع في الدولة الاجنبية، أو أن يكون توجه باعماله إلى الخارج كأن يتواصل البنك مع العملاء في الخارج ويراسلهم ويشجعهم على وضع الاموال لديه بالاعلانات والوساطات، المراسلة من بريد الكتروني ينتهي بـ.COM وليس .LB الاتصال من ارقام أجنبية … وغيرها من الطرق والاساليب التي تجعل من العميل «عميلاً سلبياً»، وإذا توفرت هذه الشروط أو بعض منها، يحصل هذا العميل على حماية اتفاقية بروكسل ويتمكن من الادعاء على المصرف في البلد الذي يعيش فيه في الخارج.
أما بخصوص القانون المطبق فيعتبر الخازن أن اتفاقية روما «تنص على عدم ابطال الاتفاقية المكتوبة أو الموقعة بين المصرف والعميل والتي تحدد القانون الواحب تطبيقه شرط أن يكون القانون المطبق أي اللبناني لا يتعارض مع المبادئ الاساسية لقانون حماية المستهلك في الدولة المقام فيها الدعوى.
أمام كل هذه الوقائع شرعت الابواب لمقاضاة المصارف في الخارج، وأصبحت إمكانية ربح دعاوى تحصيل الودائع بعملتها الاصلية نقداً أو تحويلاً إلى الخارج، كبيرة جداً. وبقدر ما تتضمن هذه المستجدات من إيجابيات تضمن سلبيات تتطلب معالجتها باعتماد خطة اقتصادية على وجه السرعة تطمئن المودعين إلى امكانية الاستحصال على اموالهم ولو بعد حين.