يُنذر ترك “حبل” الانهيار الاقتصادي مرخياً على “جرار” انعدام الإصلاحات، بتداعي مختلف القطاعات العامة الخدماتية والبنى التحتية في وقت ليس ببعيد. وما يفاقم المخاطر هو عجز لبنان الفاضح عن تمويل المشاريع الاستثمارية والإنمائية. فالموازنة العامة لا تكفي لسداد رواتب الموظفين، فيما أقفل الخارج أبواب الإقراض نتيجة لتخلف لبنان عن سداد ديونه في آذار ٢٠٢٠ وعدم قيامه بأي إصلاحات هيكلية في القطاع العام والمصرفي. وكما هو حال التاجر المفلس الذي يفتش في دفاتره القديمة، تقود هذه الأخيرة لبنان إلى قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص المقر في العام ٢٠١٧. إلا أن هذا القانون الذي يحمل الرقم 48/2017، والذي يشكل فرصة جدية لتفعيل الاستثمار في لبنان، ما زال غير مفعل. وهو يحمل بين مواده الثماني عشرة “ألغاماً” طاردة للمستثمرين المحليين والأجانب من القطاع الخاص بدلا من أن تكون جاذبا لهم. إذ لم يتشكل بعد “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة”، بل إنه لم يقم بتعيين أمين عام جديد لـ “المجلس” بعد استقالة أمينه العام السابق زياد حايك. هذا من حيث الشكل؛ أما من حيث المضمون، فالقانون بحد ذاته معقد لدرجة تجعل من تطبيقه عملية شبه مستحيلة تتطلب عدداً غير قليل من السنوات، خصوصاً فيما يتعلق بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم التي تعتبر حاجة لبنان ماسة إليها. فالدخول في مشروع شراكة مع القطاع الخاص يستلزم اختيار آليات المشروع وإعداد الدراسات وتأهيل العارضين ووضع دفتر الشروط والدعوة إلى تقديم العروض وتقييمها وإعلان النتيجة والإغلاق المالي وتأسيس شركة المشروع وتوقيع العقود.. وكلها إجراءات تستغرق فترة زمنية طويلة تتراوح بين سنتين وأربع سنوات، وهو ما لا يتلاءم مع الاستثمارات في المشاريع المتوسطة والصغيرة الحجم كما الكبيرة. هذه العوامل المعيقة تفترض الانطلاق في ورشة قانونية وبرلمانية تشريعية تعمل على تعديل القانون وتبسيط إجراءاته وجعله جذاباً للمستثمرين لضمان حسن تنفيذه وإخراج المؤسسات والاقتصاد على حد سواء من حالة الترهل الآخذة في التوسع.
1- الثغرات في التشريعات القائمة التي تبرر الحاجة إلى تشريع جديد
قانون الشراء العام . إن قانون الشراء العام ليس مُعدّاً في الأصل ليحكم تلزيم إيرادات الدولة، وإنما إحالة هيئة الشراء العام إليه في القواعد الإجرائية لتلزيم الإيرادات، منطلقة من المادتين ٤٦ و٤٧ من قانون المحاسبة العمومية. حيث تنص المادة ٤٦ على بيع أموال الدولة غير المنقولة وفقا للأحكام المختصة بها. وتؤطّر المادة ٤٧ إجراءات بيع أموال الدولة المنقولة وفقا لقيمتها المخمّنة، على أن تطبق على البيع بالتراضي وباستدراج العروض والمزايدة العمومية الأحكام المختصة بصفقات اللوازم والأشغال ما لم ينص القانون على خلاف ذلك. ومع صدور قانون الشراء العام وبدء نفاذه، باتت هذه الأحكام هي أحكام هذا القانون باعتبار أن الأحكام الواردة في قانون المحاسبة العمومية بخصوص صفقات اللوازم والأشغال والخدمات قد أُلغيَت بموجب قانون الشراء العام.
قرارات المفوض السامي الفرنسي للعامين ١٩٢٥ و١٩٢٦. تخضع إدارة أملاك الدولة العامة والخاصة إلى قرارات المفوض السامي الفرنسي للعامين ١٩٢٥ و١٩٢٦ بموجب القرار رقم ٢٧٥ تاريخ ٢٢-١٠-١٩٢٦ (إدارة وبيع أملاك الدولة الخصوصية غير المنقولة). إذ تقتصر مهل الاستثمار بحدها الأقصى على أربع سنوات، وهذا الأمر لا يتفق مع طبيعة بعض المشاريع الاستثمارية التي يتطلب تنفيذها وتحصيل عائداتها التي تغطي الأكلاف الموضوعة والأرباح عددا أطول من السنوات. وعليه ينبغي تعديل القانون بشكل يسمح بتحديد عدد السنوات السابقة واللاحقة للمشروع وفقاً لدراسة جدوى مالية مرفقة، بالإضافة إلى الدراسات المطلوبة قانوناً ومنها دراسة الأثر البيئي ودراسة الجدوى الاقتصادية ودراسة الأثر الاجتماعي وسواها.
من ناحية أخرى، يميز القرار رقم ١٤٤ تاريخ ١٠-٠٦-١٩٢٥(الأملاك العمومية)، الذي استند إليه قانون الشراء العام رقم ٣٠٩ تاريخ ١٩-٠٤-٢٠٢٣ بين نظامين قانونيين مختلفين لإشغال الأملاك العمومية واستثمارها:
- الإشغال لمنفعة خاصة للقائم به، وهو يُعطى بالترخيص بمرسوم لسنة واحدة يمكن تجديدها بالرضى الضمني. ويجوز إلغاء الترخيص في أي وقت دون أن يرتب ذلك على الدولة أي تعويض.
- الإشغال لمصلحة عامة، وهو يعتبر امتيازاً لا يعطى إلا بقانون.
قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص. فيما يتعلق بأحدث القوانين المعنية بتنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، نصت المادة الأولى من القانون رقم ٤٨ تاريخ ٧/٩/٢٠١٧ المتعلق بتنظيم “الشراكة”، على أن المشروع المشترك هو أي مشروع له منفعة عامة يساهم فيه القطاع الخاص عن طريق التمويل والإدارة وإحدى العمليات التالية على الأقل: التصميم والإنشاء والتشييد والتطوير والترميم والتجهيز والصيانة والتأهيل والتشغيل يحوز على موافقة “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة”. وقد أخضعت المادة الثانية من تنظيم الشراكة مع القطاع الخاص لأحكام القانون كل المشاريع المشتركة التي تقوم بها الدولة والمؤسسات العامة وسائر أشخاص الحق العام، باستثناء البلديات أو اتحادات البلديات، والتي يجوز لها أن تُخضع المشاريع المشتركة التابعة لها لأحكام هذا القانون.
2- آليات معقدة جدا تمنع جذب الاستثمارات
تؤدي الآليات المعقدة إلى إضعاف جاذبية لبنان للاستثمار وتكبده خسائر اقتصادية وإضاعة فرص التنمية وعدم خلق فرص عمل. وتعمل هذه الآلية المعقدة على النحو التالي:
A. موافقة المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة
اشترطت المادة الثانية من هذا القانون في فقرتها الثالثة إبداء المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة موافقته على السير في المشروع المشترك. وقد حددت المادة الرابعة منه آليات اقتراح المشاريع المشتركة على هذا المجلس وموافقته عليها. وحيث لم يتمّ تشكيل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة بعد ولم يجرِ تعيين أمين عام جديد له بعد استقالة أمينه العام السابق زياد حايك، تُعتبَر الشراكة مع القطاع الخاص معطلة في الوقت الراهن.
B. موافقة مجلس الوزراء على السير في المشروع المشترك
أوجبت المادة ٥ على لجنة المشروع إعداد دراسة شاملة حول المشروع المشترك تتناول الجوانب الفنية والاقتصادية والقانونية والتمويلية، بما في ذلك معايير التأهيل ومدى اهتمام المستثمرين ومدى إمكانية استقطاب التمويل اللازم، على أن يُعرض المشروع بعد ذلك وفق المادة السادسة من قانون الشراكة على “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة”، فإذا وافق على السير به أُحيل ملف المشروع إلى مجلس الوزراء بواسطة رئيسه. وبعد موافقة مجلس الوزراء على السير في المشروع المشترك، تُطلِق لجنة المشروع إجراءات اختيار الشريك الخاص التي ينبغي أن تتم وفقا للمبادئ المحددة في هذا القانون.
C. التأهيل المسبق
تنص المادة السابعة من قانون تنظيم الشراكة على وجوب بدء إجراءات اختيار الشريك الخاص بالإعلان عن دعوة عامة للراغبين بالترشح للفوز بالمشروع المشترك. وتتضمن الدعوة معايير التأهيل التي تتناسب مع حجم المشروع المشترك وطبيعته. وتنشر هذه الدعوة قبل مدة شهر على الأقل من الموعد النهائي لتقديم طلبات الاهتمام، في صحف محلية ودولية ومجلات متخصصة وعلى موقع المجلس الإلكتروني. وتزود لجنة المشروع الراغبين بالتأهل بالمعلومات والتعليمات اللازمة ليتقدموا بطلباتهم على هذا الأساس.
وتقوم لجنة المشروع، بمعاونة فريق العمل، بدراسة طلبات التأهيل المقدمة والتدقيق بمستنداتها. وتقيّم لجنة المشروع طلبات التأهيل وفقاً لمعايير التأهيل المعلن عنها، وتَرفع تقريراً معلّلا إلى “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة” يتضمن اقتراحاً بأسماء المرشحين المؤهلين والمرشحين غير المؤهلين لاتخاذ القرار المناسب. وبعد أن يبتّ “المجلس” في التقرير، يتم الإعلان عن نتائج التأهيل، على أن لا يقلّ عدد المرشحين المؤهلين عن ثلاثة. وفي حال لم يتأهل ثلاثة مرشحين على الأقل، يُعاد الإعلان عن الدعوة العامة للراغبين في التأهّل مجدّدا. وتبلّغ لجنة المشروع المرشحين غير المؤهلين بأسباب عدم تأهيلهم، وتتولى لجنة المشروع، يعاونها فريق العمل، إعداد مسودة دفتر شروط.
D. مناقشة مسودة دفتر الشروط مع المؤهلين
تقوم لجنة المشروع، يعاونها فريق العمل، بعقد مشاورات مع جميع المرشحين المؤهلين والجهات الممولة، وبطريقة محايدة وشفافة، بهدف التوصل إلى تصور متكامل ونهائي لتحديد المتطلبات التقنية والوسائل العملية والهيكلية المالية الأفضل لتحقيق المشروع المشترك. وتُعدّل مسودة دفتر الشروط عند الاقتضاء من قبل لجنة المشروع على ضوء نتائج تلك المشاورات.
E. موافقة مجلس الوزراء على دفتر الشروط بصيغته النهائية
تَرفع لجنة المشروع دفتر الشروط بصيغته النهائية إلى “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة”. وبعد الموافقة عليه، يرفع دفتر الشروط بواسطة رئيسه إلى مجلس الوزراء لأخذ الموافقة النهائية. أما فيما خصّ المشاريع المشتركة ذات الطابع البلدي والتي أخضعت لأحكام هذا القانون، وبعد موافقة المجلس على دفتر الشروط بصيغته النهائية، فتُحال بواسطة رئيس المجلس إلى رئيس المجلس البلدي أو رئيس مجلس الاتحاد المعني لنيل المصادقات اللازمة وفقا لأحكام المرسوم الاشتراعي رقم 118 تاريخ 30 حزيران 1977 .
F. تقديم العروض وتقييمها
يبلّغ دفتر الشروط إلى المرشحين المؤهلين من قبل لجنة المشروع. عندها، يقوم المرشحون المؤهلون بإعداد عروضهم الفنية والمالية وبتقديمها إلى لجنة المشروع وفقاً للأصول المحدّدة في دفتر الشروط. وتُرفض العروض الفنية التي لا تكون مطابقة لمتطلبات دفتر الشروط، وتعاد العروض المالية التابعة لها إلى أصحابها دون الكشف عنها. ويتم إبلاغ أصحاب العروض المرفوضة بأسباب الرفض، ثمّ تقيّم لجنة المشروع، يعاونها فريق العمل، العروض الفنية الباقية وفقاً للمعايير التي حدّدها دفتر الشروط، وتُحدد لجنة المشروع العروض الفنية المقبولة على ضوء هذا التقييم. وفي حال لم يتم قبول عرضين فنيّين على الأقل، يعاد طرح المشروع المشترك مجدّداً لتأمين المنافسة.
وتفضّ لجنة المشروع العروض المالية العائدة إلى العروض الفنية المقبولة بحضور عارضيها وترفع بعد ذلك تقريراً إلى المجلس تصنّف فيه العارضين على ضوء التقييمات الفنية والمالية. ثمّ ترفق لجنة المشروع هذا التقرير بتوصيتها لجهة العرض الأفضل المبنية على معايير التقييم المنصوص عليها في دفتر الشروط. وللجنة المشروع، بتفويض من المجلس، أن تقوم بمفاوضات مع مقدم العرض الأفضل بهدف تحسين العرض من الناحية الفنية.
G. إعلان النتيجة
نصت المادة ٨ من قانون تنظيم الشراكة على أن يفوز بالعقد المرشح الذي تقدّم بالعرض الأفضل بحسب تقييم لجنة المشروع المبني على معايير التقييم المنصوص عليها في دفتر الشروط وبموافقة “المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة”. وتعلن لجنة المشروع عن النتيجة التي انتهت إليها عملية الاختيار وتبلّغ العارضين المتبقين أسباب فشل عروضهم.
H. تأسيس شركة المشروع
أوجبت المادة 9 من قانون تنظيم الشراكة على الشريك الخاص تأسيس شركة مغفلة لبنانية للمشروع (شركة المشروع).
3- سنوات طوال وغياب الإطار القانوني
هذه الآليات من اختيار المشروع وإعداد الدراسات وتأهيل العارضين ووضع دفتر الشروط والدعوة إلى تقديم العروض وتقييمها وإعلان النتيجة والإغلاق المالي وتأسيس شركة المشروع وتوقيع العقود.. قد تستغرق فترة زمنية طويلة تتراوح بين سنتين وأربع سنوات، وهو ما لا يتلاءم مع الاستثمارات في المشاريع المتوسطة والصغيرة الحجم.
وقد نصت الفقرة الرابعة من المادة الثالثة من قانون الشراء العام على ما يلي: يستثنى من أحكام هذا القانون الشراء الذي يهدف إلى منح أي التزام أو امتياز لاستغلال مورد من موارد ثروة البلاد الطبيعية أو مصلحة ذات منفعة عامة أو احتكار، إلا فيما يتعلق بالإجراءات التي تسبق منح الامتياز أو الاحتكار، حيث تخضع تلك الإجراءات إلى المبادئ المنصوص عليها في المادة الأولى من هذا القانون. كما ونصت الفقرة الخامسة من المادة الثالثة من قانون الشراء العام على أن تخضع عقود الشراكة مع القطاع الخاص لأحكام قانون الشراء العام في كل ما لا يتعارض مع أحكام قانون تنظيم الشراكة مع القطاع الخاص (القانون رقم ٤٨/٢٠١٧).
وفي المحصلة، لا نرى أي إطار قانوني للاستثمارات في المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، وينبغي العمل على تدارك هذا النقص في التشريع.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق