يوم السبت في 15 تموز الماضي، ومن دون إنذار، تحرّك سعر الدولار في غضون ساعات من 91400 ليرة إلى 99000 ليرة، ثم تراجع في الليلة نفسها إلى 93000 ليرة. في وقتها، لم تكن هناك أزمة سياسية حتى مع صدور بيان نواب الحاكم الأربعة الذي جرى التعامل معه كمناورة، ولم تظهر مبرّرات سوقية تفسّر ارتفاعاً كهذا في عزّ «الويك أند». المفارقة أنه في يوم الجمعة التالي 21 تموز، وفيما كان نواب الحاكم يناقشون مع لجنة الإدارة والعدل خطّتهم لتحديد أولويات الإنفاق من الاحتياطات، عمّم مصرف لبنان على المتعاملين معه من مصارف وصرّافين، أنه أوقف ضخّ الليرات وشراء الدولارات، فارتفع سعر الدولار من 92000 ليرة إلى 94500 ليرة قبل أن يتراجع تدريجياً إلى 91800 ليرة. في هذا الوقت كانت ملامح الأزمة بدأت تتّضح على شكل عجز متجذّر لدى قوى السلطة عن إيجاد مخرج. في ظروف كهذه، فإن هدوء سعر الصرف، يُعدّ لافتاً جداً، لأنه يعكس قراراً واضحاً بالسيطرة على سعر الصرف (ثمة اعتقاد لدى نواب الحاكم بأن السعر المستقرّ الآن مبالغ فيه) رغم كل تخبّط السلطة في البحث عن مخرج للفراغ المرتقب في المصرف المركزي.
ندرة الاستعمال
ثمة تفسير تقني مفاده أن مصرف لبنان جفّف السوق من الليرات وسيطر على عرضها عندما حوّل التداول إلى الدولرة النقدية شبه الكاملة. فكل الليرات تأتي من مصرف لبنان، لتعود إليه بعد ساعات من خلال وسيط واحد أو اثنين. بذلك، صارت الليرة اللبنانية نقداً نادر الاستعمال ويقتصر استخدامه على حلقات ضيّقة ومحدودة مثل «صيرفة» والضرائب، فضلاً عن بعض «الفراطة» بين أيدي الناس (هذه «الفراطة» هي من سنت واحد إلى ثلاثة دولارات تُستعمل على شكل ليرة لبنانية لأن لبنان لم يستورد «فراطة» دولار بعد). فعلى سبيل المثال، أن العمليات اليومية على «صيرفة» تستحوذ على نحو 10% من مجموع الكتلة النقدية المتداولة بالليرة. ومجموع الكتلةالنقدية المتداولة بالليرة بات يوازي نحو 60% من متوسّط قيمة العمليات المنفّذة على «صيرفة» في الأشهر السبعة الماضية. وتستحوذ الضرائب التي تجمعها الخزينة على نسب مماثلة أيضاً، بينما الخزينة تدفع الرواتب لمصرف لبنان التي يسدّدها بالدولار. بهذا المعنى، لا لزوم لليرة في السوق، بل إن هاجس انهيار سعر الصرف هو عامل نفسي أكثر مما هو اقتصادي واجتماعي.
الشعور بالعجز
ما يقلق قوى السلطة أنها عاجزة عن إدراك معنى هذا الأمر الذي تُرجم شعبوياً في الأشهر الأخيرة بـ«استقرار سعر الصرف»، بل تقلق من تغييره. طروحات نواب الحاكم، بمعزل عن صحّتها، تصبّ في هذا الاتجاه. لكنها أمام معضلة من نوع مختلف هذه المرّة، لأن الفراغ حاصل في مصرف لبنان، سواء استمرّ النواب الأربعة أو أوّلهم (وسيم منصوري)، بشكل أصيل أو لتصريف الأعمال. والخيارات المتاحة أمام قوى السلطة تتطلّب من بعضها تنازلاً ما تجاه الآخرين من دون نتائج مضمونة أو مردود سياسي؛
– هم ليسوا قادرين على اختيار حاكم جديد وتعيينه في مجلس الوزراء. فالحكومة الآن تصرّف الأعمال وسط شغور في رئاسة الجمهورية، أي إن الاتفاق على تعيين حاكم يتطلب تنازلاً من التيار الوطني الحرّ وحزب الله، للرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي على مبدأ التعيين بكل مستوياته المالية والأمنية والإدارية وسواها.- ما بعد ذلك، تبدو فكرة الحارس القضائي التي يطرحها التيار، ضرباً خيالياً إذا كان المقصود إدارة السياسة النقدية بدلاً من التحفّظ على موجودات مصرف لبنان من الهدر.
– أما تلبية مطالب نواب الحاكم الأربعة، بمنحهم غطاء قانونياً للإنفاق من الاحتياط بمعدل 200 مليون دولار لستة أشهر ضمن سقف 1.2 مليار دولار (75 مليون دولار لرواتب القطاع العام، و35 مليون دولار لدعم الدواء، ومدفوعات أخرى متفرقة قد يُستعمل جزء منها لمكافحة المضاربة على الليرة)، فهي تضع قوى السلطة في موقع المسؤولية تجاه الإنفاق من الاحتياطات بعدما كان رياض سلامة يتحمّلها منفرداً. فضلاً عن أن هذا الخيار، يتطلّب أيضاً إقرار تشريعيات أخرى، كانت قوى السلطة تتهرّب منها على مدى السنوات الأربع الماضية.- حلول النائب الأول وسيم منصوري محلّ رياض سلامة، وإلى جانبه رفاقه الثلاثة بشير يقظان، سليم شاهين وألكسندر مراديان، لا يعني أن إدارة السياسة النقدية ستكون بخير حتى لو التزمت القوى السياسية بجزء من الخطّة المطروحة أمام لجنة الإدارة والعدل. فالمسألة الأساسية تتعلق بالعوامل السياسية والسوقية والنفسية التي تتيح لهؤلاء التحكّم والمبادرة. التحكّم بتوازنات السوق هو أمر يتطلب إنفاق الدولارات من الاحتياطات وبالكتلة النقدية وضخّ السيولة وجمعها، والمبادرة نحو إجراءات متقدمة مثل تحرير سعر الصرف والسيطرة على كمية الدولارات الطازجة الواردة إلى السوق، وفرض خيارات محدّدة على المصارف في سبيل إعادة هيكلتها، وخطوات أخرى تتعلق بالسياسة النقدية وكون مصرف لبنان هيئة ناظمة للقطاع المصرفي.
الخيارات المحرّمة
كل هذه المسائل، هي خيارات لا يمكن مناقشتها أو مقاربتها بعيداً من جذور الموضوع؛ أي الإقرار بالخسائر وتوزيعها. كل هذا النقاش عن حاجة النواب الأربعة إلى 200 مليون دولار شهرياً، وعنضرورة إقرار موازنة وتحرير سعر الصرف، وسواها من الخطوات التي يطلبها هؤلاء، تعيد النقاش إلى مسألتين: كيف نستخدم الدولارات الموجودة في الحساب المسمّى احتياطاً إلزامياً؟ هل نستخدم الموجوادت الأخرى التي يملكها مصرف لبنان مثل الذهب؟ من أجل ماذا سننفق ما تبقّى من هذه الموجودات؟
هذه الأسئلة تعيد النقاش إلى المربع الأول. فالمشكلة الأساسية التي تظهر اليوم، هي عملية توزيع الخسائر. هناك خسائر بقيمة 72 مليار دولار، وهو مبلغ لا يُعرف أن له مثيلاً مسجّلاً في تاريخ الانهيارات المصرفية. تأتي هذه الخسارة من فرق القيمة بين الالتزامات على القطاع المالي وموجوداته. هذه الموجودات هي بشكل أساسي السيولة بالدولار التي يملكها مصرف لبنان والمسماة الاحتياطات الإلزامية التي بلغت بحسب الميزانية نصف الشهرية لمصرف لبنان 9.36 مليارات دولار، ومن الذهب المسجّل بقيمة تبلغ 18 مليار دولار. في المقابل، هناك التزامات أكبر بكثير على القطاع المالي تجاه المودعين، وينتج من الفرق بينهما خسارة قدّرها صندوق النقد في عام 2022 بنحو 72 مليار دولار.