الملخص التنفيذي
مع ذوبان الإنفاق الاستثماري في موازنة العام 2023 وعدم تخطيه 10 في المئة من مجمل الإنفاق العام، ومع انهيار الخدمات من كهرباء واتصالات ومياه وترهل البنى التحتية وتقادم المرافق الأساسية، تتجه الأنظار إلى القطاع الخاص. فالظروف التي يمر بها لبنان تُعَدّ الأنسب لدخول القطاع الخاص بسلاسة وفعالية للاستثمار، ما يزيد من إيرادات الخزينة ويوفر عليها أعباء الاستثمار والإدارة ويؤمّن ما يحتاجه المواطن من خدمات بجودة عالية وكلفة متدنية، خصوصاً أن الدولة سبق وأن هيأت مشاركته عبر قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص المعروف بـ PPP الصادر في العام 2017. وقد يكرر كثيرون أن الاستثمار الخاص يتطلب أمناً مستتباً وقضاءً مستقلاً وسعر صرف مستقرّاً وقطاعاً مصرفياً سليماً… وكل هذا صحيح. إلّا أنّ بيت القصيد يبقى في أن قانون الشراكة مع القطاع الخاص لا يتلاءم مع الواقع اللبناني بعد الأزمة المالية والاقتصادية ولا يتماشى مع المشاريع الكبيرة ولا الصغيرة. فالشراكة مع الدولة في المشاريع الصغيرة التي تقوم على مبدأ البناء والتشغيل والنقل” المعروف تقنيا بـ BOT الذي لا تتجاوز مدته ثماني سنوات تفرض عليها قانون الشراكة تحضيرا يوازي نصف عمرها، ما يجعلها غير مجدية أو ناجعة للمستثمر. أما بالنسبة للمشاريع الكبيرة التي يتراوح عمرها بين 20 و30 عاماً، فلا يميز القانون بين عقود الشراكة لناحية أنواعها وتعقيداتها ومتطلباتها، ولم يفرد لكل منها أحكاماً خاصة، بل أتى “دكمة” واحدة مُخضعاً العقود مهما كان نوعها وحجمها ومضمونها للآليات والإجراءات المعقدة نفسها. وعلاوةً على ذلك، فقد استحوذت الدولة على دورها في الشراكة بما يشبه “الشريك المضارب”، بحيث يستثمر القطاع الخاص أمواله ويتحمل المخاطر وتقاسمه هي على الأرباح. ولا تتعلق مشكلة هذا النموذج بكونه قديماً أكل الزمان عليه وشرب، بل بكونه غير جاذب، خصوصا للعمل في بيئة عالية المخاطر. ولعلّ آخر ما حصل في هذه البيئة خفض وكالة “فيتش”، التصنيف الائتماني طويل الأجل بالعملة المحلية للبنان من C إلى حالة التخلف عن الدفع المقيدة RD. وعليه، تكون البداية بتغيير “العقلية” قبل تعديل القوانين، والعمل على تفكيك الاحتكارات بدل تعزيزها والتوقف عن حصر تقديم الخدمات بشركة واحدة مملوكة من الدولة، حتى لو أدارها القطاع الخاص، والانطلاق نحو المنافسة. ويكون ذلك من خلال فتح المجال أمام شركات القطاع الخاص للدخول والاستثمار والتنافس ضمن القطاع الواحد مثل البريد أو الإنترنت أو الكهرباء، دون وضع قيود أو عوائق. وفيما يلي عرض لأبرز نقاط الضعف في قانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
1- عدم قدرة الحكومة على سداد النفقات اللازمة لسير المرفق العام
باتت الدولة اليوم، بفعل الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة، عاجزة عن تمويل أي مشروع حيوي يحرك عجلة الاقتصاد. وتبرز خشية حقيقية من عدم تمكن الدولة في المدى المنظور من سداد النفقات الضرورية اللازمة لسير المرفق العام ودفع رواتب الموظفين والعسكريين وتأمين المواد الغذائية والأدوية.
فالمشاريع التي تمولها الدولة من الخزينة أو الموازنة العامة لم تعد واردة في ظل عجز المالية العامة المتراكم واللامتناهي، كما لا يحظى تمويل المشاريع من خلال القروض أو الهبات بفرص جدية بسبب فقدان موقع الدولة الائتماني وضعف الثقة في إداراتها وترهل مؤسساتها الرقابية وغزوها من قبل السياسيين بواسطة “الأزلام” (الأتباع).
2- تمويل المشاريع من قبل القطاع الخاص
ثمة فرصة قد تكون لا زالت متاحة على الرغم من كونها محاطة بمخاطر لا يستهان بها، وهي تمويل المشاريع من قبل القطاع الخاص مقابل استرداد التمويل من المستفيدين مباشرة، فهل تسمح البنية القانونية القائمة بتنفيذ هذا النوع من المشاريع أم أنها مصابة بالاهتراء شأنها في ذلك شأن البنية الإدارية والمالية نتيجة التشريع المستنسخ والمتسرع.
عرّف قانون تنظيم الشراكة مع القطاع الخاص في لبنان (القانون رقم ٤٨ تاريخ ٧/٩/٢٠١٧) المشروع المشترك على أنه أي مشروع ذي منفعة عمومية يساهم فيه القطاع الخاص عن طريق التمويل والإدارة وإحدى العمليات التالية على الأقل: التصميم، الإنشاء، التشييد، التطوير، الترميم ، التجهيز، الصيانة، التأهيل، التشغيل.
هذا التعريف الواسع للشراكة مع القطاع الخاص يجمع بين النظرة التي تحصرها بالمشاركة في التمويل والإدارة وتحمل المخاطر والنظرة التي تضم إليها تفويضات المرافق العمومية، ومن ضمنها عقود الامتيازات، حيث تنتقل المخاطر إلى صاحب التفويض أو الامتياز، كما يشمل هذا التعريف عقود الانتفاع طويل الأجل، وهي تستخدم لشراء مشروعات البنية الأساسية الضخمة، ويُطلَب من الشركة الخاصة تمويل المرفق وبناؤه وتشغيله لفترة معينة (20-30 سنة) ينتقل بعدها المرفق إلى القطاع العام.
3- تعقيدات إشراك القطاع الخاص
لم يكن ثمة ضير في هذا التعريف الواسع لو أنه ميز بين عقود الشراكة لناحية أنواعها وتعقيداتها ومتطلباتها وأفرد لكلٍّ منها أحكامه الخاصة، إلا أنه أخضع هذه العقود مهما كان نوعها وحجمها ومضمونها للآليات والإجراءات نفسها، وهي آليات وإجراءات تتصف بالتعقيد ويمكن اختصارها بما يلي:
- اقتراح المشروع على المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة.
- موافقة المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة على المشروع المشترك، علما أن هذا المجلس غير موجود.
- قيام لجنة المشروع المشكلة بقرار من المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة بإعداد دراسة شاملة حول المشروع المشترك تتناول الجوانب الفنية والاقتصادية والقانونية والتمويلية بما في ذلك معايير التأهيل ومدى اهتمام المستثمرين ومدى إمكانية استقطاب التمويل اللازم.
- موافقة المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة (غير الموجود أصلاً) على الدراسة الشاملة التي أعدتها لجنة المشروع وإحالته إلى مجلس الوزراء بواسطة رئيسه.
- موافقة مجلس الوزراء على السير بالمشروع المشترك.
- بدء إجراءات اختيار الشريك الخاص من قبل لجنة المشروع.
- الإعلان عن دعوة عامة للراغبين بالترشح للفوز بالمشروع المشترك تتضمن معايير التأهيل التي تتناسب مع حجم المشروع المشترك وطبيعته.
- دراسة طلبات التأهيل المقدمة والتدقيق في مستنداتها وفقا لمعايير التأهيل المعلن عنها.
- رفع تقرير معلل إلى المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة يتضمن اقتراحا بأسماء المرشحين المؤهلين والمرشحين غير المؤهلين لاتخاذ القرار المناسب.
- البت في التقرير من قبل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة والإعلان عن نتائج التأهيل.
- إعداد مسودة دفتر الشروط الخاصة من قبل لجنة المشروع.
- مناقشة مسودة دفتر الشروط من خلال مشاورات مع جميع المرشحين المؤهلين والجهات الممولة بطريقة محايدة وشفافة بهدف التوصل إلى تصور متكامل ونهائي لتحديد المتطلبات التقنية والوسائل العملية والهيكلية المالية المثلى لتحقيق المشروع المشترك، على أن تُعدّل مسودة دفتر الشروط عند الاقتضاء من قبل لجنة المشروع على ضوء نتائج تلك المشاورات.
- الموافقة على دفتر الشروط من قبل المجلس الأعلى للخصخصة والشراكة.
- موافقة مجلس الوزراء على دفتر الشروط بصيغته النهائية.
- تبليغ دفتر الشروط إلى المرشحين المؤهلين من قبل لجنة المشروع.
- تقديم العروض.
- تقييم العروض.
- إعلان النتيجة.
- تأسيس شركة المشروع.
4- القانون غير مؤات عقود الـ BOT وعقود الخدمة والإدارة والتأجير
ثمة أنواع من الشراكة يغطيها التعريف الذي أعطاه القانون اللبناني لا تتلاءم مع هذه الإجراءات المعقدة، ومثال على ذلك عقود الـ BOT ذات الرساميل المنخفضة والمتوسطة وبالتالي المدى الزمني المحدود (لا تتجاوز مدتها سبع أو ثماني سنوات) فمن غير المعقول أن يستغرق التحضير لها مدة توازي نصف مدة حياتها. كما أن ثمة أنواعاً أخرى من المشاريع مع القطاع الخاص تشكل حاجة ملحة لا ينطبق عليها التعريف الوارد في القانون اللبناني لغياب عنصر التمويل عنها لكونها متعلقة بمشاريع قائمة وموجودة لا بد من صياغة الآلية القانونية التي ترعاها وإخضاعها لأحكام قانون الشراء العام عند الاقتضاء؛ ومن هذه العقود نذكر:
- عقود الخدمة: تحتفظ الجهة العامة بمسؤوليتها الكاملة عن تشغيل المرفق وإدارته بالكامل، ولكنها تتعاقد مع القطاع الخاص لتقديم الخدمات مثل قراءة العدادات وتحصيل الفواتير والصيانة، وتتراوح مدة العقد بين سنة وثلاث سنوات.
- عقود الإدارة: تقوم الجهة العامة بنقل مسؤولية إدارة مجموعة من الأنشطة في قطاع معين إلى القطاع الخاص مقابل عائد محدد مع احتفاظ القطاع العام بملكية المشروع وعدم تحمل القطاع الخاص المخاطر. وفي هذه الحالة، تقوم الجهة العامة بتمويل رأس المال العامل والاستثماري. وتتراوح مدة هذه العقود بين 3 سنوات و5 سنوات. وتُعتمَد هذه الطريقة في جمع النفايات وتشغيل معامل كهرباء قائمة أو معامل معالجة نفايات وإدارتها وما إلى ذلك.
- عقود التأجير: تقوم الشركات الخاصة باستئجار المرفق من الجهة العامة، وتتحمل مسؤولية تشغيل المرفق العام وإدارته وتحصيل الرسوم. ويقوم المستأجر بشراء الحق في الإيرادات، وبالتالي فهو يتحمل قدراً كبيراً من المخاطر التجارية. وتتراوح مدة العقود بين 5 و15 سنة قابلة للتمديد.
وفي المحصّلة، يُعتبَر التشريع قاصراً عن مواكبة الاستثمارات في لبنان متى حان وقتها. وتبرز الحاجة إلى تعديل هذا التشريع لتغطية الاستثمارات المتوسطة الحجم والقصيرة المدى وتغطية أشكال من المشاركة مثل الإدارة والتأجير والتشغيل مما يغيب عنه التمويل ولا يخضع لقانون المشاركة.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق