الملخص التنفيذي
في الوقت الذي تشكل فيه المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم ما يقرب من 95 في المئة من الشركات في لبنان وتوظف أكثر من 50 في المئة من اليد العاملة، ما زالت حصتها من صفقات الشراء العام خجولة. إذ لا تتقدم للصفقات العمومية سوى شركات كبيرة غالبا ما تكون هي العارض الوحيد، فتفرض شروطها وأسعارها على الخزينة دون منافس لها ولا يكون أمام الجهة الشارية سوى الإذعان لعدم توفر البديل. ويعيق من دخول المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى سوق الشراء العام التأخّر في الدفع من قبل الجهة الشارية، وصعوبة الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالشراء العام، والشروط الصعبة التي عادةً ما تضعها الجهة الشارية. وعلى الرغم من أن الأسباب الموجبة لقانون الشراء العام أفردت حيزاً كبيراً لتحفيز مشاركة هذه المؤسسات انطلاقاً من مبدأ “الشراء العام المستدام”، إلا أن بنود القانون لم تعكس هذا التوجه. ولعل إجازة المادة ١٤ من القانون تجزئة الشراء من قبل الجهات الشارية إلى أجزاء مستقلة عند تنفيذ سياسات تنموية للحكومة تشجيعاً لمشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الشراء العام خير دليل. ذلك أن لا علاقة لتجزئة عملية الشراء الواحدة إلى عدة عمليات شراء بمقتضيات تشجيع مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم. ومع ذلك، لم يُقفَل الباب بعد أمام الكثير من الحلول الجديرة بالاعتماد بشكل سريع وفعال نظراً لكون تسهيل مشاركة هذه المؤسسات يزيد من المنافسة ويقلّل من تكاليف الشراء ويوفر جودة أفضل للخدمة تجلب الابتكار. وعليه، فمن الضروري إلزام الجهات الشارية بتقسيم العقود واعتماد ضمانات مالية متناسبة لا تحدّ من مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة، إلى جانب تنظيم التعاقد من الباطن وجعله ملزماً واعتماد ضمانات مالية معقولة وغير ذلك من الحلول التي ستأتي الورقة على تفصيلها وشرح منافعها.
1- أهمية فتح مجال مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الشراء العام
يساعد إشراك الشركات الصغيرة والمتوسطة في المشتريات العامة الحكومات على تلبية احتياجات المشتريات للقطاع العام بشكل أفضل. وتؤدي عملية تقديم عطاءات تنافسية إلى ضمان زيادة مشاركتها في سوق المشتريات العامة وتتيح الوصول إلى مجموعة واسعة من الحلول المتاحة والمبتكرة، من خلال تحقيق:
- قيمة أفضل مقابل المال: غالباً ما يؤدي جلب المزيد من المنافسين إلى زيادة المنافسة في السوق، ما يقلّل من تكاليف الشراء من جميع الموردين.
- جودة أفضل للخدمة: تكون لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة سلاسل إدارة قصيرة وطرق موافقة، ما يمكّنها من الاستجابة بسرعة للمتطلبات المتغيّرة.
- المزيد من الابتكار: يمكن للشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم أن تجلب الابتكار من خلال الاستغلال المبكر للتكنولوجيا الجديدة أو تقديم المنتجات أو الخدمات في أسواق جديدة أو مختلفة أو باستخدام الابتكار لتمييز نفسها عن الجهات الفاعلة في السوق.
وقد ورد في الأسباب الموجبة لقانون الشراء العام في لبنان أن الأحكام اللبنانية الناظمة للشراء العام بمجملها لا تعتمد معايير واضحة تعكس التوجهات الدوليّة لجهة فتح مجال المنافسة، لا سيما أمام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وأن الاستدامة، وهي أحد المبادئ التي ارتكز عليها القانون، ستضمن تحقيق عمليات شراء تراعي أهداف التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة بشكل متوازن مع الأهداف الأساسيّة من الشراء العام المتمثلة في تلبية الحاجات العامة على قاعدة القيمة مقابل المال.
كما ورد في هذه الأسباب الموجبة أنّ الشراء العام المستدام هو إحدى الممارسات الدوليّة الجيدة المعتمدة حول العالم والهادفة إلى تحفيز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى دخول سوق الشراء العام وتشجيع المنافسة والابتكار وتلبية متطلبات التنمية المستدامة تماشياً مع خطة التنمية المستدامة للعام 2030 التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 أيلول 2015. وقد ورد أيضاً أنّ المؤسسات الصغيرة والمتوسطة تشكّل ما بين 93 إلى 95% من إجمالي مؤسسات القطاع الخاص وتُوظّف 51% من اليد العاملة، لكنّها تبقى غير قادرة على ولوج فرص المشاركة بفاعليّة في العقود الحكومية لأسباب مختلفة، أهمّها: عدم قدرتها وجهوزيتها للمشاركة، التأخّر في الدفع من قبل الجهة الشارية، عدم إمكانية الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالشراء العام.
2- تحفيز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على المشاركة في الشراء العام
هل يتفق مضمون قانون الشراء العام مع ما ورد في أسبابه الموجبة؟ وهل يُعتبَر ما أورده القانون كافياً لتحفيز مشاركة المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم في عمليات الشراء العام؟
نصت المادة الأولى من قانون الشراء العام على ما يلي: “تخضع عمليات الشراء إلى قواعد الحوكمة الرشيدة وتأخذ بالاعتبار مقتضيات التنمية المستدامة”، معتبرة المبادئ العامة الواردة في هذه المادة من الانتظام القانوني العام. كما أجازت المادة ١٤ من القانون في فقرتها الأولى للجهة الشارية تجزئة الشراء إلى أجزاء مستقلة عند تنفيذ سياسات تنموية للحكومة تشجيعاً لمشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الشراء العام.
ولا علاقة لتجزئة عملية الشراء الواحدة لعدة عمليات شراء بمقتضيات تشجيع مشاركة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم، وهنا وقع المشرع اللبناني في خطأ فادح قد يكون ناتجاً عن ترجمة غير دقيقة لإحدى توصيات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. والمقصود هنا هو تقسيم الصفقة الواحدة إلى عدة أقسام على نحو ما أوردته المادة ١٥ من قانون الشراء العام.
وقد نصت المادة ١٥ من قانون الشراء العام في فقرتها الأولى على أن تَعتمِد الجهات الشارية، حيث أمكن، الشراء العام المستدام لتوجيه القدرة الشرائية للدولة نحو السلع والخدمات المستدامة بهدف تقليص الأثر البيئي وتحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية المنصوص عليها في الاتفاقيات الدوليّة ووفقاً للأولوية الوطنيّة، مع الحرص على تحقيق التوازن بين المنافع المحتملة والحرص على تحقيق القيمة الفضلى من إنفاق المال العام وبشكل يسمَح بإعطاء حوافز للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم وللإنتاج المحلي والخبرات الوطنيّة.
كما نصت المادة ١٥ عينها في فقرتها الثانية على ما يلي: “يجب، كلّ ما كان ذلك ممكناً، أن يتمّ التلزيم على أساس أقسام أو مجموعات، على أن يُحدِّد دفتر الشروط الخاص عدد تلك الأقسام أو المجموعات وطبيعتها والشروط المفروضة للاشتراك في قسم أو مجموعة من التلزيم وطريقة إسناد ذلك التلزيم وذلك من أجل الإفادة الاجتماعيّة والاقتصاديّة. توضع قواعد وسياسات للشراء العام المستدام بموجب مراسيم تُتّخَذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير أو الوزراء المختصين”. وهنا يُلاحَظ أن المشرع اللبناني قد ألغى دور هيئة الشراء العام هيئةً ناظمةً لصالح السلطة التنفيذية ولم يعطها حتى صلاحية إعداد المراسيم، بل لم يطلب على الأقل رأيها في مجال هو من صلب اختصاصها.
وقد نصت المادة ٧٢ من قانون الشراء العام في فقرتها الأخيرة على أن يَتَضمَّن التدريب دعم تطبيق أهداف التنمية المستدامة. كما نصت الفقرة ٢١ من المادة ٧٦ من قانون الشراء العام في معرض تعدادها لمهمات هيئة الشراء العام على ما يلي: “تقديم اقتراحات وتوصيات إلى الجهات المعنيّة حول وسائل وسبل التطوير والتشجيع على الابتكار في الشراء العام وتحفيز المؤسسات الصغيرة والمتوسطة على المشاركة في الشراء وتحسين التطبيقات واقتراح تعديل الأنظمة والقوانين”. كما نصت المادة ١٠٢ في معرض تعدادها لمهمات جهات التعاقد على ما يلي: “وضع الخطط لإدارة المخاطر ولتحقيق أهداف التنمية المستدامة في الشراء العام”.
3- مبادرات لدعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة
سبقت صدور قانون الشراء العام مبادرات لدعم المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم نذكر منها القرار الصادر عن حاكم مصرف لبنان برقم 7494 تاريخ 24-12-1999 المتعلق بالقروض الممنوحة للمؤسسات الصغيرة أو المتوسطة لقاء كفالة “شركة كفالات ش .م.ل.- كفالة قروض المؤسسات الصغيرة والمتوسطة”. كما نذكر اتفاقيات قروض أبرمتها الدولة اللبنانية مع البنك الدولي للإنشاء والتعمير لدعم الابتكار في مشاريع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
كما أطلقت وزارة الاقتصاد والتجارة المنتدى اللبناني للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم للعام 2017؛ ومنذ ذلك الحين، شاركت وزارة الاقتصاد والتجارة في عدد من الأنشطة ذات الصلة بأهداف التنمية المستدامة وأدرجت أهداف التنمية المستدامة في الرؤية وتخطيط المشاريع في الوزارة، كما تم وضع دليل من وزارة الاقتصاد يتضمن قائمة بمؤسسات الدعم المتوفّرة والخدمات التي يمكن للشركات الناشئة والمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة الحجم أن تستفيد منها في مختلف مراحل نموها.
4- العقبات أمام إشراك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الصفقات العمومية
على الرغم من هذا المسار التشريعي الملائم، ما زالت المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم بعيدة عن الصفقات العمومية لأسباب عملية أهمها:
- كتابة مواصفات معظم العروض بشكل ضيّق للغاية بما لا يسمح بالمنافسة الحقيقية.
- كثرة المستندات الورقية المطلوبة لتقديم العروض.
- صعوبة التنافس مع الشركات الكبيرة.
- صعوبة فهم المعلومات المقدمة والمستندات المطلوبة.
- ارتفاع قيمة الصفقات العمومية.
- ارتفاع العبء الإداري لتقديم العروض.
- عدم وضوح شروط العروض المتاحة للمشتريات ذات القيمة الأصغر.
- تأخر الدفع.
- التركيز على السعر فقط بدلاً من القيمة مقابل المال.
- إعطاء وقت قصير للغاية لإعداد العروض.
- عدم النزاهة في عملية الشراء.
5- ما هي الحلول المتاحة؟
تقترح هذه الورقة عدداً من الحلول التي من شأنها تسهيل إشراك المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الصفقات العمومية، ومنها:
- منح الأفضلية للشركات الصغيرة والمتوسطة الوطنية لدى البت في العروض.
- تفادي المعايير المفرطة للقدرة الاقتصادية والمالية عندما تكون غير مبررة.
- اعتماد سياسة إلزام الجهة الشارية بتقسيم العقود: (1) لتشجيع المشاركة في المناقصات أي من خلال مجموعات متخصصة من الشركات، (2) لخلق المنافسة في السوق، (3) لتجنّب الاعتماد على مورد واحد، (4) لتوزيع المخاطر. هنا نذكر إنَّ توجيه الاتحاد الأوروبي للعام 2014 بشأن المشتريات العامة يلزم السلطات المتعاقدة تقسيم العقد؛ فعندما تقرر السلطات المتعاقدة عدم القيام بذلك، ينبغي عليها التبرير.
- إتاحة الفرصة للاعتماد على قدرات الشركات الأخرى للوفاء بالمعايير المتعلّقة بالوضع الاقتصادي والمالي والقدرة الفنية والمهنية. وهنا يُذكَر أن قانون المشتريات العامة في النرويج يجيز التعاون بين الموردين في وثائق المناقصة الخاصة بهم، ونماذج العطاءات المشتركة المرفقة بوثائق العطاء.
- وضع شروط متناسبة حصرا مع موضوع الشراء. هنا تُذكَر نقطة مفادها أن توجيه الشراء لعام 2014 على مستوى الاتحاد الأوروبي يحدّ من متطلبات المبيعات السنوية إلى ضعف قيمة العقد المقدَّرة على الأكثر، باستثناء الظروف المبررة حسب الأصول، مثل بعض العقود عالية المخاطر، كما أدخل قانون المشتريات العامة في المجر قيوداً معيارية على معايير الاختيار.
- ينبغي ألاَّ يتجاوز المبلغ المطلوب 75% من القيمة المقدرة للعقد.
- ينبغي ألاَّ يتجاوز المبلغ الإجمالي المطلوب من الدخل السنوي على مدى السنوات الثلاث الماضية القيمة المقدرة للعقد.
- اعتماد ضمانات مالية متناسبة لا تحدّ من مشاركة الشركات الصغيرة والمتوسطة.
- تنظيم التعاقد من الباطن وجعله ملزما، إذ يوفّر التعاقد من الباطن فرصاً جيدة للشركات الصغيرة والمتوسطة لأداء بعض الخدمات أو الأعمال المدرجة في المشروع. وبهذه الطريقة، يمكن أن يسهل التعاقد من الباطن وصول الشركات الصغيرة والمتوسطة إلى سوق المشتريات.
- وضع نظام الشراء الإلكتروني موضع التنفيذ.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق