ملخص تنفيذي
لا يلبث قانون الشراء العام أن يخرج من “فجوة” عدم التصريح عن صاحب الحق الاقتصادي و”جمود” تشكيل لجان التلزيم والاستلام حتى يقع في “حُفرةٍ” أعمق تجعل من تطبيقه مهمة شبه مستحيلة. وتُعَدّ بعض المعوقات “مدمجة” في صلب القانون، وتتعلق بالمهل القانونية لنفاذ العقود وإصدار أمر الدفع؛ وبعضها الآخر ناتج عن عدم أخذ واضعيه الأزمة الاقتصادية، ولا سيما فيما يتعلق بالانهيار النقدي، بعين الاعتبار. ولا يفسح ذلك المجال أمام الجهات الشارية للتهرب من تطبيق القانون باستغلال بعض مواده فحسب، بل يفقد الموردين شهية التعامل مع إدارات الدولة والتقدم للمناقصات. ففي ظل إلزامية إبرام العقود بالليرة اللبنانية واشتراط السداد بعد حين، ونظرا للتقلبات الحادة في سعر الصرف والتي تتفاوت أحيانا كثيرة بنسبة 10 في المئة في اليوم الواحد، تُعَدّ الخسارة المحققة على الموردين هائلة، وستدفعهم حتما لتجنبها عبر رفض المشاركة في مناقصات الإدارات العامة.
قانون الشراء العام، الذي وُضِع أساسًا بهدف إصلاح الشراء العام بوصفه ركيزة أساسية من الركائز السبع الاستراتيجية لمكافحة الفساد، يفتح المجال واسعًا أمام الإدارات للتهرب منه. فالصرامة المطلقة في بعض بنود الشراء العام تشجع الجهات الشارية على الالتفاف حوله مثل أن تعمد إلى تقسيم مشترياتها إلى قيم تقل عن مائة مليون ليرة حتى لا تُضطَرّ إلى إجراء المناقصات.
أما الأخطر من ذلك، فهو فتحه باب التوظيف بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء لزوم إكمال ملاك وحدة الشراء العام لدى كل جهة شارية بعد أن أقفلته القوانين للحد من فقاعة التوظيف في القطاع العام. وقد يسمح ذلك للسياسيين بإدخال أزلامهم ومسحوبيهم إلى ملكات الإدارات العامة من شباك قانون الشراء العام بعد أن أقفله قانون إقرار سلسلة الرتب والرواتب في العام 2017 وأعادت قوانين الموازنات عن الأعوام اللاحقة التأكيد عليه. ويتطلب ذلك معالجات جدية تنطلق من مواءمة القانون مع الظروف والتحديات التي تمر بها البلاد. ففي ظل استعصاء إصلاح سعر الصرف والحد من تقلباته الحادة، يبقى تطبيق القانون معلقًا، أو يكون في أحسن الأحوال مدخلًا لإمكانية عودة الفساد في صفقات مشتريات الإدارات العامة بعد أن دأب القانون للحد منها.
كما يُعتبَر القانون بمثابة إضاءة على الانتفاخ غير المبرر أو المنظم في القطاع العام ومدخل لإصلاحه. ففي الوقت الذي يتجاوز فيه عدد الموظفين 300 ألف موظف، تعجز الكثير من الإدارات المركزية واللامركزية عن إيجاد العدد اللازم من الموظفين في ملاكاتها لتشكيل لجان الشراء والتلزيم. وبدلا من تشجيع القانون على إعادة توزيع التخمة في القطاع العام بشكل سليم والاتجاه إلى استئصال ورم فائض الموظفين من خلال عملية إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص ولا سيما فيما يتعلق بالاستثمار وتقديم الخدمات، نراه لا يطرح الحل المناسب، بل يشجع مع الأسف على المزيد من التوظيف.
ولعلّ المشكلة تكمن في أن ما يطرحه القانون من الناحية النظرية يُعتبَر سليمًا بالكامل لبلد “طبيعي”؛ أما في حالة لبنان، وفي ظل استحالة وجود مهلة زمنية للخروج من الانهيار الذي قد يمتد لسنوات طوال أو لإصلاح الشوائب الكثيرة، فيتطلب ضمان تطبيق القانون تعديلات جوهرية ليتطابق مع الواقع ويصبح تطبيقه سهلا وملزما للجميع دون اختلاق الحجج. وكما يقول المثل الشعبي “إذا أردت أن تطاع، فاطلب المستطاع”، يمكننا القول إنّه إن أُريدَ لقانون الشراء أن يُطَبَّق، فعليه أن يتسم بالمرونة ويأخذ حيثيات الأزمة التي يمر بها لبنان في الاعتبار.
وفيما يلي أبرز الثغرات التي تعتري تطبيق قانون الشراء العام مفصلة، وهي تحتاج إلى إعادة نظر وتعديل.
عملة العقد والدفع ذرة المشاكل في ظل عدم الاستقرار النقدي:
نصت المادة الخامسة من قانون الشراء العام على أن يُحَدِّد دفتر الشروط عملة العقد وكيفية المحاسبة في العقود بالعملة الأجنبية، علما أن إدارات الدولة ووزاراتها لا تملك حسابات في المالية أو مصرف لبنان بالعملة الأجنبية؛ وعليه، فإذا تم تحديد قيمة العقد بالعملة الأجنبية، فهذا يعني أن حجز الاعتماد سيحصل بالليرة اللبنانية. ومن المعلوم أن على كل عقد نفقة وفقًا لقواعد المالية العامة أن يسبقه حجز اعتماد من الموازنة العامة لهذه النفقة، فإذا تم حجز الاعتماد على سعر صرف 88500 ل.ل. للدولار الواحد، فلن يكون المبلغ المحجوز كافيًا لتصفية النفقة التي تفصل بينها وبين الحجز فترة زمنية تتجاوز الستة أشهر؛ وعندها لن تتمكن الوزارة من تصفية كامل النفقات على سعر الصرف الجديد.
فمن أين تحجز المبالغ الإضافية لسداد كامل قيمة النفقة؟ وإذا حجزت قيمة النفقة بالليرة اللبنانية، فإنّ عارضًا واحدًا لن يتقدم إلى المناقصات التي تجري سندًا لأحكام قانون الشراء العام؛ إذ نصت المادة 22 منه على أن تكون مدة صلاحية العرض متناسبة مع طبيعة الشراء على ألا تقل عن ثلاثين يومًا من التاريخ النهائي لتقديم العروض.
هل يلتزم بائع الخضار بالسعر نفسه للفاكهة بالليرة اللبنانية بين يوم وآخر؟ وكيف لعارض أن يلتزم بعرضه بالليرة اللبنانية في ظل الأوضاع الراهنة لأشهر وربما سنوات، أخذا بعين الاعتبار التأخر المستمر في سداد ديون المتعهدين والموردين من قبل وزارة المالية دون أن تترتب لهؤلاء الموردين والمقاولين أية فوائد على ديونهم المتأخرة؟
شراء المحروقات يلزم الجهات الشارية بالتجزئة لغياب الأحكام الخاصة بالتعرفة الرسمية في قانون الشراء العام:
تواجه الإدارات العامة مشكلة الشراء بالفاتورة للمحروقات، وهي التي تصدر أسعارها بتعرفة رسمية عن وزارة الطاقة والمياه ويتعذر في الظروف الحالية الحصول على سعر أدنى منها لانتفاء المنافسة الناتج عن عدم مشاركة الموردين في المناقصات. وقد حُدِّد الشراء بالفاتورة في قانون الشراء العام بمعيار واحد يتعلق بسقف مالي تبلغ قيمته مائة مليون ليرة لبنانية، فتضطر الجهات الشارية التي تشتري المحروقات بمبالغ تفوق هذا السقف إلى التجزئة لاستحالة التقيد بالقيمة المحددة في قانون الشراء العام للشراء بواسطة الفاتورة.
بعض المهل المحددة في قانون الشراء العام غير قابل للتطبيق:
نصت الفقرة الرابعة من المادة 25 من قانون الشراء العام على ما يلي: “فور انقضاء فترة التجميد، تقوم الجهة الشارية بإبلاغ الملتزم المؤقت بوجوب توقيع العقد خلال مهلة لا تتعدى 15 يومًا”. كما نصت الفقرة الخامسة من المادة 24 عينها على ما يلي: “يوقع المرجع الصالح لدى الجهة الشارية العقد خلال مهلة 15 يومًا من تاريخ توقيع العقد من قبل الملتزم المؤقت. يمكن أن تمدد هذه المهلة إلى 30 يومًا من حالات معينة تحدد من قبل المرجع الصالح”.
وليست مهلة الخمسة عشر يومًا الممددة إلى 30 يومًا بالمهلة الواقعية لعرض الملف على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة عند الاقتضاء، ولا على تصديق سلطة الوصاية بالنسبة للجهات التي تخضع قراراتها التعاقدية لتصديق سلطة وصاية مثل البلديات والمؤسسات العامة.
بعض موجبات قانون الشراء العام مستحيلة أو غير واقعية:
- بدء نفاذ العقد: نصت الفقرة السادسة من المادة 24 عينها على أن يبدأ نفاذ العقد عندما يوقع الملتزم المؤقت والمرجع الصالح لدى سلطة التعاقد عليه، فيما يكون الواقع هو أن بدء نفاذ العقد يكون من تاريخ إبلاغ الملتزم بتصديق الصفقة.
- المهلة القصوى لإصدار أمر الدفع: نصت المادة 31 من قانون الشراء العام في القسم “ثانيًا: الكشوفات”، وتحديداً في الفقرة الثالثة، على ما يلي: “يجب أن يحدد في شروط العقد ما يلي: المهل القصوى لإصدار أمر الدفع.” ويصدر أمر الدفع عن وزارة المالية ولا علاقة لسائر الجهات الشارية به ولا يمكنها تحديد المهلة القصوى لصدوره في وثائق المناقصة.
- تعيين لجنة استلام لكل عملية شراء: نصت الفقرة ٣ من المادة ١٠١ من قانون الشراء العام على أن تعين لجنة الاستلام لكل عملية شراء بقرار من المدير العام في الإدارات والمؤسسات العامة وبقرار من السلطة التقريرية في البلديات وغيرها من الهيئات، وهي تختلف في قوامها وأعضائها عن لجنة التلزيم…. من هي الجهة الشارية التي يتوفر في ملاكاتها العدد الكافي من الموظفين لتأليف لجنة استلام لكل عملية شراء؟ وهل من حاجة عملية عند كل شراء للوازم أو خدمات بالفاتورة مثلا لتأليف لجنة شراء خاصة؟
نصوص التخطيط في قانون الشراء العام تحول دون أي تخطيط:
ألزمت الفقرة ٣ من المادة ١١ من قانون الشراء العام الجهات الشارية بإرسال خطتها المكتملة إلى هيئة الشراء العام في مهلة عشرة أيام عمل من تاريخ إقرار الموازنة، على أن تقوم هيئة الشراء العام بتوحيد الخطط في خطة شراء سنوية موحدة ونشرها خلال عشرة أيام عمل.
بدايةً، يُطرَح السؤال التالي: ما المقصود بمصطلح “الموازنة”؟ أهي الموازنة العامة للدولة أم موازنة كل جهة شارية على حدة؟
يُرَجَّح من خلال السياق الذي ورد فيه المصطلح وما ورد في الأسباب الموجبة للقانون من ضرورات الدمج مع الموازنة العامة للدولة فرضية أن المقصود هو الموازنة العامة للدولة، وذلك أيضا لارتباط موازنات معظم الجهات الشارية بهذه الموازنة بشكل أو بآخر. وقد لا تكون مهلة أيام العمل العشرة كافية لنشر الموازنة من قبل رئيس الجمهورية لتصبح نافذة بعد إقرارها في مجلس النواب، فمتى تضع الجهات الشارية خططها المكتملة؟ يوصلنا ذلك إلى نتيجة أن لا مهلة معطاة لوضع الخطط.
من ناحية ثانية، قد يتأخر إقرار الموازنة العامة للدولة أشهرا كاملاً، فلماذا يتم ربط الخطط بهذه الموازنة طالما كانت الجهات الشارية تملك حق التعديل اللاحق إذا جاءت اعتمادات الموازنة مخالفة لما هي بحاجة إليه بالنظر إلى خططتها (الفقرة الرابعة من المادة ١١ من قانون الشراء العام).
في زمن منع التوظيف، قانون الشراء العام يكوِّن وحدات إدارية جديدة:
في زمن منع التوظيف في القطاع العام الذي نصّت عليه المادة ٢١ من قانون سلسلة الرتب والرواتب رقم ٤٦ المنشور في الجريدة الرسمية العدد ٣٧ تاريخ ٢١ آب ٢٠١٧ والمادة ٨٠ من القانون رقم ١٤٤ تاريخ ٣١ تموز المنشور في ملحق الجريدة الرسمية العدد رقم ٣٦ تاريخ ٣١ تموز ٢٠١٩ (قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة للعام ٢٠١٩)، ألزمت الفقرة الثانية من المادة ٧٣ من قانون الشراء العام الجهات الشارية إنشاء وحدات إدارية تكون مسؤولة عن عمليات الشراء وفقا لأحكام هذا القانون. وقد نصت الفقرة الثالثة من المادة ٧٣ عينها على أن يحدد ملاك وحدة الشراء العام لدى كل جهة شارية بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح المرجع المختص.
هنا تطرح الأسئلة التالية في ضوء نص الفقرة الخامسة من المادة ١١٤ من قانون الشراء العام بإلغاء كل نص مخالف لأحكام هذا القانون أو لا يتفق مع أحكامه:
هل عدل قانون الشراء العام القوانين السابقة التي قضت بمنع التوظيف في القطاع العام لمقتضيات ملء المراكز الوظيفية التي تضمها وحدة الشراء العام؟ وهل قصد القانون تعديل نصوص إنشاء الوحدات الإدارية في بعض الجهات الشارية التي لا تُنشَأ الوحدات الإدارية فيها بمراسيم تتخذ في مجلس الوزراء كما بالنسبة للبلديات ومصرف لبنان؟
في المحصلة، يُعَدّ تعديل قانون الشراء العام شرطًا أساسيًا وجوهريًا لضرورات تطبيقه.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق