إختتم وفد صندوق النقد الدولي زيارته للبنان مؤخراً، وأصدر تقريراً حيال الوضع الإقتصادي والنقدي في لبنان. ما الجديد – القديم في هذا التقرير الأخير للصندوق، والذي ذكّر فيه بأن لا نية ولا جدّية، ولا حتى خطوة واحدة، تُشير إلى تنفيذ الإصلاحات المرجوّة وإعادة الدورة الإقتصادية وإعادة هيكلة القطاع المصرفي في دولتنا المنهارة؟
نقرأ أنّ ما ورد في التقرير الأخير لصندوق النقد الدولي يتضمّن الكلمات والمفردات والمعاني عينها، مقارنة بكل التقارير التي صدرت في السنوات الخمس الماضية، والتي دُفنت في اللجان وفي الدروج، والمنصات الرسمية.
ذكّر وفد الصندوق في تقريره الأخير، بأنّ لبنان لا يزال يمرّ بأكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية ومالية ونقدية في تاريخ العالم، ولم يُتخذ حتى تاريخه أيّ إصلاح جدّي منذ نحو ثلاث سنوات ونصف السنة، من شأنه أن يضع حدّاً للأزمة الراهنة في البلاد. كما أنه لم تبدأ أيّ إعادة هيكلة ضرورية للقطاع المصرفي لإعادة الدورة الإقتصادية والتبادل التجاري، وإعادة الإستثمار والنمو. فالأزمة تتفاقم يوماً بعد يوم، شهراً بعد شهر، سنة بعد سنة، فيما الإقتصاد اللبناني يتدهور والبُنى التحتية تنهار، ومؤسسات الدولة تُهدم، أكثر فأكثر.
كما ذكّر صندوق النقد بأن أكثرية المنصّات والمناصب شاغرة وفارغة، من دون أي مسؤول أو مسؤولية، والتي تفتح الباب، للزبائنية والفساد المستشري، فيما تزداد نسبة الفقر على نحو غير مسبوق في لبنان، في ظلّ غياب أي تدابير واضحة للحدّ من هذه الآفة، والإنهيار الإجتماعي، الذي لو وصل حتى أسفل القعر، سينفجر ويتحمّل لبنان واللبنانيون العواقب الوخيمة. كذلك ذكّر الصندوق بأن لبنان يشهد إنهياراً إقتصادياً جامحاً، في ظل التضخُّم المفرط الذي يُهدد السلم الأهلي. كما ذكّر، أن العجز في الموازنة العامة لم يعد محتملاً، ويؤثّر على حياة اللبنانيين اليومية، ولم يعد للدولة الإمكانية المالية والنقدية لتأمين أقل الحاجات البديهية والإنسانية، مثل الأدوية، والمازوت، والقمح والإنترنت وبعض الصيانات الضرورية.
من جهة أخرى، دعم صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير، التدابير التي اتّخذها أخيراً حاكم مصرف لبنان بالإنابة الدكتور وسيم منصوري، وأبرزُها أهمية الإلتحاق بمنصة بلومبورغ الدولية، وعدم إستدانة الدولة في ظل غياب الإصلاحات الجدية، ووقف الإمتصاص والمسّ بما تبقّى من الإحتياط، مطالباً بإقرار القوانين المرجوّة لدعم هذه الإصلاحات ووضع لبنان من جديد على طريق التعافي.
من جهة ثالثة، شدّد وفد الصندوق على أهمية وضع القيود على كل السحوبات والتحويلات المالية، وخصوصاً الأموال الجديدة الكاش، ملمّحاً الى أهمية إقرار قانون الكابيتال كونترول. في هذا السياق، نذكّر ونشدد على أنه كان يُفترض إقرار قانون الكابيتال كونترول، منذ ثلاث سنوات ونصف السنة، لحماية ما تبقّى من الكابيتال، ومنعه من الهروب إلى الخارج. أما اليوم فإن إقرار هذا القانون لن يحمي هذا الكابيتال المتبخّر والمنهوب، لكن سيُركّز على الكابيتال الجديد وأموال الفريش كاش، فيكون هذا القرار باباً جديداً للدولة، لوضع يدها الآن على الفريش كاش الجديد، فتختبئ من وراء الصندوق لتنتقي الإصلاحات التي تناسبها، من دون أي اتفاق مع هذه المنظمة الدولية.
نذكّر ونشدد على أن لبنان بلد ديموقراطي ومنفتح، وهو مبني على الإقتصاد الحر، وهو أيضاً منصّة للتبادل التجاري الدولي، وإذا وُضعت قيود على الفريش كاش، ستكون رصاصة رحمة على ما تبقّى من الإقتصاد والإستثمار، وستخلق سوقاً سوداء جديدة، لتهريب الأموال، بأسعار فاحشة وخسائر فادحة.
أما على صعيد الضرائب، فقد ركّز الصندوق، على أهمية رفع الضرائب، وحتى على إعادة هيكلة كل النظام الضريبي في لبنان. إننا نتفهّم هذه المطالب المحاسبية، لكن نتساءل كيف يُمكن للمسؤولين المباشرين عن أكبر أزمة إقتصادية وإجتماعية، وأكبر عملية نهب وفساد في تاريخ العالم، أن يُطالبوا المواطنين المنهوبين والمنكوبين بدفع ثمن فشلهم وفشل إدارتهم. ونشدّد على أن العجز لا يُخفّض بالضرائب، ولا بتهريب المستثمرين والإستثمارات، إنما يُعالَج بإعادة الثقة والنمو، وجذب الإستثمارات الخارجية، وليس بطعن ما تبقّى من المستثمرين بهدف سرقتهم من جديد.
نُذكّر أن زيادة الضرائب لن ترفع مداخيل الدولة، لا بل تُحفّز الإقتصاد الأسود والتهريب والتبييض والترويج.
في المحصّلة، إن تقرير صندوق النقد الدولي الجديد – القديم لم يقم بجديد سوى بتذكيرنا بوضعنا الإقتصادي المهترئ، وعدم وجود أي نيّة جدية للإصلاح، وهذا يعني أننا نبتعد يوماً بعد يوم من أي اتفاق مع الصندوق، وأيّ ضخ سيولة من المجتمع الدولي. فالصندوق يقوم بعمله الروتيني، ويُصدر تقارير مشابهة، أما الدولة فتتابع سياستها التخريبية، والتدمير الذاتي، طامرة رأسها في التراب، وتبني على بعض مطالب الصندوق، لمصلحتها الخاصة، ولتكملة عملية النهب، والكل يعلم أن لا نية لا بالإصلاح ولا بإعادة الهيكلة، ولا بإتفاق بين الصندوق والدولة.