عندما تسلّم لبنان من صندوق النقد الدولي في أيلول 2021، حصته من حقوق السحب الخاصة البالغة حينه 1.139.951 مليار دولار، كانت الأزمة الاقتصادية فيه تزداد سوءاً وتعقيداً، فيما القطاعات الاقتصادية تتفكك وتتهاوى قدراتها أكثر، وسط انهيار دراماتيكي لليرة اللبنانية، ألغى الطبقة الوسطى، وهبط بـ80% من الشعب اللبناني إلى خط الفقر. وتبعاً لذلك، صنّفت مؤسسات ومراكز دراسات دولية الأزمة اللبنانية، ضمن أسوأ ثلاث أزمات عالمية، قد تؤدي إن تفاقمت إلى تمدد الجوع والفوضى الأمنية والاجتماعية، إلى بلد لطالما كان تاريخياً موئلاً للاجئين والباحثين عن أمان وبحبوحة.وفي أوج الأزمة، وصلت أموال الـ SDRإلى حساب خاص افتتح خصيصاً في مصرف لبنان، وتبارى المسؤولون في كيفية صرفها، وفاضت السجالات حيال مصيرها، ولم يبقَ لبناني ناشط أو باحث عن دور، إلا أدلى بدلوه إزاء كيفية استخدامها، إلى أن بدأت الحكومة بالصرف.
تحت بند الضروري والطارئ والإنساني، ارتُكب الاستنزاف، وصُرفت الملايين تلو الأخرى، وتحت ضغط أزمات تتداخل فيها العوامل الإنسانية مع الأخلاقية والمالية، مُوّلت طباعة جوازات السفر البيومترية، واستمرّ دعم أدوية الأمراض المستعصية، وسُدّدت التزامات لبنان لدى الجهات والمنظمات الدولية، وغيرها من الحاجات والحالات الضرورية.
ما يزيد بقليل عن مليار دولار صُرف خلال عامين بقرارات حكومية بحت، أو بأوامر من رئيسها منفرداً، دون المرور بالمجلس النيابي أو مراعاة القواعد الدستورية والمحاسبة العامة في ذلك.
لا جدال إزاء “على ماذا صرفت الحكومة الأموال؟” بل النقاش يدور حول “كيف تم ذلك؟” وهل الدولة برغم عاهاتها المعروفة في السياسة والاقتصاد، فقدت كلياً القدرة على إبقاء دور للقانون العام المالي والإداري في إدارة المؤسسات وتوجيهها؟ من جهة أخرى، لم يكن للحكومة ورئيسها أن يتماديا بالصرف، لو أن في الأفق بوادر رقابة جدية يعرفان أنها آتية. فالمجلس النيابي راسل الحكومة لكنه لم يلح، ناشد تطبيق القانون معترضاً على تهميشه، لكنه لم يفتعل أزمة مع الحكومة، لأن النواب يعرفون ويعلمون علم اليقين أن رأسَي المجلسين متفقان، وأن إعلاء صوت الاعتراض أكثر من مراسلة إدارية جوابه سيكون “للبحث صلة”.
الاجتماع الذي دعت إليه لجنة المال والموازنة قبل يومين، وحضره رئيس لجنة الإدارة والعدل، أتى في سياق تفاقم تجاهل الحكومة ورئيسها لمراسلات المجلس النيابي، خصوصاً بعدما تناهى للنواب أن ثلاثة أرباع مليار دولار في طريقها إلى لبنان من صندوق النقد الدولي قد تتسلمها الدولة أواخر السنة الجارية.
ما خلص إليه الاجتماع من إحالة ملف تفرد الحكومة بالصرف دون مراعاة لقانون المحاسبة العمومية، إلى ديوان المحاسبة، وإن أتى متأخراً، لكنه سيضع الحكومة أمام خريطة طريق قانونية، ملزمة لها في أي عمليات صرف مستقبلية، خصوصاً من الأموال المتوقع تلقّيها مجدداً من صندوق النقد، كما سيعيد للمجلس النيابي أمرين: دوره الرقابي على الحكومة، وشراكته في تحديد وجهة الأموال وكيفية صرفها.
فالبعض عاب على لجنة المال تحركها المتأخر لمناقشة مخالفات الحكومة في صرف مستحقات حقوق السحب من صندوق النقد الذي جاء بعدما نفدت أموال حقوق السحب الخاصة، لكن رئيس اللجنة إبراهيم كنعان رد على “جماعة عنزة ولو طارت” بالمستندات التي تثبت براءة اللجنة من اتهامات التقصير، وبيّن أن اللجنة بدأت بالتحرك منذ ما قبل كانون الأول 2022.
وقال لـ”النهار”: “حتى نيسان 2022 لم يكن قد صُرف أي مبلغ من أموال الـSDR، فيما “رقابتنا بدأت منذ كانون الأول 2022. وعلى الرغم من ذلك، يجب التوضيح أن لجنة المال ليست محكمة بل سلطة رقابية، مع الإشارة إلى أن اللجنة لا تعترض على صرف الأموال، بل على طريقة الصرف من دون العودة إلى مجلس النواب ومن دون وضعها في حساب الخزينة، إذ فُتح حساب خاص في مصرف لبنان، وهذا الأمر بحد ذاته مخالفة، إذ حسب المادة 242 من قانون المحاسبة العمومية، يُفترض أن تأتي الأموال العامة إلى حساب الخزينة، وبموجب المادة 83 من الدستور والمادة 51 من قانون المحاسبة العمومية لا يمكن للحكومة صرف أموال من دون العودة إلى مجلس النواب خصوصاً إذا كانت من خارج الموازنة، علماً بأنه تبيّن من كلام وزير المال أن الكثير من الصرف حصل عبر مراسلات من رئيس الحكومة ومن دون العودة حتى إلى مجلس الوزراء”.
وقال عبر منصة X”وصلتنا أول مراسلة من وزارة المالية بتاريخ 14 كانون الأول 2022 ووجّهت اللجنة والزملاء النواب بعدها أكثر من سؤال للحكومة وعقدت في 22 شباط 2023 جلسة متابعة كما اللجان المشتركة. ولكن اللجنة، كما يفترض بأي مطلع بالحد الأدنى على عمل المؤسسات الدستورية واللجان النيابية، ليست المجلس النيابي ولا القضاء، فحدود صلاحياتها إجراء الرقابة على عمل الحكومة والإضاءة على أي مخالفة قانونية ومالية والطلب من القضاء التحرّك وفقاً لمعطيات موثقة كما فعلت في الكثير من الملفات وأبرزها الحسابات المالية غير المدقّقة منذ عام 1993 والتوظيف العشوائي، كما مشاريع الموازنات وغيرها من المشاريع المتعلقة بأموال المودعين والانتظام المالي.
وذكر أنه “في 28 تشرين الأول 2021 أسقطت الهيئة العامة صفة العجلة عن اقتراح قانون تقدّم به عدد من الزملاء لإلزام الحكومة العودة إلى المجلس النيابي قبل صرف أي مبلغ من أموال السحب، وقد تعهّد رئيسها في حينه العودة إلى المجلس في أي حال إذ إن الدستور وقانون المحاسبة العمومية يلزمان الحكومة بذلك أصلاً دون الحاجة إلى قانون جديد”.
وخلص إلى أن المشكلة هي مرة أخرى بالسلطة التنفيذية التي ترى نفسها فوق الدستور والقانون وحتى القضاء، وهذا ما يجب أن يتوقف ويحاسب المسؤولون عنه نيابياً من خلال المجلس النيابي وقضائياً في القضاء.
أما النائب مصجورج عدوان الذي كان حاضراً في اجتماع لجنة المال فأكد لـ”النهار” أن اللجنة سبق أن طرحت الموضوع، وراسلت رئيس حكومة تصريف الأعمال، ولكنها لم تحصل على الأجوبة الشافية”، مشيراً إلى أن ثمة قرارات بالصرف اتخذها رئيس الحكومة منفرداً، وأخرى وافقت عليها الحكومة.
وإذ يؤكد عدوان أنه “صدر قبل ثلاثة أشهر قرار عن ديوان المحاسبة ينص على أن الوزير الذي يتخذ قراراً مخالفاً يتحمّل مسؤولية شخصية بهذا الشأن”، وسأل “هل سيطبَّق هذا القرار على ملف صرف أموال الـSDR؟”.
وإن كان النائب عدوان على يقين بأن قرارات ديوان المحاسبة لن تعيد الأموال التي صُرفت، فإنه يؤكد أن بإمكانه وضع قاعدة صارمة جداً للمستقبل، خصوصاً أنه سيصل مبلغ 839 مليون دولار من أموال حقوق السحب الخاصة قبل نهاية عام 2023″.
ولكن ماذا يعني تحويل الملف إلى ديوان المحاسبة؟ وفق مصادر متابعة، فإن الديوان سيجري تحقيقاً أوّلياً، ومن بعده يُبنى على الشيء مقتضاه، كتحويل الملف إلى الغرفة القضائية وإصدار قرارات أولية ونهائية، وإن ثبتت مخالفات وارتكابات يمكن الادعاء والمحاكمة. ولكن هل قرارات الديوان ستعيد الأموال التي صُرفت؟ تقول المصادر “الضرر وقع: الأموال صُرفت. وتالياً يمكن أن تكون قرارات الديوان فاتحة لتطبيق المبادئ الدستورية والقانونية للأموال التي قد تأتي لاحقاً وتكريس ضرورة أن يُصار لإنفاقها سنداً إلى قانون يصدر عن مجلس النواب”.
وأكدت أن التأخير في إرسال الملف إلى ديوان المحاسبة “لا يؤثر على اختصاص الديوان في الملف. المهم أنه تمّت الإحالة”.