لملم رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي “فضيحة” المكافآت الاستنسابية لموظفي المالية وبعض المحظيين على عجالة، لكنه عجز عن الإحاطة بتداعياتها. فقد أعلن بدايةً موظفو ثماني وزارات وإدارات رسمية (من ضمنها وزارات الزراعة والإعلام والاقتصاد) الإضراب العام احتجاجا على التمييز، ليعود وينضم جميع من في ملاك الوظيفة العامة إلى الإضراب. عندها توقفت مختلف القطاعات وعُلِّق التصدير والاستيراد ولاحت في الأفق أزمة محروقات، ودخلت البلاد في شلل شبه كلي. وتمثّل الحوافز التي أعطتها المالية لموظفيها وبعض المحظيين في الهيئات التفتيشية ورئاستي الحكومة والجمهورية خطأً مبدئياً، قبل أن يكون محاسبياً، يتعلق بالإنفاق مما لا تملك. فما اصطُلِح على تسميته “حوافز” يضرب مبدأ المساواة بين الموظفين من جهة ويعتمد من الجهة الثانية على موازنة ٢٠٢٤ مخالفة للأصول معرضة للإبطال كلياً أو جزئياً نتيجة الطعن المقدم ضدها في المجلس الدستوري. ويبرز ذلك خصوصاً في المادة ٧٣ من الموازنة، والتي نصت على إعطاء حصة ٤٠ في المئة من غرامات التحقق لمدير المالية العامة وموظفيها. وتعتبر هذه المادة، كما الكثير من أخواتها، من فرسان الموازنة، أي من المواد التي ينبغي إقرارها بقانون منفصل، لا تضمينها في صلب موازنة ٢٠٢٤ لكي تقر معها بشكل تلقائي.
وأقل ما يقال في موازنة ٢٠٢٤، التي توزع الحكومة منها وعلى حسابها المكافآت، أنها تخالف مبدأ الشمول. فالإيرادات المنتظرة والنفقات المتوقعة ليستا حقيقيتين. إذ لم تأخذ الأولى بإمكانية إبطال العديد من الضرائب الواردة تحت مسمى الفرسان، ولم تبنَ أساسا على قطع حساب العام الماضي لمعرفة ما إذا كانت الزيادات ستوسع الصحن الضريبي ام تقلصه تبعاً لمنطق “منحنى لافر” – Laffer curve. فبموجب هذا المنحنى، تتناقص العائدات الضريبية في حال تجاوز رفعها حد تحمل الاقتصاد. ويكون ذلك نتيجة إقفال المؤسسات وهجرة الاستثمارات وتخلف المواطنين عن الدفع وزيادة التهرب والتهريب. أما الثانية، فتجاهلت بشكل عبثي الكثير من النفقات المتصلة بالدين العام الذي يفوق ٤٠ مليار دولار والسلف العصية على الإرجاع (مثل سلف الخزينة لكهرباء لبنان) وترحيل المشاريع دون دراسة جدوى حقيقية وتأجيل الاعتمادات.
كما أن الحكومة ما زالت مترددة في إصلاح القطاع العام عبر إعادة هيكلته والتخلص من الإدارات الخامدة مثل “أليسار وصندوق ووزارة المهجرين والأسواق الاستهلاكية” التي خصتها الحكومة بحسب الدولية للمعلومات بمليون دولار في موازنة ٢٠٢٤ دون أن يكون لها أي دور يُذكَر. وتبقي الحكومة على آلاف الوظائف الوهمية التي تضخم النفقات العامة من دون مردود وتتردد في السماح للمنافسة في قطاعات تحتكرها وتفشل في إدارتها فشلا ذريعا كالاتصالات والكهرباء والطيران، والمرافق التي لا علاقة للدولة بها لا من قريب ولا من بعيد مثل إدارة حصر التبغ والتنباك “الريجي” وكازينو لبنان وقطاع النقل وغيرها.
ويمكننا القول إنه ما لم تُعَد هيكلة القطاع العام على أسس سليمة وتخفض النفقات بشكل جدي ويتم التخلص من التهرب والتهريب والزيادات العشوائية على الرواتب والأجور، ستكون كل الحلول مجرد “ترقيع”. ولن يرضى الموظفون بالعودة لأكثر من يوم عمل في الأسبوع، وستبقى قدرة الدولة على الإنتاج والجباية معطلة ويستمر الاقتصاد في الانهيار. ولعل الدليل الأبرز على ذلك انعكاس موازنة ٢٠٢٤ السلبي ومخالفتها لكل الأصول كما سنبين أدناه.
مكافآت لموظفين حضّروا موازنة غير حقيقية
لا يمكننا أن نفصل موازنة العام ٢٠٢٤ عن المكافآت التي مررتها وزارة المالية للعاملين فيها وغطتها بإعطاء مثيل لها لموظفي ما يسمى بالأجهزة الرقابية وموظفي رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء.
التمييز بين الموظفين
في عملية ممنهجة لتقطيع أوصال القطاع العام وتحويله جُزُراً، أُعطيَت بعد إقرار موازنة ٢٠٢٤ في البرلمان بتاريخ ٢٧ كانون الثاني حوافز مالية لموظفي وزارة المالية والجهات المذكورة أعلاه بقرار من وزير المالية. وقد قيل إن هذا الوزير يحظى بكامل الغطاء من رئيس الحكومة الذي عاد وأوقف العمل بقرار إعطاء هذه الحوافز بعد سداد الدفعة الأولى منها. وقد تراوحت قيمة هذه الحوافز بين ٣٠٠ و٧٠٠ دولار أميركي للموظف النشيط في الولاء، فسارع سائر الموظفين الذين لم يحظوا بنعمة هذه العطاءات إلى إعلان الإضراب، ونزل العسكريون المتقاعدون مجددا إلى الشارع وعطلوا جلسة مجلس الوزراء بتاريخ ٢٣ شباط ٢٠٢٤، فاضطر رئيس الحكومة إلى تأجيلها لموعد لاحق.
ويمكن ربط هذه الحوافز بسهولة بالمادة ٧٣ من قانون موازنة العام ٢٠٢٤ المتعلقة بإعطاء حصة ٤٠ ٪ من غرامات التحقق لمدير المالية العامة وموظفيها، الأمر الذي يضرب أيضا مبدأ المساواة أمام الوظيفة العامة. وتُعتبَر كل هذه العطاءات لموظفين أعدوا موازنة تخالف أبسط القواعد الدستورية والقانونية والمحاسبية…
مخالفات موازنة ٢٠٢٤
تغيب عن قانون موازنة العام ٢٠٢٤ بشكل عام قاعدتا الشمول والمصداقية، وهما في أساس إعداد الموازنات العامة. فموازنة العام ٢٠٢٤ لا تشمل كل النفقات العمومية العائدة للعام ٢٠٢٤. إذ ليست النفقات المقدرة الواردة في موازنة العام ٢٠٢٤ هي كل النفقات التي تدفعها خزينة الدولة خلال العام المذكور، كما أن الإيرادات المقدرة في الموازنة قد لا تتحقق برمتها أو بجزء كبير منها لارتباطها بضرائب زادت معدلاتها بموجب قانون الموازنة نفسها. وتُعتبَر هذه التعديلات الضريبية عرضة للإبطال باعتبارها تضرب استقلالية التشريع الضريبي وذاتيته ولكونها من فرسان الموازنة، كما أنها غير مبنية على تقديرات علمية واضحة.
وكذلك لا يعكس العجز المالي المقدر بصفر للموازنة العامة للعام ٢٠٢٤ حقيقة وضع المالية العامة. فهو نتيجة محاسبة إبداعية تخفض في تقدير النفقات وترحلها إلى فترات لاحقة وتتجاهل رصد اعتمادات لقسم منها كما لسدادات سلف الخزينة المتراكمة التي لا ترد ونفقات الموظفين وسداد فوائد الديون المتوجبة الأداء وأقساطها. كما تضخم هذه المحاسبة الإبداعية تقدير الإيرادات وتبالغ فيها. ولن يطول الوقت حتى يعود مجلس النواب لفتح الاعتمادات الإضافية التي قد تفوق الاعتمادات الأساسية دون تأمين مصادر التمويل لها.
وإلى جانب غياب الطابع الاستثماري عنها وطغيان الطابع الاستهلاكي عليها، لا تعكس الموازنة العامة للعام ٢٠٢٤ في نفقاتها وإيراداتها المقدرة حقيقة الوضع المالي وتتجاهله. ويتعارض ذلك مع مبدأ المصداقية الذي كرسه الاجتهاد الدستوري وأخذ به التشريع المالي الفرنسيان.
ويتلازم هذا المبدأ مع مبدأ الشمول الذي يقضي بأن تشمل الموازنة كل الإيرادات والنفقات المتوقعة للسنة المالية القادمة والمكرس في المادة ٨٣ من الدستور اللبناني التي نصت على أن تقدم الحكومة لمجلس النواب كل سنة في بدء عقد تشرين الأول موازنة شاملة لنفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة ويقترع على الموازنة بندا بندا.
ويعرِّض عدم الأخذ بهذين المبدأين (المصداقية والشمول) قانون الموازنة العامة للعام ٢٠٢٤ برمته للإبطال، ولا سيما في ضوء مخالفة المادة ٨٧ من الدستور اللبناني لناحية إعداد موازنة وعرضها على تصديق السلطة التشريعية دون إرفاقها بالبيانات المالية الختامية عن السنة السابقة لسنة تحضير الموازنة، وأهم هذه البيانات مستند قطع الحساب.
وبالإضافة إلى ما تقدم، تطرح بعض المواد الواردة في قانون موازنة العام ٢٠٢٤ للبحث عدة ملاحظات:
المادة ٧: تحديد أصول الإنفاق من الهبات والقروض-الفقرة الأولى-
منعا لأي التباس أو تعارض في الاجتهاد، يجب أن يخضع الإنفاق من الهبات النقدية والقروض الأجنبية لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة واللاحقة كما للرقابة القضائية على الموظفين ولا يكتفى بذكر عبارة حسب الأصول.
المادة ١٠: مسؤولية إعطاـء سلفة خزينة خلافا لأحكام القانون-الفقرة الثانية
• نص غير واضح من شأن عدم وضوحه تعطيل تطبيقه.
• يجب تحديد الموظفين المسؤولين في مرحلتي الإعطاء والصرف والدفع من السلفة.
• من المسؤول: الوزير أم الوزراء أم رئيس مجلس الوزراء كون السلفة تعطى بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء؟
• تحديد طبيعة المسؤولية: مسؤولية جزائية؟ – مسؤولية مدنية؟
• من يتوجب عليه إقامة الدعوى.
• يجب تحديد آلية استرداد أموال السلفات المعطاة خلافا لأحكام القانون.
المادة ١٢: الإيرادات المحصلة لصالح البلديات وحصة القرى التي ليس لها بلديات.
يجب إيجاد الية أكثر فعالية في موضوع هذه الإيرادات وإدارة أموال الصندوق البلدي المستقل وتوزيعها وتحصيلها بشكل يلبي حاجات البلديات باعتبارها لامركزية محلية.
الفصل الثاني- القوانين البرامج:
• جرى في معظمها ترحيل الاعتمادات إلى ما بعد العام ٢٠٢٤.
• غير مقترنة بإلزام الإدارة بدراسات جدوى تبين الحاجة والأهمية.
• لا تشمل إلزام الإدارة وضع مؤشرات لقياس نجاح المشاريع الممولة من هذه البرامج.
الفصل الثالث: التعديلات الضريبية
• غير مبنية على دراسات تتناول المقدرة التكليفية ومقدرة الاقتصاد الوطني على تحملها.
• تضرب مبدأ ذاتية التشريع الضريبي واستقلاليته.
• لا تتلاءم مع التوجه نحو الضريبة التصاعدية الموحدة على المداخيل.
• تعتبر من فرسان الموازنة وهي معرضة للإبطال برمتها من قبل المجلس الدستوري، ولا سيما المادة ٧٣ المتعلقة بإعطاء حصة ٤٠ ٪ من غرامات التحقق لمدير المالية العامة وموظفيها، وهو ما يضرب أيضا مبدأ المساواة أمام الوظيفة العامة….
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق