خاص LIMSLB – إضعاف هيئة الشراء العام ودورها الرقابي

هيئة الشراء العام

أن تقرّ الجمهورية اللبنانية منذ أكثر من عقدين نحو مئة قانون إصلاحي دون وضع المراسيم التطبيقية مشكلة. أمّا أن تتعمد “قصّ أجنحة” الهيئات التنظيمية، المفروضة بضغط من الجهات الدولية، فهذه هي المشكلة الكبرى. ففي الحالة الثانية تتحول الهيئات إلى ما يشبه “العاضض على الموس”، إن “بلعه” ذبح الأمل بالإصلاح، وإن “لفظه” جرح نفسه ولم يغيّر في المعادلة شيئاً. وهذه هي حالة “هيئة الشراء العام”. فتطبيق الصلاحيات الواسعة التي أعطاها القانون 224/ 2021 لضمان فعالية النزاهة والمنافسة والشفافية في صفقات الشراء العمومية ما زالت تعتريه مجموعة من العقبات. فمن هذه العقبات ما هو متصل بصلب القانون لجهة تضمينه “هيئة للاعتراضات” تتناقض مع دور مجلس شورى الدولة. وتنازعه الاختصاص وتربك عمله وتطيل أمد المنازعات بلا جدوى. ومنها ما هو تنفيذي ويتعلق بضرورة إمدادها بالإمكانيات البشرية واللوجستية. فالهيئة ما زالت تعمل بعدد قليل من الموظفين، ولم تزود بعد بـ “منصة إلكترونية” تسمح لها بمراقبة إجراءات الشراء العام لتكون الجامع للجهات الشارية والعارضة. وتتطلب إجراءات الفعالية والشفافية كشف أنظمة الهيئة وأطر القانون أمام الرأي العام.

وترتبط المشكلة الثانية، بالحرص على أن تكون الإجراءات التنافسية هي القاعدة العامة والطريقة المعيارية لإجراء عمليات الشراء وسيلةً لتعزيز الكفاءة وتأمين فرص متكافئة وعادلة لجميع المورّدين المحتملين. ويتم ذلك عبر وضع تعريف واضح لها ولتضارب المصالح وتحديد حالاته المتعددة وتحديد أنواع العقوبات.

وفيما يلي شرح تفصيلي لانعكاس التعارض في القوانين وضعف الآليات التنفيذية وتجزئتها على قدرة هيئة الشراء العام (ومن خلفها مصلحة الدولة والاقتصاد) وفعاليتها.

المقدمة

لطالما اقترن الحديث حول قانون الشراء العام بالحديث حول محاربة الفساد في الصفقات العمومية من خلال مثلث: الشفافية-النزاهة – المساءلة. ويؤدي ذلك إلى ضمان تحقيق المنافسة العادلة بما يضمن القيمة مقابل المال وتحقيق مقتضيات التنمية المستدامة. فهل أتت نصوص قانون الشراء العام متوافقة مع هذه الأهداف؟ وهل يصب الإطار التطبيقي، إن على صعيد الإمكانيات أو على صعيد الممارسة العملية، في هذا الاتجاه؟

هيئة الاعتراضات تقوّض الثقة بمنظومة الشراء العام

تُعَدّ المساءلة إحدى الركائز الثماني التي قام عليها قانون الشراء العام، وهي مستوحاة من مبادئ منظمة التعاون والتنمية. وقد جاء في أسباب قانون الشراء العام الموجبة اعتماد المساءلة من خلال تطبيق آليات واضحة للإشراف والرقابة، في كافة مراحل الشراء، على أن تشمل استحداث إطار جديد وفعّال للشكاوى والاعتراضات ضمن مهل محدّدة للبتّ بها وإنزال تدابير العقاب الملائمة بما يعزّز الثقة بالأداء.

فقد أنشأ قانون الشراء العام في فصله السادس المعنون “حوكمة الشراء العام” هيئة جديدة أطلق عليها اسم “هيئة الاعتراضات”؛ وهي جهة تتولى حلّ النزاعات التي تنشأ قبل توقيع العقد. وقد غاب عن بال واضعي القانون أن قضاء العجلة الإداري في مرحلة ما قبل التعاقد يتولاه في لبنان مجلس شورى الدولة. كما غاب عنهم أن المطلوب تقويته وتفعيله وتنظيمه وتحديد مهل له على غرار نظام قضاء العجلة في مجلس الدولة الفرنسي، لا إنشاء هيئة رديفة تنازعه الاختصاص وتربك عمله وتطيل أمد المنازعات بلا جدوى.

فمرحلة ما قبل التعاقد مرحلة مهمة جداً تُبنى خلالها ثقة العارضين ليتقدَّموا بعروضهم ويشتركوا في المنافسة ويعطوا أفضل العروض فتستفيد الجهة الشارية من القيمة الفُضلى. ويقوض غياب هذه الثقة، من خلال إنشاء جهة رديفة، منظومة الشراء العام بأكملها. ويأتي ذلك على وجه الخصوص لأن هيئة الاعتراضات وفقا لأحكام قانون الشراء العام تصدر قرارات قضائية تبت من خلالها في المنازعات وقد لا يكون من ضمن أعضائها عضو واحد يحمل اختصاصا في القانون العام.

الفعالية والمنافسة- النزاهة

يعني ذلك الحرص على أن تكون الإجراءات التنافسية هي القاعدة العامة والطريقة المعيارية لإجراء عمليات الشراء وسيلةً لتعزيز الكفاءة وتأمين فرص متكافئة وعادلة لجميع المورّدين المحتملين واعتماد وثائق واضحة ومتكاملة وموحّدة (دفاتر شروط نموذجية) بحيث يتم استخدامها ملزماً لكل الجهات الشارية. كما يعني مكافحة الفساد واعتماد ضوابط صارمة تحدّ من الاتفاقات الرضائية وتوفير طرق شراء جديدة تتماشى مع متطلبات الحداثة.

ولتحقيق هذه المنافسة، اعتمد قانون الشراء العام الطرق التالية: المناقصة العمومية، المناقصة على مرحلتين، الاتفاق الرضائي، طلب عروض الأسعار، طلب اقتراحات للخدمات الاستشارية، الاتفاق الإطاري، مع إمكانية اعتماد التأهيل المسبق والتصنيف للعارضين.

ويتم ذلك عبر وضع تعريف واضح لها ولتضارب المصالح وتحديد حالاته المتعددة وتحديد أنواع العقوبات التي تطول موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع العمل أو الفعل أو الامتناع عنه أو مع نوع المخالفة، وفقا لما ورد في الأسباب الموجبة لقانون الشراء العام.

وقد نصّت المادة 110 من قانون الشراء العام على أن تُلزِم سلطات التعاقد العاملين لديها المولجين بعمليات الشراء عدم إفشاء أيّة معلومة أو معطيات تتعلّق بالأسرار الفنيّة أو التجارية والجوانب السرّية للعروض، والتي اتّصلت بعملهم أو حصلوا عليها جرّاء القيام بالمهام الموكلة إليهم، والتي من شأنها أن تشكّل منفعة لأشخاص ثالثين، بما يخالف مبدأ المعاملة العادلة والمتساوية لجميع العارضين. كما تُلزِم سلطات التعاقد العاملين لديها المولجين بعمليات الشراء بمتابعة برامج تدريب على النزاهة لرفع مستوى الوعي حول مخاطر عدم النزاهة، مثل الفساد والاحتيال والتواطؤ ومراعاة أو تمييز فريق على آخر والعقوبات المرتبطة بها، ولتطوير المعرفة حول السُبُل لمواجهة هذه المخاطر وتعزيز ثقافة النزاهة. كما يلتزم هؤلاء الموظفون بقواعد السلوك المنصوص عليها في المادة 10 من هذا القانون، وبالمعايير الأخلاقية والمهنية، ويمتنعون عن الممارسات الفاسدة، ومنها على سبيل المثال الاحتيال والتواطؤ والاختلاس وصرف النفوذ والتهديد… على أن تعمد الجهة الشارية إلى استبعاد كلّ موظف أو عامل لديها مسؤول عن تقييم أو إبرام عقد شراء أو مراقبة تنفيذه، خالفَ أحكام هذا القانون، من المشاركة في القرارات المتعلّقة بالشراء وتحيله إلى المراجع المختصّة لاتّخاذ العقوبات الجزائية والتأديبية المنصوص عليها في القوانين النافذة ذات الصلة.

كما تشترط سلطة التعاقد على المتعاملين معها الالتزام بأعلى معايير الأخلاق المهنية والمواطنة الصالحة خاصة خلال فترة الشراء وتنفيذ العقد، تحت طائلة اتّخاذ قرارات استبعاد بحقهم وفق ما تنص عليه المادة 8 من هذا القانون، ولتحقيق هذا الموجب على العارضين والملتزمين الامتناع عن الممارسات التالية:

  • “ممارسة فاسدة” وتعني عرض أو استلام أو تسليم أو استدراج أي شيء ذي قيمة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر للتأثير في عمل مسؤول عام في عملية الشراء أو في تنفيذ العقد.
  • “ممارسة احتيالية” تؤدي إلى تشويه الحقائق أو إغفالها للتأثير في عملية الشراء أو تنفيذ العقد.
  • ” ممارسات تواطئية” من شأنها وضع أية خطة أو ترتيب بين اثنين أو أكثر من العارضين بهدف تقديم أسعار على مستويات زائفة وغير تنافسية.
  • “ممارسات قهرية” تؤدي إلى إيذاء أشخاص في أنفسهم أو في أهلهم أو في ممتلكاتهم، أو التهديد بإيذائهم، للتأثير في مشاركتهم في عملية الشراء أو تنفيذ عقد شراء.
  • أيّ ممارسة تؤدي إلى التأثير سلباً في عملية الشراء وبما يخالف مبادئ هذا القانون.

وكذلك حالات تضارب المصالح، والتي تعني أيّ موقف يكون فيه للموظف العام أو أحد العارضين أو غيرهم ممّن يؤثرون على نتيجة إجراء الشراء، مصلحة خاصة مالية أو اقتصادية أو غيرها، مباشرة أو غير مباشرة، تهدّد حياد واستقلالية إجراءات الشراء.

وعليه، تم تحديد أنواع العقوبات التي تطال موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع العمل أو الفعل أو الامتناع عنه بالإضافة إلى تحديد أنواع الرقابة والعقوبات التي تطال موظفي القطاعين العام والخاص بدرجات تتناسب مع نوع المخالفة.

ولتحقيق الفعالية والمنافسة كما النزاهة، يقتضي تعزيز مقدرات الجهة المعنية بمراقبة إجراءات الشراء العام. فهيئة الشراء العام تتألف اليوم من ٧ موظفين بمن فيهم الرئيس يساعدهم ٣ خبراء من الاتحاد الأوروبي، وأنظمتها محجوبة رغم مضي حوالي سنة على إعدادها من قبل الهيئة وإيداعها المراجع المختصة. ويُعَدّ ذلك مخالفة صريحة لنص المادة ٨٧ من قانون الشراء العام التي أوجبت على الهيئة أن تضع نظامها الداخلي والأنظمة الإدارية والمالية وأنظمة العاملين لديها، بعد استشارة مجلس الخدمة المدنية ومجلس شورى الدولة، في مهلة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ إنشائها، على أن تصدر بموجب مراسيم تتخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح رئيسه في مهلة أقصاها شهران من تاريخ إحالة المراسيم إليه من قبل الهيئة.

الشفافية

وذلك من خلال وجوب النشر على المنصّة الإلكترونية المركزية بما يُتيح الوصول إلى المعلومات والبيانات لكافة المهتمين والمتدخلين، مع الحفاظ على موجب السرّيّة بموجب ما تقتضيه أحكام قانون الشراء العام.

تجدر الإشارة إلى أن المادة 102 من القانون ألزمت سلطات التعاقد التقيّد بنشر المعلومات المطلوبة بمقتضى أحكام هذا القانون ومراسيمه التطبيقية على موقعها الإلكتروني إن وُجِد وعلى المنصة الإلكترونية المركزية لدى هيئة الشراء العام: الإعلان عن المناقصة، دفاتر الشروط، نتائج المناقصة… بشكل يضمن الشفافية مع مراعاة حق الوصول إلى المعلومات.

وبنصّه على النشر، أتاح القانون هذه المعلومات أمام الجميع، ولا سيما:

  • هيئة الشراء العام.
  • الهيئات الرقابية.
  • هيئات المجتمع المدني.
  • المواطن أو المكلّف أو الممول الذي يدفع الضرائب والتي من خلالها تتم عمليات الشراء العام.

وتقتضي الإشارة إلى أن كل المعلومات والبيانات تقع تحت طائلة إلزامية النشر، باستثناء ما جاءت به المادة السادسة من القانون والمتعلّقة بسريّة بعض المعلومات.

وتعمل الهيئة اليوم من خلال موقع إلكتروني، لا منصة إلكترونية. ولا يمكن أن تتحقق الشفافية ويكتمل دور الهيئة إلا بتحقيق نظام الشراء الإلكتروني المنصوص عليه في المواد من ٦٦ إلى ٧١ من قانون الشراء العام ضمنا.

فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق