شهد لبنان أزمات مالية واقتصادية حادّة متتالية نتيجة النزاعات الداخلية والاعتداءات على حدوده الجنوبية، استدعت بدءاً من سبعينات القرن الماضي إنشاء الهيئة العليا للإغاثة ومجلس الجنوب ومجلس الإنماء والإعمار، ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية والمالية برزت أهمية إيلاء البلديات دوراً أوسع في مجال التنمية، بحيث باتت الدعوات إلى تنفيذ اللامركزية الموسّعة أكثر جدّيةً وإلحاحاً.
مع تصاعد تداعيات الانهيار المالي والأزمة الاقتصادية وتفاقم مديونية الدولة وعجزها عن تنفيذ المشاريع العامة، عادت لتطرح قضية التنمية والإنماء المتوازن وتحقيق النهوض والارتقاء بحياة اللبنانيين نحو الحدّ الأدنى من حقوقهم بحياة كريمة، وتحصينهم ضدّ الفاقة والعوز، وباتت تشكّل التحدّي الراهن في سعي الحكومة لتحقيق الإنماء وتنمية كل المناطق، وعلى المستويات الإنتاجية والاقتصادية.
على المستوى العالمي أدّت الأزمات المشابهة إلى بلورة مفهوم التنمية التي باتت ترتبط بتحقيق زيادة سريعة تراكميّة ودائمة عبر فترة من الزمن في الإنتاج الوطني والخدمات المجتمعية نتيجة استخدام الجهود العلميّة والعملية في الأنشطة الحكوميّة والشعبية المشتركة، وتعرّف بأنّها عملية ارتقاء المجتمع والانتقال به إلى وضع أفضل ممّا هو عليه، وذلك عن طريق استغلال الطاقات المختلفة التي تتوافر لدى أفراد المجتمع، وتوجيه توظيفها الى الأفضل.
وعلى مستوى منظمة الأمم المتحدة اتفقت جميع الدول الأعضاء فيها خلال العام 2015 على تحديد أهداف عالمية للتنمية المستدامة في اعتبارها دعوة عالمية الى العمل على إنهاء الفقر وحماية الكوكب وضمان تمتّع جميع الناس بالسلام والازدهار بحلول عام 2030. وقد جاءت هذه الأهداف متكاملة، بمعنى أنّ تأثير العمل في مجال ما سيؤثر على النتائج في مجالات أخرى، وأنّ التنمية يجب أن توازن بين الاستدامة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
دور البلديات في تحقيق الإنماء المتوازن
لقد كرّس الدستور أهمية الإنماء المتوازن في الفقرة «ز» من مقدّمته، باعتبار انّ «الإنماء المتوازن للمناطق ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام».
أما أهمية دور البلديات في تنمية المناطق فتتبين من أحكام قانون البلديات الصادر في المرسوم الاشتراعي الرقم 118 /1977، والذي يعتبر كل عمل ذي طابع أو منفعة عامة، في النطاق البلدي، من اختصاص المجلس البلدي. ويولي هذا الأخير مراقبة سير المرافق العامة وإعداد التقارير عن سير العمل فيها إلى الإدارات المعنية، وان يعرب عن توصياته وأمانيه في سائر المواضيع ذات المصلحة البلدية وأن يبدي ملاحظاته ومقترحاته في ما يتعلق بالحاجات العامة في النطاق البلدي، على أن يتولّى رئيس المجلس أو من يقوم مقامه إبلاغ ذلك إلى المراجع المختصة وفقاً للأصول. وكذلك أجاز القانون للمجلس البلدي ضمن منطقته ان ينشئ أو يدير بالذات أو بالواسطة أو يساهم أو يساعد في تنفيذ أعمال ومشاريع عامة تشمل المدارس والمساكن الشعبية والمستشفيات العمومية والمؤسسات والمنشآت الصحية والرياضية والثقافية والفنية ووسائل محلية للنقل العام، وأسواق عامة لبيع المأكولات وبرادات حفظها وبيادر الغلال.
مشاركة المجتمع المدني
يشمل المجتمع المدني المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادينها المختلفة في استقلال عن سلطة الدولة لتحقيق أهداف منها المشاركة في صنع القرار على المستوى الوطني، وهو يشمل أيضاً الجمعيات والنوادي والنقابات والأحزاب والتجمعات التي تتلاقى، فتخلق مساحةً ما بين الدولة والمواطن، وذلك شرط ضروري من شروط تحقيق الديموقراطية. وتبرز أهمية هيئات المجتمع المدني، عندما تلعب دوراً في التنمية، من خلال المشاركة في صنع القرار وتنفيذه، والحدُّ من تسلّط الدولة والمساهمة في الإصلاح الاقتصادي وتعزيز الحياة المدنية.
بسبب الأحداث والتطورات الحاصلة في لبنان اعتباراً من أواخر 2019، وبنتيجة الانهيار المالي واستحالة الاقتراض، وعجز الدولة عن توفير أي تمويل للاستثمار في المرافق العامة، وعزوف رؤوس الأموال الخارجية عن التوظيف في لبنان، وتراجع مستوى أداء المؤسسات والمرافق العامة، ووصوله إلى مستويات مقلقة. وقد ظهر ذلك أولاً على مستوى العجز عن تأمين سلعة الكهرباء الأساسيّة بالنسبة إلى جميع القطاعات الاقتصادية، والضرورية لاستمرار الحياة، والتي لأي مواطن أو شريك اقتصادي الحق في الحصول منها على ساعات تغذية تكون كافية، موثوقة آمنة ونظيفة، ومتاحة بتكلفة معقولة وعادلة. وكان من الطبيعي ان تنعكس أزمة الكهرباء سلباً على تأمين استخراج المياه وضخها وتوزيعها، كما على سير قطاع الاتصالات وتشغيل محطاته وسنترالات التوزيع في مختلف المناطق، وذلك بسبب عدم القدرة على تغطية تكلفة المحروقات اللازمة لتشغيل المولّدات نتيجة ارتفاع الأسعار وعدم توافر بدائل أوفر مثل الطاقة الشمسية.
بعد فشل خطط الكهرباء المتتالية في تأمين حاجة المواطنين والمؤسسات والشركات الخاصة من التغذية الكافية لممارسة أنشطتها، وعلى رغم من صدور قرارات حكومية بإعطاء تراخيص إنتاج لشركات عدة في غياب الهيئة الناظمة للقطاع وبقاء تنفيذ هذه التراخيص، كما هي حال تلزيم إنتاج الطاقة من الرياح، معلّقاً على توفير تمويل من الخارج؛ فقد أطلّت أزمة على المستوى نفسه من الأهمية والخطورة هي توقف خدمات جمع النفايات ومعالجتها، لتُضاف إلى عدم قدرة المطامر على استيعاب كمياتها وعدم قدرة الدولة على تأمين دفع مستحقات متعهديها بالدولار، الذي استمر في الارتفاع، واستمرت معه الشركات والمؤسسات الخاصة بالاعتماد على مولّداتها أو اضطرت للاشتراك في مولّدات المناطق، فارتفعت نفقاتها التشغيلية وتراجعت إيراداتها. وبدأ بعضها بصرف الموظفين، أو توقف عن العمل، وها هي إدارات الدولة نفسها تعاني من العجز عن تغطية تكاليف فاتورة الكهرباء بعد رفع تعرفة كهرباء لبنان بطريقة متسرّعة واقتصار التغذية على عدد قليل من الساعات. وعاد التهديد بتكديس النفايات على جوانب الطرق والشوارع والأرصفة المؤدية إلى المنازل وأبنية المكاتب والمحلات التجارية، فأعاقت أعمالها وألحقت أضراراً جسيمة بالبيئة وبالصحة العامة. وقد شهدت فصول الشتاء طوفانات أغرقت بعض شوارع المدن والأنفاق بمياه المطر والصرف الصحي، بسبب اختناق المجاري بالأتربة والأوساخ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تراجع مصالح المياه عن تأمين خدماتها للمشتركين لديها، بحيث انعكس ذلك سلباً على أداء المؤسسات السياحية والفندقية.
ونظراً الى حاجة الجميع للوصول إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة على مختلف المستويات، فقد بات من الضروري تضافر إمكانيات المجتمع من الإبداع والمعرفة والتكنولوجيا والموارد المالية والعلاقات وجمعها في أفضل نسق، وانطلاقاً من معاناة المواطن والشركات من نتائج عجز الدولة عن تأمين سير المرافق العامة، بدأ البحث عن الحلول والبدائل، بدءاً من تعزيز دور البلديات في التنمية المحلية، كان لمشاركة المنظمات المدنية دوراً بارزاً في تحريك الوعي ودعم التوجّه نحو تعاون المجتمعات الأهلية المحلية في مختلف المناطق، في إطار تعزيز التنمية في إطار اللامركزية، والتي تشمل إنتاج الكهرباء من الطاقة الشمسية، وجمع النفايات ومعالجتها، وإصلاح الطرق وتأمين سلامة التنقل، والصحة العامة من قبيل إخماد الحرائق، والإنقاذ، والتخطيط المدني: الطرق، الحدائق، و إنارة الشوارع، وتأمين شبكات الصرف الصحي.
ومن أجل تحقيق عناوين التنمية المذكورة، لا بدّ من إطلاق حملات توعية حول القضايا ذات الشأن العام وأسباب المشكلة وتحديد مواضع الخلل والتقصير، يشارك فيها أبناء المجتمعات المحلّية وإحداث التغيير في السياسات والتشريعات والإجراءات والممارسات التي تؤثر على حياتهم ومعيشتهم، وتوفير حاجاتهم من الخدمات الأساسية، والدفع في اتجاه ما يحمل الإفادة لجميع أفراد المجتمع، والمناصرة وكسب التأييد ودعم التحرّك يهدف تغيير السياسات والمواقف والبرامج التقليدية للدولة، ومساءلة صنّاع القرار على تقصيرهم المؤدي إلى حرمان المناطق من حقوقها في الخدمات واستقلال هيئاتها المحلية والبلدية في تنفيذ مختلف المشاريع التنموية، بما فيه، بل على رأسها، إنشاء مزارع الطاقة الشمسية بالتعاون مع القطاع الخاص.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع الجمهورية