تشهد وزارة الاتصالات في الآونة الأخيرة “فورة” في إطلاق المشاريع الاستثمارية، لعل آخرها مشروع OTT. وليس القاسم المشترك بين هذا المشروع، الذي يوصف بالريادي، وبين ما سبقه من مشاريع مثل E-WALLET و ـ Paket Core و ـ A2P وتلزيم البريد وغير ذلك، تقديم خدمات نوعية سبقتنا إليها الدول بسنين طويلة. إذ يكمن القاسم المشترك في تعزيز الاحتكار في قطاع الاتصالات. فبدلا من أن تعمل “الاتصالات” على تفكيك البنية الاحتكارية، بدءاً بهيئة أوجيرو، لتحسين النوعية وتخفيض الأسعار، نراها تفصّل مشاريع على قياس شركات محددة، ضاربة بقانون الشراء العام وآراء هيئة التشريع والاستشارات عرض الحائط.
وتحاول وزارة الاتصالات جاهدة إعطاء شركة واحدة حديثة المنشأ اسمها “ستريم ميديا” حقاً حصرياً احتكاريا لتقديم “الخدمات المتاحة بحريّة على الإنترنت over the top – المعروفة اختصاراً باسم OTT. وبعيدا عن تعقيدات المصطلحات، تكون هذه الخدمة عبارة عن تطبيق يمكن تنزيله على الهواتف والتلفزيونات الذكية يتيح مشاهدة منصات العرض الإخبارية أو الترفيهية، على غرار “نتفليكس” أو “شاهد”.
ويتعارض ما تحاول وزارة الاتصالات ترويجه مع قانون الشراء العام لأنه ببساطة يلزّم خدمة بالتراضي دون مناقصة ولا يقدم دراسات شفافة عن مصلحة الدولة والأكلاف التي ستتحملها. ويأتي ذلك خصوصًا وأن الخدمة ستقدم على خطوط أوجيرو وستكون الأخيرة مسؤولة عن صيانة الأعطال وإعداد الفواتير وإصدارها وحماية البيانات وتخزينها وغير ذلك من الأمور التقنية. إلا أن الخطير في هذه الصفقة التي تحاول الوزارة تمريرها هو السعي إلى احتكار خدمة يمكن لعدة شركات أن تقدمها في نفس الوقت بشكل يسمح للمشترك بالاختيار. ولعلّ الأخطر من ذلك إعطاؤها جهة واحدة حقا حصرياً لتقديم محتوى مقفل لمشتركي أوجيرو، والذين يمكن الوصول إليهم دون عناء أو تكبد أي أكلاف. و تستفيد هذه الشركة دون سواها من البنية التحتية لهيئة أوجيرو وتجند موظفيها ومحاسبيها وتقنييها لخدمة هذه الشركة مقابل بدل انخفض من 25% كما كان متداولا إلى 10 في المئة.
وتثير مثل هذه الصفقات شبهات الفساد على نطاق واسع. فهي تُدخل إلى القطاع العام شريكاً مضارباً يحقق ربحا غير محدود على ظهر المواطن بسهولة استثنائية خلافا لكل القوانين ومنها بشكل أساسي الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وقد كان أجدى بوزارة الاتصالات تقديم مشروع قانون لإلغاء الاحتكارات كليا في سوق الاتصالات والسماح بإدخال الإنترنت إلى البلاد من خارج بوابة أوجيرو والتنافس بين الشركات على تقديم الخدمات التي نرى أنها كثيرة وتثير شهية المستثمرين، خصوصا مع وجود نحو مليون ومئة ألف مشترك على أقل تقدير. وبهذه الطريقة، تتحقق منفعة المجتمع والدولة لا عبر “تخبئة” صفقات عنوانها over the top – ما “فوق السطح”، وحياكة تفاصيلها في أقبية الاحتكارات والمنافع الشخصية.
مشروع OTT ومخالفاته الفاضحة للمنطق ولقانون الشراء العام
منذ حوالي سنة، بدأ الكلام في أوجيرو ووزارة الاتصالات كما بعض الأوساط الحكومية وغير الحكومية عن خدمة بث المحتوى التلفزيوني عبر الإنترنت. وقد عرضت الوزارة الموضوع بعدة صيغ على هيئة التشريع والاستشارات وحصلت على عدة استشارات منها ومن هيئة الشراء العام، كما حصلت على قرار من مجلس الوزراء، علماً بأنّ كل استشارة كانت بموضوع وبمعطيات غير واضحة. وقد أُثير هذا الموضوع مؤخرا في لجنة الاتصالات النيابية ولم يقدم الوزير إجابات واضحة بما هو مطروح فعلا أمام الهيئات الرقابية وما تنوي الوزارة وأوجيرو القيام به ومبرراته وأسبابه وما هو العائد منه ماليا وخدماتيا.
وقد عُلِم في الآونة الأخيرة أن ثمة عقدا أُعِدّ للتوقيع مع شركة حديثة المنشأ اسمها “ستريم ميديا” لتقديم خدمة المحتوى التلفزيوني لمشتركي هيئة أوجيرو. ويروج كل من وزير الاتصالات ورئيس هيئة أوجيرو وبعض وسائل الإعلام لهذا العقد على أنه سيدر على الخزينة أموالا هائلة وسينهي عهد الكابلات غير الشرعية أو الموزعين غير الشرعيين لمحتوى البث التلفزيوني وسيحد من عدد الصحون على أسطح المنازل بما يخدم مقتضيات الحفاظ على البيئة. إلا أنه ولدى الاطلاع على مسودة لهذا العقد لم تنشر حتى الآن خلافا لأحكام قانون الوصول إلى المعلومات وموجبات النشر على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام، يتبين أن حصة أوجيرو من العائدات هي بحدود الـ ١٠٪ (بعض أن ذُكِر سابقا أنه ٢٥٪) دون معرفة ما تتكبده الهيئة من مصاريف على بنيتها التحتية المعلوماتية للحصول على التكنولوجيا التي تسمح لها بتقديم هذه الخدمة. كما لم تُعرَف كمية أرباح الشركة المتعاقدة معها وإذا ما كنا أمام شراكة مع القطاع الخاص ولماذا لم تطبق قواعد الشراكة وإجراءاتها المنصوص عليها في القانون رقم ٤٨ / ٢٠١٧.
وتجدر الإشارة، بحسب المسودة غير المنشورة للعقد، أن الدولة أو هيئة أوجيرو التي حددت حقوقها المالية بـ 10% من الإيرادات سيكون على عاتقها موجب تأمين الإنترنت لحصول المشتركين على الخدمة. كما سيكون عليها تأمين الدعم التقني والصيانة وتطوير الشبكة بما يتناسب مع المستلزمات التقنية لخدمة الـ OTT، إضافة إلى السماح بتحصيل ثمن الخدمة من خلال نظام إصدار الفواتير المعتمد في هيئة أوجيرو. وقد كان من المفترض قانونا أن يكون كل ما سبق من تكاليف مقدرة متوقعة لتقديم الخدمة وحصة كل من أوجيرو والشركة، التي سيتم التعاقد معها بالأمر المباشر كما يبدو، واضحة ومحددة كما هو حال الإيرادات المتوقعة وحصة كل طرف منها قبل تحضير العقد. ولم يقدم وزير الاتصالات ولا رئيس هيئة أوجيرو مثل هذه الدراسة لا للمؤسسات الرقابية ولا للجنة الاتصالات النيابية، بل يكتفيان باعتماد أساليب الدعاية الترويجية باعتبار المشروع نصراً وإنجازاً لخزينة الدولة وأن كلفته المالية هي صفر وأن عوائده ستكون ضخمة ومرتفعة وأنه سيقضي على التجارة السوداء التي لم يتدخلا يوما لوقفها أو الحد منها أو على الأقل “تنظيمها”.
تجدر الإشارة إلى أن الترويج لخدمة OTT (الخدمات المتاحة بحرّية على الإنترنت)، أي التي يمكن لأي صاحب محتوى أن يقدمها إلى أيّ شخص متّصل بالإنترنت، كان سبقه طرح خدمة الـ IPTV وتمكن هذه الخدمة من بث المحتوى التلفزيوني عبر شبكة مشغل الإنترنت، والتي كانت وزارة الاتصالات طلبت الرأي بشأنها من قبل هيئة التشريع والاستشارات. ولما لم ترضَ الوزارة بالجواب، هربت إلى خدمة الـ OTT، وتحايلت على رأيها وتطرح على الهيئات الرقابية عقدا من خارج كل الأطر القانونية، عقد شراكة من خارج إطار قانون الشراكة مع القطاع الخاص كليا وعقدا رضائيا مسخ من خارج أحكام المادة ٤٦ من قانون الشراء العام كليا. فلا العقد سري ولا المتعاقد معه صاحب حق حصري، ولا نحن في حالة ناتجة عن كوارث أو حروب…
ويتنقل وزير الاتصالات بين هيئة التشريع والاستشارات ومجلس الوزراء والهيئات الرقابية حاملا كل مرة تصورا لموضوع العقد لا يتطابق سببه مع غايته الذي ينبغي أن تكون هي دائما المصلحة العامة دون سواها. ويُطرح اليوم أمام الرأي العام سؤال كبير: هل يؤدي التعاقد مع شركة لا تملك المقدرة والمؤهلات للتوسط مع أصحاب المحتوى التلفزيوني لنقله عبر شبكة هيئة أوجيرو إلى تحقيق المصلحة العامة للدولة؟ ومن هم أصحاب الحق الاقتصادي في هذه الشركة المطلوب إدخالهم إلى جنة الإثراء غير المشروع التي يبدو أن أبوابها ما زالت مشرعة في لبنان؟
تضعنا الوزارة اليوم بين خيارين، أحلاهما مر، إما الإبقاء على أصحاب الكابلات غير الشرعية التي تقدم المحتوى التلفزيوني أو إنشاء احتكارا جديدا من خارج الأطر القانونية ويضرب بقانون المنافسة كما قانون الشراكة مع القطاع الخاص عرض الحائط. ونقترح هذه الورقة عدم حصر الخدمة بشركة وحيدة مع فتح إمكانية التعاقد مع أصحاب المحتوى مباشرة من دون المرور بوسيط، يقتطع حصة المال العام.