في لبنان، قد لا يمكن معرفة متى بدأ عصر الفساد، لكن يمكن للمراقب التأكد من استمراريته رغم الأزمات التي تعصف بالبلاد. فقد عجزت الدولة اللبنانية عن حفظ ماء الوجه أمام الهيئات والمنظمات الدولية الداعية دوماً لضبط وحوكمة العمل المؤسساتي. في حين بلغت الانتقادات أشدها لطريقة إدارة الصفقات العمومية، وإبرام العقود ب “الواسطة”، مازالت الحكومة تنعم بما تبقى من موارد لاسترضاء هذا وتعويم ذاك. وقد استطاعت النفاذ من الشبكة المحكمة التي حيكت بقانوني “الشراء العام” و”المحاسبة العمومية” من خلال ستة منافذ منها: الإدعاء أن المواصفات لا يملكها سوى مقاول واحد، وحالات الطوارئ، وضرورة استمرار العمل مع المورد نفسه، والعقود السرّية. ويؤدي اعتماد الوزراء المفرط على هذه الحالات إلى فضاء يعبق برائحة صفقات مشبوهة مفصلة على قياس عارض وحيد يمنع وجود منافسة ويشرح سبب تدهور الخدمات العامة.
فوفقاً لوسائل إعلام محليّة، جرى خلال العام الأول من نفاذ قانون الشراء العام، في بداية آب 2022، 805 عمليات شراء، منها 396 تلزيم. تفرَّع من هذه التلزيمات 176 اتفاق بالتراضي، و147 عملية لم يفصح عنها، مما يشكّل تضارباً واضحاً بين ما يُعرف بالصفقات السريّة وقانون حق الوصول الى المعلومات. هذا فيما خصّ الصفقات السريّة، أما الصفقات العلنية، تلك التي تحمل صفة “التراضي”، فقد ظهرت في سابقة غريبة عن المنطق، بوجهين مختلفين يؤديان الى نتيجة واحدة. المثال على الوجه الأول ما حصل في تلزيم إدارة منطقة الحاويات في مرفأ بيروت في شهر شباط من العام 2022، حيث تفرّدت شركة بالمناقصة بعدما تبيّن أن الشركة المنافسة لا تستوفي الشروط المطلوبة، وبالتالي تم الاتفاق مع الشركة الوحيدة المتبقيّة بالتراضي. ففي حين انتهى دور إدارة المناقصات عند إبداء الرأي بتعديل دفتر الشروط بما يتناسب مع حقوق الطرفين، كان للجهة الملزّمة رأياً آخر خلال التلزيم. لتصبح الصفقة برمتها تراضٍ مبطّن بمنافسة وهميّة.
أما الوجه الثاني لصفقات التراضي، فيتمثَّل في كل عقد اتفاق، أو شراء، أو صفقة تجريها مؤسسات الدولة دون مناقصة عمومية، كتلك التي تتكرّر في وزارتي الاتصالات والطاقة والمياه. تمثّلت النسبة الأكبر من هذه الصفقات بشراء لوازم ومعدات تشغيلية، تلتها خدمات الصيانة والتشغيل، كالصفقات المتعددة لنقل أو تركيب محولات قدرة، أو محطات، مثل تلك التي أجرتها مؤسسة كهرباء لبنان في العام 2019 (صفقة رقم 1330 و3632 وغيرها). ولم تقف عقود الاتفاقات بالتراضي عند سقف الاستثناءات، أو الضرورات، إنما تمدّدت كمّاً وحجماً لتطال مشاريع كبرى، كإنشاء معامل كهرباء، (العقد مع شركة Siemens في العام 2022)، والذي قد يكون جمره مازال يعمل تحت رماد الاستتار طالما لدى رئيس حكومة تصريف الأعمال رغبة في إبرامه.
12 حالة لعقد الإتفاق بالتراضي في قانون المحاسبة العمومية. وفقا لأحكام المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية كانت هنالك 12 حالة لعقد الاتفاقيات مهما بلغت قيمتها بالتراضي، إذا كانت تتعلق:
1- باللوازم والاشغال والخدمات التي لا يمكن وضعها في المناقصة، اما لضرورة بقائها سرية، واما لان مقتضيات السلامة تحول دون ذلك، شرط ان يقرر ذلك الوزير المختص.
2- باللوازم والاشغال والخدمات الاضافية التي يجب ان يعهد بها الى الملتزم الاساسي لئلا يتأخر تنفيذها، او لا يسير سيرا حسنا فيما إذا جيء بملتزم جديد اثناء تنفيذ الصفقة، ويجوز ذلك:
- إذا كانت اللوازم والاشغال والخدمات غير متوقعة عند اجراء التلزيم الاول، ومعتبرة من لواحقه، وتشكل جزءا متمما له.
- إذا كانت اللوازم والاشغال والخدمات يجب ان تنقذ بواسطة الات وتجهيزات خاصة يستعملها الملتزم في مكان العمل، على ان تكون غير متوقعة عند اجراء التلزيم، وان تشكل جزءا متمما له.
3- بالأشياء التي ينحصر حق صنعها في حامل شهادات اختراعها.
4- بالأشياء التي لا يملكها الا شخص واحد.
5- باللوازم والاشغال والخدمات الفنية التي لا يمكن ان يعهد بتنفيذها الا لفنانين او اختصاصيين او حرفيين او صناعيين دل الاختبار على اقتدارهم.
6- باللوازم والاشغال التي يصنعها ذوو العاهات المحتاجون المرخص لهم بالعمل من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، على ان لا تجاوز اسعارها الاسعار الرائجة في السوق.
7- بنفقات الضيافة والتشريفات: وما شاكلها من نفقات التمثيل.
8- باللوازم والاشغال والخدمات التي اجريت من اجلها:
- مناقصتان متتاليتان.
- او استدراج عروض على مرتين متتاليتين.
- او مناقصة تلاها استدراج عروض.
وذلك دون ان تسفر هذه العمليات عن نتيجة ايجابية. ويجب في هذه الحالة ان لا يسفر الاتفاق الرضائي عن سعر يتجاوز انسب الاسعار المعروضة اثناء عمليات التلزيم، الا في حالات استثنائية تبررها الادارة في تقرير معلل.
9- باللوازم والاشغال والخدمات التي يمكن ان يعهد بها الى المؤسسات العامة او البلديات.
10- باللوازم والخدمات التي تؤمنها الادارة بواسطة المنظمات الدولية.
11- باللوازم والاشغال والخدمات التي يمكن ان يعهد بها بموافقة مجلس الوزراء الى حكومات اجنبية او مؤسسات تراقبها هذه الحكومات. وللحكومة في مثل هذه الحالة ان تعفي الجهة التي تتعاقد معها من الشروط المتعلقة بمحل الاقامة والكفالة والغرامات وتوجب التسليم قبل القبض.
12- باللوازم والاشغال والخدمات التي يقرر مجلس الوزراء تأمينها بالتراضي بناء على اقتراح الوزير المختص.
قانون الشراء العام يقلص حالات الاتفاق بالتراضي إلى ستّ. هذه الحالات ال12 التي كانت تجيز الاتفاقيات بالتراضي في ظل قانون المحاسبة تقلصت في ظل قانون الشراء العام الى 6 حالات نصت عليها المادة 46 كما يلي:
1- عند عدم توفُّر موضوع الشراء إلّا عند مورِّد أو مقاول واحد، أو عندما تكون لمورّد أو مقاول حقوق ملكية فكرية في ما يَخصّ موضوع الشراء، ويتعذّر اعتماد خيار أو بديل آخر؛
2- في حالات الطوارئ والإغاثة من جَرّاء وقوع حدث كارثي وغير مُتَوَقَّع، ونتيجة ذلك لا يكون استخدام أيّ طريقة شراء أُخرى أسلوباً عملياً لمواجهة هذه الحالات؛
3- عند حاجة الجهة الشارية إلى التعاقد مع الملتزم الأساسي عند توفُّر الشروط التالية مجتمعة:
أ. حصول الحاجة أثناء تنفيذ العقد؛
ب. توفُّر حالة العجلة القصوى ووجوب التعاقد لمنع التأخير في التنفيذ؛
ج. وجوب توحيد المواصفات والتوافق أو التماثل مع السلع أو المعدات أو التكنولوجيا أو الخدمات أو الأشغال الموجودة؛
د. عدم تأدية الإضافات إلى تبديل هدف العقد الأساسي أو قلب اقتصادياته أو ضرب مبدأ المنافسة؛
ه. تشكيل اللوازم أو الأشغال أو الخدمات ملحقاً للشراء الأساسي وجزءاً متمِّماً له أو وجوب تنفيذ الأشغال في مكان العمل؛
و. عدم إمكانية توقُّع الحاجة الإضافية أثناء التعاقد الأساسي.
4- عند شراء لوازم أو خدمات أو عند تنفيذ أشغال تستوجب المحافظة على طابعها السري من أجل مقتضيات الأمن أو الدفاع الوطني، وذلك وفقاً لقرار يُتَّخَذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح الوزير المختص الذي يُحدِّد الصفة السرية للشراء وأسباب التعاقد الرضائي؛
5- عند التعاقد مع أشخاص القانون العام كالمؤسسات العامة والبلديات أو المنظمات الدوليّة.
6- عند التعاقد مع المستشفيات والمراكز الطبية والمختبرات.
نظريا كان من المفترض أن تنخفض اعداد وقيم الاتفاقيات بالتراضي، فمقتضيات السرية والسلامة العامة التي كان يقدرها الوزير المختص تقلصت دائرتها الى مقتضيات الامن والدفاع الوطني وبات الاختصاص لمجلس الوزراء لا للوزير المختص، وان كان القرار يأتي بناء على اقتراحه الذي يحدد الصفة السرية للصفقة وأسباب التعاقد بالتراضي. اما الاتفاقيات الملحقة وهي سرطان الصفقات العمومية الذي تكاثر بدون حدود فقد وضع له قانون الشراء العام 6 ضوابط إذا تم الالتزام بها يمكن بها أمكن القضاء على هذا المرض. كما ألغى قانون الشراء العام الحالات المعبر عنها في الفقرات 3، 4 و5 من المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية ليستبدلها بحالة المصدر الوحيد مع شرط متلازم يتمثل باستحالة اعتماد الخيار الاخر. كما ألغى قانون الشراء العام الحالة المعبر عنها في الفقرة 6 والمتعلقة باللوازم والاشغال التي يصنعها ذوو العاهات المحتاجون المرخص لهم بالعمل من قبل وزارة العمل والشؤون الاجتماعية تاركا الامر للسياسات التنموية والاستدامة التي لم يأت القانون على تفاصيلها بل ترك الامر بشأنها لمجلس الوزراء. كما ألغى قانون الشراء العام الحالة المعبر عنها في الفقرة السابعة من المادة 147 والتي تتعلق بنفقات الضيافة والتشريفات التي اعتادت الإدارات العامة على عقدها بالتراضي دون حسيب او رقيب وبات لزاما عليها اجراؤها بطريقة تنافسية فراحت تبتكر البدع لعقدها بالتراضي مثل اعتبارات «فخامة الرئيس» او «دولة الرئيس» او «معالي الوزير» وما الى ذلك من تعابير يستشف منها ان هؤلاء لا القانون من يختار الجهة المتعاقد معها بخصوص هذه النفقات.
كما الغيت الحالة المعبر عنها في الفقرة 8 من المادة 147 من قانون المحاسبة العمومية والمتعلقة بفشل مناقصتين متتاليتين او استدراجي عروض متتاليين او مناقصة تلاها استدراج عروض ليكون البديل وفق قانون الشراء العام في هذه الحالة مناقصة على مرحلتين لا اتفاق بالتراضي.
حجج واهية لتبرير الإصرار على إبرام العقود بالتراضي. وتبقى العبرة في التطبيق، فبعض الجهات الشارية ما تزال متمسكة بالتراضي متذرعة بالحالة الطارئة الناتجة عن تقاعسها في تحضير ملفات ووثائق المناقصات في مواعيدها وغياب التخطيط عن عملها، وبالتالي مخالفة الموجبات المنصوص عليها في المادة 11 من قانون الشراء العام علما ان هذه الجهات الشارية يجب أن تحاسب على تقاعسها لا أن تكافأ بالسماح لها بإجراء اتفاقيات رضائية خلافا لأحكام القانون. بعض الجهات الشارية الأخرى تتذرع بما هي مدانة به من أنها مثلا تتعاطى مع ذات الشركة الاستشارية منذ ال 2007 وان هذه الشركة هي التي تصمم وتخطط صفقات الجهات الشارية وتضع دفاتر الشروط الخاصة بها وتشرف وتراقب التنفيذ، وهذه مأساة كبرى تجسد حالة عملية من حالات الفساد في الصفقات العمومية وتعكس ظاهرة تضارب المصالح وضرورة تجريمها وفرض عقوبات جزائية على من يمتنع عن التصريح عنها، وأخيرا تتذرع بعض الجهات الشارية بمقدرة الشركة المحظية وخبراتها الخارقة وتتهرب من التعاقد مع شركات محلية ولا تخجل من اعلان ذلك وكتابته خطيا علما انه بإمكانها اجراء مناقصات عالمية يكون شرطها الأساسي نقل الخبرات الى السوق المحلية، ولكن عندما يموت الحس الوطني يسقط الشعور بضرورة تطبيق القوانين ومنها قانون الشراء العام.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق