لبنان إذاً، ليس بلداً فقيراً بالمياه، إنما “تعوزه الحيلة” للاستفادة من مصادر المياه، واستخدامها بكفاءة عالية من دون هدر، وتوزيعها بعدل وبكلفة معقولة. وهذه الشروط الثلاثة لا يمكن تحقيقها ما دام هذا القطاع يدار بـ”العقلية القديمة”، القائمة على الاحتكار العام للقطاع انتاجاً ونقلاً وتوزيعاً. وعدا عن عوائق المركزية، والبيروقراطية، فان التجربة أثبتت على مدار السنوات أن القطاع العام في لبنان غير مؤهل لتقديم الخدمات، خصوصاً في ما يتعلق بالمياه والكهرباء والاتصالات والنفايات، وغيرها العديد من القطاعات التي اجتاحها الهدر والفساد، وتراجع مستوى الخدمات وارتفعت أسعارها بشكل كبير.
الخروج من أزمة المياه المتوقع أن تتفاقم أكثر مع السنوات نتيجة التبدل المناخي من جهة واستفحال الهدر والفساد من الجهة الثانية، يفترض من لبنان التخلي عن كل السياسيات التي لم تُجدِ نفعاً في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، وإتاحة المجال أمام البلديات واتحاداتها لتأمين هذه الخدمة من خلال التعاون مع القطاع الخاص. خصوصا بالنسبة للبلديات التي تملك مصادر مياه خاصة بها، وهي كثيرة.
فصل الانتاج عن النقل والتوزيع
على غرار الكهرباء يجب فصل الانتاج في قطاع المياه عن النقل والتوزيع. وضمان المنافسة بين الشركات التي تقدم الخدمة من أجل تأمين أفضل الخدمات بأقل الأسعار للمواطنين. فالقطاع الخاص قادر على استثمار مصادر المياه سواء كانت طبيعية كالأنهار والينابيع والآبار، أو غير الطبيعية كتحليه مياه البحر وتكرير المياه المبتذلة بأكثر من طريقة، منها: إعادة التأهيل والتشغيل والنقل – (ROT)وهو ترتيب تعاقدي يستلم القطاع الخاص بموجبه منشأة قائمة لتجديدها وتشغيلها وصيانتها لفترة امتياز، وبعد انتهاء هذه الفترة تعود الملكية القانونية للمنشأة إلى الحكومة. ومن الممكن أيضا الاستثمار في شبكات النقل والتوزيع التي توصل المياه إلى المنازل، الأمر الذي يضمن الابتعاد عن الهدر والفساد وضمان جودة الخدمة المقدَّمة، خصوصاً في حال تنوُّع الجهات العارضة في مختلف المراحل وعدم اقتصارها على جهة محتكِرة واحدة، لكي لا نخرج من الاحتكار العام إلى الخاص. فما المانع أن تستثمر جهات منافسة في انتاج المياه في منطقة واحدة؟ والأمر نفسه ينسحب على التوزيع بالتعاون مع البلديات التي تملك الارض مقابل بدلات ورسوم تغذّي بها خزينتها.
القانون 192/2020
في العام 2020 وللحد من سوء الإدارة في قطاع المياه على صعيد كل لبنان، صدر القانون رقم 192 “قانون المياه” بتاريخ 22 تشرين الاول 2020. وهذا القانون بالغ الأهمية “يقسّم لبنان إلى أحواض مائية، ويحفظ لكل حوض التوازن المائي على أساس حجم أو كمية مصادر المياه، وكميات الصرف الصحي، ونسب الاستثمار السياحي والصناعي والزراعي، والنسب السكانية”، يقول رئيس المصلحة الوطنية لنهر الليطاني سامي علوية. “على أن يكون كل حوض مستقلا عن الأحواض الأخرى. ولا تنقل المياه من حوض إلى آخر إلا في زمن الشح وفي حالات الضرورة”. إلا أن المجلس الدستوري علّق مفعول القانون لحين البتّ بالمراجعة التي تقدم بها النواب: سيزار أبي خليل، حكمت ديب، سليم عون، ماريو عون، روجيه عازار، فريد البستاني، سيمون أبي رميا، إبراهيم كنعان، آلان عون وإدكار معلوف، لإبطال المادتين 14 و15 من القانون. وتنص المادتان المطعون بهما باختصار على وجوب فتح قطاع المياه على القطاع الخاص من خلال اعطاء الرخص والامتيازات بشروط معينة وضمن أطر محددة. بحيث “يخوِّل الامتياز صاحبه في ما يختص باجراء الانشاءات العمومية المذكورة في دفتر الشروط علاوة على الحقوق المنصوص عنها في المواد 18 و19 و20 من هذا القرار جميع الحقوق التي تمنحها القوانين والأنظمة للإدارة بشأن نزع الملكية للمنفعة العمومية ويظل صاحب الإمتياز خاضعاً بالوقت نفسه لجميع الواجبات الناجمة للإدارة عن هذه القوانين والأنظمة.”
فتح قطاع المياه على المنافسة
مقابل تعليق العمل في القانون 192، يستمر تغليب مصلحة المقاولين والمتعهدين واحيانا كثيرة المستشارين على مصلحة السكان والطبيعة”، يشدد علوية. “ففي العام 2018 ومن ضمن قانون المياه الذي جرى تعديله بالقانون 192/2020، اُنشِئت لدى رئاسة مجلس الوزارء هيئة، تسمى: الهيئة الوطنية لقطاع المياه، مثلها مثل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء. تضم الهيئة وزراء السياحة والصناعة والصحة والزراعة والمالية والطاقة، والمدراء العامين لمؤسسات المياه، ومصلحة مياه الليطاني. ولكن هذه اللجنة جرت محاربتها ولم تجتمع إطلاقا منذ سبع سنوات. وبالتالي يجب دعوتها للانعقاد وتفعيل دورها لكي تتمكن من دراسة المخططات التوجيهية للاحواض”.
لا اجراءات استثنائية
في زمن الشح يبدو أن الاجراءات الفعلية، العملية والعلمية التي اتخذت لمواجهة التراجع في المتساقطات قليلة، إن لم نقل معدومة. وعدا عن تعطيل الهيئة الناظمة والقانون 192، لم يُتّخَذ على صعيد كل لبنان إجراءات حمائية أو ردعية من قبيل إعطاء الأفضلية لمياه الشفة على حساب المسابح والمجمّعات السياحية. أو بين تلك المجمّعات وبين ري المزروعات. ولم تُعالَج المياه المبتذلة رغم انتشار محطات التكرير والاستفادة من مياهها لري المزروعات بدل استنزافها لمياه الشفة من خلال العيارات التي تمنح للحقول بحسب “الواسطة” مع البلديات أو الرشى في الكثير من الاحيان.
ولم يفرض التنظيم المدني على الابنية المنشأة حديثا “حصاد الامطار”، أي إنشاء خزان كبير لاستيعاب مياه الامطار من السطوح. وعلية “نحن نفتقد عقولا تعي أهمية المياه وكيفية المحافظة عليها وترشيد استخدامها”، برأي علوية، “وآخر مشروع مائي حقيقي تم تنفيذه كان في ستينات القرن الماضي في زمن الرئيس شارل حلو والمهندس ابراهيم عبد العال. ومن بعده لم يجرِ اي تطوير فعلي للقطاع.
المشكلة الاساسية تبقى في “القانون 221 / 2000″، برأي علوية، إذ لا يمكن إدارة قطاه المياه بعقلية المركزية”. ومن غير المنطقي مصادرة مصادر المياه من الينابع والاعين في القرى والبلدات التي تُعتبَر مكتسبا لها أبا عن جد من أيام لبنان القديم زمن المتصرفية لصالح مؤسسات المياه”. وفيما عدّل القانون 192 هذه الخطيئة من خلال الإجازة لعقد الاتفاقات بين مؤسسات المياه والقطاع العام. بمعنى أنه يجوز لمؤسسة المياه الاتفاق مع بلدية ما ان توزع المياه وتهتم بالجباية وتحصيل الاموال.
الحل لأزمة المياه يكمن في “فتح الابواب امام القطاع الخاص للتشارك في إدارتها إلى جانب إدارة الصرف الصحي”، يشدد علوية. “والقانون 192 يفتح الابواب لشراكة معيّنة مع القطاع الخاص، ولو انه يبقي على المياه حقا وليست سلعة. ولاسيما انه أتى نتيجة ضغط الجهات المانحة لافساح المجال للقطاع الخاص للاستثمار في المياه. “ولا أحد يرهبنا من القطاع الخاص”، يضيف علوية. “كون التجربة أثبتت قدرته على تأمين الخدمات.
فهل نشهد مع العهد الجديد انتقالا إلى حل فعلي يعيد تقسيم لبنان إلى أحواض مائية منفصلة، مع تطبيق اللامركزية واعطاء دور أساسي للبلديات وإدخال القطاع الخاص وحماية الحقوق المكتسبة على مصادر المياه التاريخية؟