تعاقد “المركزي” مع طرف ثالث للخروج من اللائحة الرمادية، حاجة، أم “لزوم ما لا يلزم” بكلفة باهظة؟

اللائحة الرمادية

شكل إدراج لبنان على اللائحة الرمادية لـ “مجموعة العمل المالي” (FATF) في خريف العام الماضي، نكسة حقيقية في مسار استعادة الثقة الدولية. إلا أن هذه الدمغة القاتمة، كانت البداية لبناء نظام متكامل يمنع تبييض الأموال، ويحدّ من تجاوزات القطاعات ذات الصلة، ويشدد العقوبات، وليست النهاية لتحسين علاقات لبنان مع الخارج. وقد بدأت الإدارات المعنية، ولا سيما في وزارة العدل، التحرك بجدية أكبر لمعالجة نقاط الخلل الإحدى عشرة التي أدرجتها المجموعة في توصياتها النهائية. وكانت الأمور تسير بسلاسة إلى حد إعلان مصرف لبنان قبل يومين عن إبرام اتفاقية تعاون مع شركة (K2 Integrity) الأميركية في سياق مساعدة لبنان للخروج من “اللائحة الرمادية”. فهل فشلت المساعي المبذولة على أعلى المستويات طيلة الأشهر التسعة الماضية؟ وما هي أوجه القصور الفعلية التي تتطلب الاستعانة بشركة دولية من هذا الحجم لمعالجتها؟

قبل شهرين من اليوم، وتحديداً في 27 أيار 2025، تقدمت النائبة بولا يعقوبيان بسؤال للحكومة اللبنانيَّة بشخص رئيسها ووزير الماليَّة حول أنباء تعاقد “مصرف لبنان” مع شركة أجنبيّةٍ خاصّة بمبلغ أربعة ملايين دولار، ولمدة 3 سنوات، لمساعدة لبنان في الخروج عن “لائحة الدول التي تخضع للرقابة المعزَّزة” (اللائحة الرمادية).

دور هيئة التحقيق الخاصة

الجواب على السؤال لم يأت من الحكومة، إنما من مصرف لبنان. إذ نفت مصادره نية التعاقد مع أي جهة خارجية، ولاسيما أن إدراج لبنان على هذه اللائحة لم يأت نتيجة تقصير من مصرف لبنان، ولا حتى في القطاع المصرفي، إنما نتيجة وجود خلل في المتابعة والملاحقة القضائية والعقوبات في العديد من إدارات الدولة والجهات ذات الصلة. مؤكدة أن هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان تقوم بدورها على أكمل وجه.

بعد نحو شهر، ثبُت أن الجزء الأول من رد مصرف لبنان، لم يكن دقيقاً، بدليل تعاقد المصرف مع شركة أجنبية خاصة، فيما كان الجزء الثاني من الرد المتعلق بهيئة التحقيق الخاصة، صحيحاً. فهذه الهيئة التي كُلّفت بمهام المنسق الوطني لتنفيذ خطَّة العمل التي وضعتها “مجموعة العمل المالي” من أجل الخروج عن اللائحة الرماديَّة، أنشأت “لجنة المساعدة الفنيَّة (Technical Assistance Committee) ، التي تضمنت، بالإضافة إلى “الهيئة”، سفارات دول فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة واستراليا وEU Global Facility – “المرفق العالمي لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التابع للاتحاد الأوروبي”. والاخيرة هي منظمة حكومية تابعة للاتحاد الأوروبي، تقدم مساعدة تقنية بناء على طلب الدولة وفي مجالات المساعدة التي تريدها.

وعليه، طلبت هيئة التحقيق الخاصة من EU Global Facility المساعدة الفنية في تحقيق 7 شروط (من 2 لغاية 8) من أصل 11 شرط أو “نتيجة مباشرة” مفروض معالجتها. فيما تكفّلت هيئة التحقيق الخاصة بمعالجة الشروط المتبقية وعددها 4، بشكل مباشر مع الإدارات المعنية، نظراً لوجود معلومات لا يحق لطرف ثالث خارجي الاطلاع عليها. وتمول السفارات كلفة EU Global Facility ـ مثلاً: تكفلت السفارة الألمانية بتمويل عمل “غلوبال فاسيتلي” مع المحامين والكتاب العدل، وهكذا دواليك…

عمل الوزارات

في الموازاة شكلت وزارة العدل لجنة من الخبراء المختصِّين من القطاعين العام والخاص دون أي مقابل وذلك بموجب القرار رقم 1/11 في شباط من هذا العام، لتنفيذ الإجراءات التصحيحيَّة المطلوبة من الوزارة. كما باشرت “وزارة الماليَّة” بتنفيذ المطلوب منها لاسيما على صعيد تدريب موظفي الإدارة الضريبية، كذلك بالنسبَّة لـ “وزارة الداخليَّة والبلديات” في ما يتعلَّق بـ “المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي”، و”المديرية العامَّة للأمن العام”، و”مديرية الشؤون السياسية واللاجئين”، دون أي مقابل أيضا.

ما الحاجة للاستعانة بطرف ثالث؟

بحسب كل الوقائع يتبين أن عمل هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان للخروج من اللائحة الرمادية لتبييض الأموال يسير على قدم وساق، ومن دون تحميل الدولة اللبنانية أي تكاليف إضافية هي بغنى عنها. فالنقاط من 2 لغاية 8 تعالجها واحدة من أعرق المنظمات الحكومية الأوروبية، وبتمويل من السفارات الأجنبية. فيما الشروط 1 و9 و10 و11 تتمتع بالسرية. “فما هو الدور الذي ستلعبه أي شركة تدقيق أجنبية يستعان بها من الخارج؟”، تسأل النائبة يعقوبيان. “وإن كان من حاجة فعلية للاستعانة بطرف ثالث، فلماذا تم التعاقد بالتراضي، وليس عبر إطلاق دفتر شروط عبر هيئة الشراء العام، الذي يخضع لها مصرف لبنان، لاستجلاب عروض بتكاليف اقل أو بشروط أحسن؟ إذ لم يتبين وجود أي معلومات حول هكذا عملية شراء تم الإعلان عنها من قبل “مصرف لبنان”، التزاماً بأحكام قانون الشراء العام رقم 244/2021 “. وخصوصاً ان شركة k2 المستعان بها والتابعة لشركة Kroll العالمية، ليست الوحيدة من نوعها التي تقدم مثل هذا النوع من الاعمال، بل هناك العديد من الشركات العريقة الاخرى.

مراعاة السرية

إذا وضعنا كل ما سبق جانباً فإن “الغالبيَّة العظمى من الإجراءات التصحيحيَّة المطلوبة من الجهات الرسميَّة بحسب خطَّة عمل الـ “FATF” تتطلَّب إظهار إحصاءات فعلية لأثر تطبيق القوانين والأنظمة المرعية الإجراء على صعيد التحقيقات، والإدانات، وتجميد الأصول والمصادرات ذات الصلة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. وهو ما يستوجب فقط تدخل الموظفين العامين إن كان على صعيد الجهات القضائية أو أجهزة إنفاذ القانون”، بحسب يعقوبيان. و”ذلك كون هكذا قضايا تدخل ضمن الصلاحيَّات المناطة بهذه الجهات فقط بحسب القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، لا بل تمنع إطلاع أطراف ثالثة عليها للحفاظ على سرية التحقيقات وتقييمات المخاطر الواجب تنفيذها”.

اليوم وبعد تجاوز السؤال النيابي، والتعاقد فعلياً مع الشركة، فإن النقطة الأهم تكمن في التحقق من عدم وجود أي تضارب للمصالح بين الشركة مع أي من العاملين والمتعاونين مع مصرف لبنان. وذلك بهدف تعزيز الشفافيَّة في القطاع العام، لاسيَّما ضمن عمل المصرف المركزي، بعد الأزمة الاقتصادية والمالية والنقدية التي استفحلت في العام 2019، وما نتج، وما زال ينتج عنها حتَّى اليوم من آثار سلبية أدَّت في جزء منها أيضاً إلى إدراج لبنان على اللائحة الرماديَّة من قبل مجموعة العمل المالي.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع جريدة الصفا