ما أن شُكّلت الحكومة، حتى بدأت المؤسسات المالية الدولية، ومن بينها البنك الدولي، التواصل مع المعنيين في قطاع الكهرباء لاستطلاع آرائهم ووضع الحلول للقطاع استعدادا للتمويل. هذه الجهات كانت صريحة: لا تمويل من دون وضع خطة واضحة لإصلاح قطاع الكهرباء موضع التنفيذ. توازياً وفيما يعول على خطة تزويد لبنان بالغاز المصري لإنقاذ البلاد من الظلمة، كان البنك الدولي واضحا من جهته، فهو لن يمول شراء الغاز الموعود ما لم يعالج موضوع الهدر على شبكة التوزيع، اضافة إلى اعادة التوازن المالي إلى المؤسسة عن طريق خفض كلفة الانتاج. فالاستثمار في الانتاج لن يكون مجديا وغير مفيد ما لم تكن شبكة التوزيع محصّنة>
عندما جرت الاستعانة بمقدمي الخدمات، كان الهدف تطوير الشبكة الكهربائية المتداعية وتوسعتها، كمدخل تأسيسي لمعالجة الهدر الفني في نظام التوزيع من جهة، وفي نظام العدادات الذكية لترشيد الإستهلاك وكشف تسرب الكهرباء أو سرقتها من جهة ثانية، اضافة إلى تحسين خدمة الزبائن والجباية للحد من التهرب من تسديد الفواتير. وكان من شأن كل ذلك خفض نسبة الهدر والسرقة والتسرب من نحو 50% كما كانت عند بداية المشروع إلى ما دون 10% عند تحقيق أهدافه.
وعلى رغم العراقيل والمعوقات، قامت الشركات، وإن بنسب متفاوتة، بتنفيذ ما أوكل اليها، فتمكنت من تحقيق نتائج مُرضية إلى حد ما. ففي نهاية عام 2019، انخفضت نسبة الهدر من 50% إلى ما دون 20%، مما انعكس وفرا في الطاقة المباعة، حيث بلغت زيادة المداخيل منذ بداية تنفيذ المشروع ما يقارب 787 مليون دولار (الجباية، زيادة أصول مؤسسة الكهرباء، من شبكات ومحولات وكابلات وغيرها)، مقابل كلفة لم تتجاوز 333 مليون دولار. وكان الرهان على متابعة خفض الهدر حتى نهاية المشروع إلى ما دون الـ 6% اثر انجاز نشر واستثمار نظام العدادات الذكية الذي بوشر تنفيذه بعدما أثبتت التجارب كفايته في ترشيد الاستهلاك وكشف التجاوزات والتعديات.
ولكن الظروف المالية والاقتصادية التي تمر بها البلاد منذ عامين، اضافة إلى جائحة كورونا، فرملت اندفاعة عمل الشركات بسبب نقص السيولة بالدولار الذي يعتبر أساسا لـ 90% من عملها، إذ لم تعد قادرة على إجراء التصليحات، إلا بما ندر، وبمساعدة من البلديات وفي بعض الاحيان من المواطنين الذين كانوا يؤمّنون لها المواد اللازمة لتنفيذ التصليحات.
امام هذا الواقع، كان من البديهي أن يتدهور وضع الكهرباء وخصوصا ما يتعلق بزيادة مستوى الهدر، ففي بداية عام 2020 وصلت نسبة الهدر الفني وغير الفني على الشبكة إلى 20%، وفي عام 2021 ارتفع إلى أكثر من 35%، وذلك على خلفية تزايد الاعتداءات على الشبكة والسرقات، والنسبة مرشحة إلى الارتفاع بنسبة 50% مع انهيار قطاع التوزيع كليا بما يعني ان نصف انتاج الكهرباء سيذهب هدرا.
وفي هذا السياق، يضيء المدير العام لشركة “بوتك” للصيانة المهندس فادي أبو جودة على مشكلة الهدر الناتج من رداءة نظام التوزيع العشوائي وتردّي منشآت الشبكة، واهتمام المؤسسات الدولية بمعالجته قبل المبادرة إلى تمويل القطاع. ويقول: “عندما بدأت الازمة المالية والاقتصادية في لبنان، تعذر علينا تجديد الجزء الأكبر من مخزون الشركة من المواد واللوازم الأساسية المستوردة للمشروع: محولات، لوحات توتر، كابلات، مواد ولوازم كهربائية، قطع غيار للصيانة، الخ … والتي تشكل أكثر من ثلثي الكلفة الاجمالية. وقد تزامنت هذه الاوضاع مع تخلف مؤسسة كهرباء لبنان عن تسديد مستحقاتنا المتراكمة والتي ناهزت الـ 50 مليون دولار، كما حدت بالبنك الأوروبي للاعمار والتنمية EBRD إلى التوقف عن متابعة تمويلنا بسبب توقفنا عن دفع الأقساط المترتبة علينا، علما اننا طلبنا من مصرف لبنان تحويل هذه الاقساط من المبالغ المستحقة لنا، ولكنه رفض على اعتبار أنه لا يحوّل الا للمنتجين في الخارج”. فالمشكلة الاساس هي في “قرار مصرف لبنان الدفع مباشرة للموردين، علماً بأن غالبية تعاملاتنا هي مع تجار ومصنّعين لبنانيين، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، شركات تصنيع المحولات والكابلات اللبنانية التي تستورد المواد الأولية من الخارج، بما يهدد بتوقف الأعمال كليا”، مشيرا إلى أنه “في الفترة الاخيرة، زوّدنا بدفعتين صغيرتين بالليرة اللبنانية بسعر صيرفة، ولكن المشكلة اننا نخسر نحو 20% من قيمة هذا المبلغ بسبب العملية التي نجريها لإعادة شراء الدولار وتحويله إلى الخارج لشراء بضائع، مع الاخذ في الاعتبار ان 90% من عملنا بحاجة إلى عملة صعبة لشراء البضائع”. والمستغرب وفق ما يقول أبو جودة ان “مصرف لبنان وفي الوقت الذي لا تتوافر الاموال لشراء الكابلات من المصانع المحلية، قرر أن يدفع للموردين الاجانب ثمن العدادات الذكية التي ليست أولوية في ظل الوضع الحالي وانقطاع التغذية، والاولوية هي للمحولات والكابلات، علما أنه في اطار الهدف الاسمى لمقدمي الخدمات فإن العدادات الذكية هي من الاسس لمعالجة الهدر”.
على خط التمويل الدولي لمعالجة ملف الكهرباء، يكشف أبو جودة أنه “في اليوم الذي تشكلت فيه الحكومة، اتصلت بالشركة مؤسسات دولية، وطلبت تزويدها بأفكار لقطاع التوزيع نظراً إلى اهميته. ولكنهم كانوا واضحين: “قبل برمجة الاصلاحات، ووضع البرنامج الاصلاحي موضوع التنفيذ لا يمكننا التمويل”… كما ان البنك الدولي غير مستعد لأن يدفع ثمن الغاز من مصر ما لم تعالج مسألة الهدر في التوزيع”.
وإلى مشكلة الهدر على الشبكة، يشير ابو جودة إلى “تراجع الجباية بشكل ملحوظ، إذ ثمة الكثير من المشتركين يتخلفون عن التسديد وخصوصا المؤسسات الخاصة (المؤسسات السياحية، والمعامل)، علما أن هذه المؤسسات تمثل الثقل الاكبر في الدفع”.
ولا يرى أبو جودة مهربا من زيادة التعرفة، ولكن “حاليا لا يمكن زيادتها ما لم تؤمن مؤسسة الكهرباء 10 ساعات يوميا على الاقل”، لافتا إلى أنه “عندما وضعوا التعرفة كان برميل النفط بـ 15 دولارا ووصل اليوم إلى 150 دولارا… اليوم ندفع كيلوواط الساعة لمؤسسة الكهرباء 200 ليرة فيما ندفع للمولدات سعر الكيلوواط نحو 3500 ليرة”.
وعلى رغم الظروف الصعبة التي ترافق عمل مقدمي الخدمات، يؤكد أبو جودة: “سنبقى نلبي الخدمات للمشتركين بامكاناتنا المحدودة”. ويبدي في المقابل استعداد شركته لتحسين قطاع التوزيع تحضيرا لاستقبال الغاز المصري… “وفي حال حصل العكس فلسنا على استعداد لأن نكون شهود زور على تدمير القطاع، ولن ندفع الثمن من صدقيتنا”.
الأهم… زيادة التعرفة
لا يرى رئيس معهد دراسات السوق الخبير الاقتصادي باتريك مارديني امكانية لمعالجة ملف الكهرباء قبل معالجة أزمة الهدر والتعرفة. ويشير إلى أن ورقة سياسة قطاع الكهرباء الميوّمة قدرت نسبة الهدر بـ 38%، موزعة كالآتي: الهدر الفني على شبكة النقل 4%، و13% على شبكة التوزيع، فيما الهدر غير الفني على شبكة التوزيع (السرقات والتعليق) 21%، وتاليا “في حال كانت ارقام الوزارة صحيحة، فإنه لا مشكلة في الهدر الفني على شبكة النقل اذ في الامكان خفضه، ولكن المشكلة الاساسية هي في موضوع التوزيع والجباية”.
ولكنه يستدرك بالقول: “حتى وإن كانت نسبة الجباية جيدة، فإن ذلك لا يعتبر إنجازا كون المؤسسة تبيع الكهرباء للمواطنين بـ”البلاش”، فكلفة انتاج الكهرباء مرتفعة جدا، إذ تبلغ كلفة كيلوواط ساعة 25 سنتا بحسب التقديرات، فيما تبيعه الدولة بنحو سنت إذا أخذنا في الاعتبار ارتفاع سعر الصرف وكلفة شراء المازوت بالدولار”.
ويستند مارديني إلى دراسات المعهد اللبناني لدراسات السوق، ليشير إلى ان “لبنان ليس بحاجة إلى بناء معامل جديدة او إلى بواخر، إذ لدى معامل الكهرباء قدرة انتاجية تكفي حاجة لبنان إلى الكهرباء، خصوصا في هذه الفترة حيث انخفض استهلاك المواطنين للكهرباء، وتاليا فإن المعامل أصبحت اكثر من كافية”. ويخلص إلى القول بأن المشكلة تكمن “في عدم قدرة لبنان على شراء الفيول بسبب عدم وجود الاموال الكافية لشرائه، مع عدم التكافؤ ما بين الكلفة والتسعيرة، اضافة إلى الهدر”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع النهار