الفساد في لبنان بدون حسيب أو رقيب!

الفساد في لبنان بدون حسيب أو رقيب!

رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني: يجب إجراء التدقيق الجنائي بالصفقات العمومية السابقة وذلك من أجل كشف الفساد القديم ومحاسبة مرتكبيه

بيانات وتقارير تظهر واحدة تلو الأخرى، لتكشف بأن لبنان الذي كان موطن الحريات سابقاً، بات يتنافس مع دول العالم لنيل أعلى درجة بالفساد. تقارير ووثائق بالمئات لا بل بالآلاف تكشف وبالأرقام حجم سرقة بعض المتعهدين والمقاولين المحسوبين على جهات سياسية مرموقة… ولم يتحرك أي أحد لكشف الفاعلين. أي بما معناه: الفساد ظاهر ولا من حسيب أو رقيب…

فأين تكمن مظاهر الفساد؟ وهل من طريقة معينة لتجنب الهدر المستقبلي في حال سوعد وطننا على النهوض من أزمته؟

“الأفكار” التقت رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني وجاءت بالتحقيق الآتي:

مارديني وإدارة المناقصات!

حدثنا بداية عن مكامن الفساد والهدر في لبنان وفي أي قطاعات؟

– كل الصفقات العمومية التي تعاقدت فيها الدولة مع متعهدين، نذكر منها تلزيمات بناء معامل الكهرباء، تلزيمات شراء الفيول، تلزيمات شراء البواخر وغيرها من التلزيمات… تحوم حولها شبهات فساد كونها لم تكن تابعة لتدقيق إدارة المناقصات.

– تشير دائماً في مقابلاتك الى إدارة المناقصات، فما المقصود بها؟ وهي كجهاز تابعة لمن رسمياً؟

– إدارة المناقصات تابعة إدارياً للتفتيش المركزي ولكن فعلياً هي هيئة مستقلة وظيفتها التدقيق بالصفقات العمومية، والتأكد من كون دفاتر الشروط المخصصة لاستدراج العروض لا يشوبها عيوب قانونية وليست مفصلة على قياس عارض وحيد محسوب على جهة سياسية واحدة، مما يعني أنها تأمّن تكافؤ الفرص والمنافسة الحقيقية.

وتابع مارديني قائلاً: لدينا كل الثقة بأن كل مناقصة تتم عن طريق إدارة المناقصات تتمتع بالشفافية وتمنع قيام أي من الوزراء بوضع دفاتر شروط تتلاءم مع المتعهدين التابعين لهم. والأهم بإدارة المناقصات أن رئيسها شخص كفوء نزيه ومستقل وغير تابع لأي جهة سياسية ويدعى جان العلية، ولطالما كان ضامناً لسير عمل الصفقات العمومية مما دفع العديد وتخوفاً من نزاهة العلية الى إجراء صفقات خارج إطار إدارة المناقصات.

– كيف يمكن لإدارة المناقصات أن تحد من حجم الفساد؟

– إنّ إدارة المناقصات كانت لتحدّ من حجم الفساد ولتقلّص من مزاريب الهدر، من خلال نيلها أفضل العروض، لولا أوكلت لها مهمّة التدقيق في دفتر الشروط وتحديد الفائزين في كل المناقصات العامة. ويذكر من بين هذه المناقصات، مناقصة البواخر ومناقصة الفيول الأخيرة، حيث نالت الدولة عرضاً بكلفة أدنى بكثير ممّا كانت تناله سابقاً. وهنا أثني على استقلالية هذه الهيئة، وعلى نزاهة مديرها جان العلّية، الذي يعمل بضمير مهما كثُرت عليه الضغوط.

وتابع مارديني قائلاً:

– ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ فيها البلاد، أقرّ مجلس النواب قانوناً جديداً للشراء العام، في 30 حزيران من العام الحالي يحرّر المناقصات، لتُقام كل واحدة في الإدارة أو المؤسسة الخاصّة بها، على أن تعود جميعها لتخضع لرقابة إدارة المناقصات، والتي سُمّيت بحسب القانون الجديد «هيئة الشراء العام». وبهذا تطرّق القانون لمبدأ اللامركزية، وتوسّع نطاق عمل إدارة المناقصات ليشمل كل المناقصات العامة، بما فيها مناقصات المجالس والهيئات وغيرها… ولكن لم تعد هي المولجة مهمّة القيام بالمناقصة، بل تحوّلت إلى هيئة رقابية.

واستطرد مارديني قائلاً: أتأسف على خسارة هيئة الشراء العام، أو ما كان يُعرف بإدارة المناقصات، استقلاليتها. وذلك بمفعول القانون الجديد، الذي ينصّ على أن تعيّن الحكومة الهيئة العامة التي ستراقب عمل الحكومة عينها. وفي السياق ذاته أتساءل كيف يُمكن للجهة المطلوب مراقبتها بأن تعيّن من سيقوم بمراقبتها؟ وهنا لا بد من التأكيد أنّ هذا القانون وبهذه الطريقة، سيُفقد لبنان ولو نسبة الـ 10% من الصفقات العمومية التي كانت تمرّ بشفافية مطلقة، لتصبح بمجملها عرضة للشبهات، لأنّ الهيئة المراقبة والمدقّقة باتت هيئة حكومية غير مستقلّة.

الهيئة والمحسوبية!

– حدثنا عن كيفية تعيين هذه الهيئة، وهل تخضع كما يشاع لمبدأ المحاصصة وبالتالي سيتمّ اختيار الأعضاء من بين الفائزين في الامتحانات، ولكن دون أن يكونوا هم أصحاب العلامات الأعلى، وبالتالي قد لا يكونون الأكثر كفاءة؟

– أتوقّع أن يتمّ اختيار الأشخاص، وفقاً للمحسوبية وللزبائنية، أو سيتم اختيار من سينفّذ الأوامر من دون أي اعتراض. ومن المنطقي أن ينتقل الموظفون من إدارة المناقصات إلى هيئة الشراء العام، كلّ في موقعه كما جرت العادة، وأستغرب كيف أنّ مدير الإدارة وحده من انتقل من مدير عام إلى مدير عام مؤقّت، وبالتالي وُضع بتصرّف الحكومة. وأشدّد على أنّ هذا التطوّر خطير جدّاً، ويُفقد المدير حصانته كموظف من الفئة الأولى، ويجعله خاضعاً للحكومة التي بإمكانها إقالته في أي وقت.

وتابع مارديني قائلاً: إضافة إلى شوائب قانون الشراء العام الجديد، نرى الشقّ المتعلّق بسريّة المعلومات، بحيث بقيت ضمن نطاق واسع ومن دون تفاصيل، تحدّد شموليتها. فمن الضروري أن يتكتّم أعضاء الهيئة والموظفون عن الأسرار التجارية، وعن تفاصيل العروض والأسعار والأسماء، وغيرها من معلومات مرتبطة بالمناقصات، ولكن هل سيشمل تكتّم هؤلاء عن بعض المخالفات وعن أي شبهة فساد قد تمرّ تحت ناظريهم؟

– ولكن يقال إن هناك طعناً بقانون الشراء العام فما مدى صحة ذلك؟

– لقد طُعن بقانون الشراء العام «الأعوج» في المجلس الدستوري، وفي حين لا يزال الجدال القانوني قائماً حول ما صدر عن المجلس في شهر أيلول الماضي، وفي حين كنّا قد استبشرنا خيراً بأنّ دولتنا الكريمة قد أعلنت توبتها عن سمسرة الصفقات بإصدار هذا القانون، يبدو أنّها مكّنت مخالبها. وهذه المنظومة تتأمّل وتترقّب الدولارات التي سيمنحها إيّاها البنك الدولي، وتبني لنفسها الأرضية المناسبة لتسرق المزيد من أموال الشعب اللبناني.

– ما الحل الأنسب لمنع السرقة ولوضع حد لمزاريب الفساد؟

– الحل الأنسب لوقف السرقة ومزاريب الهدر هو تعديل قانون هيئة الشراء العام بشكل أن تجري التعيينات التابعة لهذه الهيئة على أساس الكفاءة حصراً وليس استنسابياً مما يؤدي الى تفادي أي هدر مستقبلي.

وختم مارديني قائلاً: لمنع أو كف يد كل من يريد القيام بالهدر مستقبلاً يجب إجراء التدقيق الجنائي بالصفقات العمومية السابقة وذلك من أجل كشف الفساد القديم ومحاسبة مرتكبيه. كما يجب أيضاً تأمين استقلالية هيئة إدارة الشراء العام مما يعتبر ضامناً مستقبلياً لتخفيف الهدر.

إضغط هنا لقراءة المقال على موقع الأفكار