عام ثقيل إضافي يحل على لبنان المرهَق بأزمات دفعت أكثر من 80 في المئة من سكانه إلى ما دون خط الفقر، إذا جرف انهيار الليرة اللبنانية منذ نهاية عام 2019، مختلف القطاعات الاقتصادية في البلاد. ويقف لبنان حالياً أمام تحديات صياغة موازنة عام 2022 التي يُفترض أن ترسم خطة لمواجهة الاضطرابات النقدية والمصرفية وتلتزم بشروط صندوق النقد الدولي وتعمل على معالجة أزمة الطاقة.
وبعد خلافات عميقة، قدّر نائب رئيس الوزراء اللبناني، سعادة الشامي، رئيس لجنة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، خسائر القطاع المصرفي بنحو 69 مليار دولار، فيما لا تزال الخلافات متفاقمة حول آلية توزيع تلك الخسائر، إذ يتم تقاذفها بين الدولة والقطاع المصرفي والمودعين.
ووفق ما تسرب من معلومات أولية عن الموازنة المقبلة، فإن عملية ردم “الفجوة المالية” ترتكز على تحويل الودائع بالعملات الأجنبية إلى الليرة اللبنانية، وبذلك يكون المودع تحمل الجزء الأكبر من الخسائر، لا سيما أن هذه العملية كانت بدأت منذ عام 2020 حيث أُجبر المودعون وفق تعاميم مصرف لبنان على سحب أجزاء من ودائعهم الدولارية بالليرة اللبنانية، وبأسعار أقل بكثير من سعر الدولار في السوق الموازية.
العودة زمنياً
وقسم الباحث الاقتصادي أنطوان فرح مصير الودائع إلى جزأين، فاعتبر أن “البنك المركزي حدد الودائع الصغيرة التي لا تتجاوز قيمتها 50 ألف دولار، وجزء كبير منها تم استرداده عبر التعاميم بتفاوت نسب الهيركات (haircut)، أما الودائع الكبيرة، والتي ستتحمل الجزء الأكبر من الخسارة، فستتركز بشكل كبير على الفوائد”.
وأوضح فرح أن “توزيع الخسائر يتوقف عند مقاربات اللجنة المكلفة للتفاوض مع صندوق النقد، وتعتمد إحداها على العودة زمنياً ثلاث سنوات لشطب الأموال التي حوِّلت من الليرة إلى الدولار، وشطب نصف الفوائد بالليرة التي دُفعت خلال آخر ثماني سنوات بالدولار، لتقليص فجوة الخسائر بالدولار، أو عبر مقاربة أخرى ترتكز على تحويل نسبة من الودائع إلى أسهم في المصارف”.
أرقام غامضة
وأثار مشروع الموازنة الذي تبحثه الحكومة حفيظة المودعين، الذين قُدِّرت قيمة ودائعهم بحدود 130 مليار دولار في بداية عام 2022، حيث كشف العضو المؤسس لـ”رابطة المودعين”، الباحث الاقتصادي، نزار غانم، أن “تقييم الخسائر أو الفجوة المالية المقدرة بـ 69 مليار دولار، والتي تبني عليها الحكومة موازنتها، غير موافَق عليها من قبل صندوق النقد الدولي، الذي يعتبر أن هذه الفجوة أكبر من ذلك بكثير”، لافتاً إلى أن “التقديرات قبل الأزمة المالية، كانت بنحو 77 مليار دولار”.
واعتبر غانم أن “هذه الخطة تتضمن إشكاليات عدة، أبرزها اقتطاع الفوائد القائمة خلال السنوات الخمس الماضية، وعدم ذكر الودائع التي حُوّلت إلى الدولار الأميركي خلال الأزمة، والودائع المخصصة لبيع سيارة والتي تمّ تحويلها من بنك إلى آخر وتم شراء أرض بواسطتها مثلاً”، ولفت غانم إلى أن “الإعلان عن حماية الودائع التي لا تتخطى قيمتها 150 ألف دولار هو أمر جيد، لكن الاستثناءات الكثيرة التي وضعتها تلك الخطة تضرب مصداقيتها، لا سيما أن الأرقام غير واضحة لناحية إمكانية تغطيتها لتلك الودائع”، مطالباً وزير المال يوسف خليل بنشر خطته، خصوصاً وأن صندوق النقد لا يعترف بهذا الطرح، “وهذا ما يؤكده عدم مجيء وفد إلى لبنان والاكتفاء بالتحاور عن طريق الاتصال، لأنه يعتبر أن هذه الحكومة غير جديّة في البحث عن كيفية معالجة الوضع الاقتصادي”. وأضاف أن “هناك مشكلة إضافية في مبادئ الموازنة، حيث لا يمكن أن تقوم أي خطة من دون هرمية في الاقتطاع، ولا يمكن أن يكون الاقتطاع من المودعين قبل تصفية المصارف وحاملي الأسهم”، مشدداً على أن “هذه الخطة ما زالت تخالف الأعراف الدولية القائلة بأن الاقتطاع له صيرورة، تبدأ دوماً من أصحاب الرأسمال وتنتهي بالمودعين”.
الفجوة المالية
في سياق متصل، أوضح الباحث الاقتصادي، باتريك مارديني، أن “تحميل المودعين الخسائر بأشكال مختلفة، منها شطب تقسيط ودائعهم، هو ظلم لهم وتحميلهم حصة الأسد من الخسائر المالية التي تسببت بها الدولة، لا سيما أن المواطنين عمدوا إلى تشغيل أموالهم في المصارف على نسب الفوائد، والتي بدورها وضعت الأموال عينها في القطاع العام بشقَيه: مصرف لبنان وسندات الخزينة للحكومة اللبنانية”.
وأشار مارديني إلى أنه “بعد الانهيار، تهرب كل من مصرف لبنان والحكومة من مسؤولياتهما، في وقت احتجزت المصارف أموال المودعين”. ورأى أن “الإصلاح المنطقي ينطلق عن طريق عملية دمج للقطاع العام، لتحديد قيمة الفجوة المالية بالدولار الأميركي والتي يجب إعادتها إلى المصارف اللبنانية”، لافتاً إلى أن عملية إعادة الأموال المُستدانة من قبل المصارف، تأتي عندما تنطلق الحكومة اللبنانية بتنفيذ الإصلاحات، وبتخفيض نفقاتها كي تتمكن من الحصول على فائض في موازنتها، الذي بدوره يمكن استغلاله لإعادة دفع جزء من أموال المودعين بشكل تدريجي”.
أما عن الإصلاحات، فقال مارديني، إنها “تبدأ من خلال إعادة الاستقرار النقدي الذي بدوره يعيد الاستقرار الاقتصادي، ويتيح إقرار موازنة قادرة على خفض نفقات الدولة وزيادة الإيرادات، إذ لم يعد مقبولاً أن تخسر الدولة أموالها على قطاع الكهرباء، وأن تدير قطاع الاتصالات والإنترنت، بل يجب أن تُفكك هذا الاحتكار وتذهب نحو المنافسة”.
تحويل الودائع
ولفت مارديني إلى أن ما سُرب من الموازنة العامة لعام 2022 والتي تتجه الحكومة إلى إقرارها، يدل إلى أن هناك 104 مليارات دولار من ودائع الناس، 69 منها تمت خسارتها بفعل إقراض المصارف للقطاع العام، غير القادر على تسديد دينه”، كاشفاً أن “هذه الخسائر ستوزَّع وذلك عن طريق فصل قيمة الوديعة الحقيقية، والفوائد التي أُضيفت إليها، لمعرفة نسبة الكابيتال كونترول (capital control) الذي فُرض عليها”، وموضحاً أنه “لا بد اليوم أن يتم الفصل بين المبلغين، ليتم حينها ردّ الفوائد المتراكمة، وليس رأس المال للمودع على سعر 5 آلاف ليرة للدولار الواحد، وبذلك، يكون المصرف قد اقتطع 80 في المئة من قيمة الفوائد وليس الوديعة الأصلية، وذلك نسبة إلى الفرق بين تسعيرة الـ 5 آلاف ليرة وسعر الصيرفة المُحدد بما يقارب 22 ألف ليرة للدولار الواحد”.
وإضافة إلى ذلك، قال إن “هناك 35 مليار دولار تم تحويلها خلال الأزمة من الليرة اللبنانية إلى الدولار، وبحسب الطرح، هذه الأموال ستُدفع للناس بالليرة، إنما على سعر 12 ألف ليرة لكل دولار، أي أنه سيتم وضع اقتطاع عليها بنسبة 50 في المئة”، وتابع، “تبقى لدينا الودائع التي تحولت إلى المصارف بالدولار قبل عام 2019، وهي مُقسمة ما بين 150 و500 ألف دولار، أو ما فوق، وبين 25 مليار دولار مجموع الحسابات التي هي تحت 150 ألف دولار، وهذه الأموال ستُرد بالعملة الصعبة للمودعين، ولكن على المدى الطويل، ما يعني أنه إذا كانت قيمة الوديعة ما بين 150 و500 ألف دولار، سيتم ردها بالليرة اللبنانية على سعر 20 ألف ليرة للدولار الواحد”. وأشار الباحث الاقتصادي إلى أن “هذه العملية ستكون على الشكل التالي، إذا كان الحساب يبلغ مثلاً 400 ألف دولار، يُرد منه 150 ألفاً دولار نقداً، وكل ما تبقى يُدفع على 20 ألف ليرة، وكل حساب تتعدى قيمته 500 ألف دولار، سيُحول إلى أسهم داخل المصارف أو إلى سندات خزينة”.
احتساب خطأ
من جانبه، صرح الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي أنه “بحسب المنطق الطبيعي لصياغة الموازنات، يجب تحديد النفقات الإدارية والاستثمارية والإنمائية والواردات الضريبية والخدمات، وبالتالي مسألة احتساب الخسائر غير صائبة، ومُستخدمة بشكل خطأ، فهذا المُصطلح وضع لاحتساب السرقات”، وانتقد يشوعي “المبدأ الذي تعتمده الموازنة عبر الفصل بين الأموال المودعة قبل 17 أكتوبر (تشرين الثاني) 2019 وما بعده، أو المودع الذي أتى بالعملة الأجنبية من الخارج بعد 17 أكتوبر وصرفها على سعر صرف 5 آلاف ليرة لكل دولار حينها”، ورأى أن “كل هذه الطروحات تأتي عبر المافيات المالية والسياسية، التي اتفقت في ما بينها على سرقة ونهب شعب بأكمله، إذ عملية احتساب الخسائر، باتت لحماية مرتكبي السرقة بحق الناس”، مشيراً إلى أن “مشروع وضع ضريبة على الثروة يوحي أن الدولة قررت الدخول إلى منازل المواطنين لتقيم مدخراتهم وما تبقى لهم من أموال لتقتطع منها وتستكمل إفقارهم”.
اضغط هنا لقراءة المقال على موقع Independent Arabia