لعل أبرز تداعيات الحرب الروسية – الأوكرانية على لبنان تلك التي تتصل بالقوت اليومي للبنانيين. فلبنان يستورد ما لا يقل عن 85% من كميات القمح من أوكرانيا، والنسبة الباقية من روسيا. ولعل ما زاد الطين بلة هو خسارة لبنان مخزونه ومخزنه الاستراتيجي للقمح نتيجة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. فهل يُحرم اللبنانيون خبزهم؟
وكان وزير الزراعة عباس الحاج حسن قد طمأن الى أن “لا داعي للخوف، خصوصا أن لبنان نجح في ايجاد أسواق جديدة قريبة وبعيدة، ونحن اليوم بصدد شحن القمح منها، كما وضعنا استراتيجية لزراعة القمح ليكون لدينا منتج القمح في الداخل اللبناني، وعلى أقل تقدير خلال السنوات الثلاث المقبلة سننتج ما لا يقل عن 40% من حاجة السوق اللبنانية”.
وفي الانتظار، فإن مخزون القمح يكفي 45 يوما وحتى شهرين، وثمة مفاوضات مع الهند لشراء 50 ألف طن في انتظار ردها النهائي حيال الأسعار.
الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق كارابيد فكراجيان، يوضح انه “ينبغي التفريق ما بين ارتفاع السعر وفقدان السلع. فارتفاع أسعار القمح عالميا أمر طبيعي ومتوقع بينما خطر فقدان الخبز من الأسواق اللبنانية غير مبرر. فقد ارتفع سعر طن القمح من 240 يورو(نحو 290 دولارا على سعر صرف 1.2 دولار لليورو) إلى 287 يورو (324 دولارا على سعر صرف 1.13 دولار لليورو) خلال السنة التي سبقت اندلاع الحرب في أوكرانيا، ليصل أعلى سعره منذ بدء الأعمال العسكرية إلى 450 يورو (490 دولارا تقريباً على سعر صرف 1.09 دولار لليورو). وتتسبب سياسة تحديد سعر الخبز إلى ما دون سقفه الحقيقي بتكبيد الأفران خسائر تجعلها عاجزة عن الإنتاج. وكان الحل المعتمد من الحكومة في السابق هو تحميل المودعين خسارة فارق السعر عبر الدعم باستخدام احتياط المصرف المركزي بكلفة 135 مليون دولار سنوياَ؛ لكن ومع تضاؤل الاحتياط لدى “المركزي” من جهة وارتفاع أسعار القمح من جهة أخرى، بات فشل هذه السياسة يهدد مأكل المواطنين”.
وحذر فكراجيان من التساهل مع ملف دعم القمح، مشيراً إلى أنه “إذا استمرت الحرب أشهرا أخرى، ولم يتمكن المزارعون في أوكرانيا من حصاد القمح، فسنكون أمام ارتفاع أكبر في الأسعار العالمية. وينبغي التعاطي بجدية وواقعية مع ملف الدعم، إذ تزداد وطأة رفع الدعم مع المماطلة في رفعه. فقد خسر المركزي أكثر من نصف الاحتياط لديه من 30.1 مليار دولار في تشرين الثاني 2019 إلى 13.1 مليارا في كانون الثاني من العام الجاري، ذهب معظمها هدراً على الدعم. كما لازَم كلَّ تضاؤل في الاحتياط انهيارٌ لسعر الصرف، وكانت النتيجة خسارة الليرة 90% من قيمتها. أما اليوم، فالمشكلة أكبر: فالمركزي يتدخل أيضاً في سوق القطع لتثبيت سعر الصرف، أي دعم الليرة مقابل خسائر هائلة، ولن يتمكن من الصمود كثيراً ما لم تتخذ الحكومة موقفاً جريئاً برفع مصيبة الدعم عن الشعب اللبناني”.
وفيما الاتجاه هو الى حصر استخدام الطحين بالخبز العربي، يؤكد فكراجيان أن “هذه الفكرة لا تمتّ إلى الحل بصِلة، فحصر الطحين بالخبز لا يوقف الخسائر، بل يشرّع الباب لسوق سوداء جديدة لحاجة العديد من المصالح إلى الطحين لاستعمالات غير الخبز. كما سيؤدي انقطاع الطحين عن الصناعات الأخرى إلى إقفال العديد من المؤسسات وخسارة الكثير من العائلات مدخولها”.
أما التفكير بالاكتفاء الذاتي من القمح فهو “أمر غير واقعي”، برأي فكراجيان، “فالأراضي الزراعية في لبنان لا تكفي الطلب، علماً أن مناخ المناطق الزراعية في لبنان أنسب لزراعات مردودها أعلى بكثير من القمح. وكذلك يحتوي القمح اللبناني على نسبة عالية من البروتيين، ما يجعله أنسب لصناعات غذائية أخرى مثل المعكرونة. وفي مطلق الأحوال، ينبغي الابتعاد عن سياسات توجيه الاقتصاد، فصاحب الأرض أدرى بما تنتجه”.
وأشار فكراجيان إلى أن “الحل الوحيد لتفادي أزمة خبز في لبنان وتجنيب اللبنانيين ذلّ الطوابير يتمثل في إلغاء سياسة تحديد سعر ربطة الخبز ورفع الدعم عنه، ما يسمح بتوافره في الأسواق ويجنب المودعين خسائر إضافية. أما بالنسبة الى ثمن الخبز والطحين، فعلينا التفرقة بين ما يمكن التحكم به وما لا يمكن التحكم به، فالأسعار العالمية وقسم من كلفة الشحن خارجة عن سيطرة الحكومة اللبنانية، لكن الإجراءات الحدودية المعرقلة لعملية الاستيراد أمر ناتج عن سياسات حكومية بات من الملحّ التخلي عنها. ويؤدي تحرير التجارة عبر الحدود من القيود البيروقراطية إلى تسهيل عملية الاستيراد، كما يسمح لمنافسين جدد بدخول السوق، الأمر الذي يخلق مضاربة تنتج عنها أسعار أنسب”.
وفي حين يترقب العالم ما ستؤول اليه الحرب الروسية – الأوكرانية، يترقب اللبنانيون أفران الخبز خوفاً على قوت أولادهم. فبعد الغياب القسري لمعظم مكونات المائدة اللبنانية، ها هو الرغيف ينذر بالرحيل. وعلى رغم بحث وزارة الاقتصاد عن مصادر بديلة لاستيراد القمح، يستمر خطر فقدان الخبز مع استمرار سياسة تحديد الأسعار.