رمن لبنان في عنق الأزمة… “هدموا ما بنيناه وأجبرونا على الهرب من جديد”

رمن لبنان في عنق الأزمة… “هدموا ما بنيناه وأجبرونا على الهرب من جديد”

تُعدّ منطقة برج حمّود شمال بيروت، عاصمة الأرمن في لبنان، إذ لجأوا إليها بعد الإبادات الجماعية التي تعرّضوا لها على يد العثمانيين مطلع القرن الماضي، وبقيت لسنوات طويلة مع بعض المناطق المحيطة بها، شاهدةً على تجربة فريدة في عالم الاقتصاد والمال والتجارة والصناعة. فعندما تقصد هذه المناطق ترى الحضور الأرمني الطاغي من خلال أسماء الشوارع وأسماء المحال التجارية والمؤسسات، بالإضافة إلى منشآت المدارس والأندية والكشافة وغيرها.

مع مرور الوقت، خصوصاً في السنوات العشر الأخيرة، بدأت تتغير ملامح المنطقة، فبات واضحاً ليس تراجع الوجود الأرمني بحد ذاته، بل ما فعلته الأزمات المتتالية بهم، وبما فعلوه في مناطقهم على مرّ السنين، من خلال إغلاق عشرات المؤسسات فيها، وهجرة الشباب إلى الخارج خصوصاً مع استفحال الأزمة السياسية والاقتصادية في لبنان بعد عام 2019، وترافق ذلك مع بروز العديد من الجاليات من جنسيات مختلفة في تلك المنطقة على حساب الحضور الأرمني.

حلم المؤسسة تبخّر

كارو إبرام بيكاريان، صناعي لبناني من أصول أرمنية، يروي لرصيف22، قصة إغلاقه معمله الذي غيّر حياته. يقول: “بدأت بمعملي لصناعة الجزادين النسائية الجلدية، ووضعت يدي بيد زوجتي وبدأنا مشروعنا الصغير من المنزل، ومع الوقت تطور العمل وأصبحت لدينا مؤسسة فيها 17 عاملاً، وانطلقنا بشكل ممتاز وتحسنت حالتنا المادية، وكانت لدي غرفة ودار، واشتريت منزلاً واقتنيت سيارةً لي وأخرى لزوجتي، وهذا كله بتعبنا وعرق جبيننا”

أزمات متلاحقة، بدءاً من اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، ثم حرب تموز/ يوليو عام 2006، وترافق ذلك مع خضات أمنية واغتيالات في البلد، أزّمت الوضع كثيراً على كارو ومعمله والعائلات التي كانت تعتاش منه، إلا أنه أصرّ على مواصلة مشواره المميز حتى الانهيار الكبير عام 2019، إذ يشير إلى أن مشكلات المصارف وانفجار مرفأ بيروت قضت على كل أحلامه، فلم يستطع الصمود إطلاقاً، وأُرغم على إغلاق المعمل بشكل نهائي”.

من معمل لصناعة الجزادين إلى العمل من داخل المنزل لتأمين قوت يومه، يحكي كارو عن مسؤوليات كبيرة ملقاة على عاتقة تجبره على تحدي الظروف، قائلاً: “أنا اليوم أعمل في منزلي على صناعة الجزادين لكي أؤمّن قوت يومي ولكيلا ننذل للآخرين فلدينا مسؤولية كبيرة. بعت منزلي وسياراتي ونقول الحمد لله أني ما زلت أعتمد على نفسي، وأعتقد أن النسبة الأكبر من الشعب اللبناني تعاني من المشكلة عينها. أنا أحارب فقط لتأمين اكتفاء عائلتي من مسكن وغذاء ودواء، الحياة أصبحت صعبةً جداً”.

الهجرة هي الحل؟

لم يحتمل جورجيك مانو بابازيان، شاب لبناني من أصول أرمنية، الوضع الصعب الذي وصلت إليه الأمور في لبنان، فسافر إلى إسبانيا بحثاً عن حياة كريمة هناك، إلا أنه لم يصمد طويلاً فعاد إلى لبنان، لكن فكرة السفر ما زالت تراوده كل يوم.

يروي جورجيك، لرصيف22، أسباب إصراره على السفر قائلاً: “أنا أفكر في السفر من أجل مستقبلي، إذ في لبنان لا يوجد مستقبل ولا يوجد عمل. قدّمت لجوءاً إلى إسبانيا، ووصلت إلى ملقا (في الجنوب)، وخضعت للتحقيقات هناك لكني لم أستطع البقاء بسبب اللغة، فهم لا يتكلمون الإنكليزية ولا الفرنسية ولا الأرمنية ولا العربية، أي أني كنت مضطراً إلى أن أستعين بمترجم غوغل لأخلّص أموري بالإسبانية. أمام هذا الواقع عدت إلى لبنان، وأنا اليوم أنتظر أي فرصة في الخارج لأسافر وأعمل، فالوضع في لبنان لم يعد يُحتمل”.

ويضيف جورجيك: “لبنان كله يعاني من الأزمة والشعب اللبناني كله يعيش هذه الأزمة بمن فيهم اللبنانيين من أصول أرمنية، لذا الكثير من أصدقائي وأبناء منطقتي يفكرون في السفر كل يوم بحثاً عن واقع أفضل”.

منذ الحرب الأولى

مع اشتداد البطش العثماني في حق القومية الأرمنية، وارتكاب العثمانيين أبشع أنواع الإبادات الجماعية، تهجّر ما تبقّى من الأرمن في مشارق الأرض ومغاربها، ووصل بعضهم إلى لبنان، حاملين معهم إرثاً حضاريّاً ومواهب متعددةً وصناعات وحرفاً ستغني أي أرض يحلّون فيها، وهذا ما حصل في لبنان.

يلفت الوزير السابق من أصول أرمنية، كريم بقرادوني، في حديث إلى رصيف22، إلى أن عدداً قليلاً من الأرمن أتوا إلى لبنان قبل المجازر، لكن بعد الإبادة العثمانية التي قضى فيها مليون ونصف مليون شخص عام 1915، بدأوا هروبهم إلى شتى الاتجاهات والدول، ومنها لبنان حيث استقرّوا بأعداد كبيرة وأصبح وطناً لهم”.

دخل الأرمن الحياة اللبنانية من باب الاقتصاد، وبحسب بقرادوني، فإن العامل الأول يعود إلى أن الأرمن كانوا قوميةً منظمةً وكانوا ينتمون إلى أحزاب، وكانت الأحزاب تشجّع على العمل وإقامة المدارس والمحافظة على اللغة الأرمنية. أما العامل الثاني فهو امتلاكهم المهن، فوجودهم في مخيّمات اللجوء في حلب على سبيل المثال، علّمهم الحِرف والمهن المختلفة، وعندما وصلوا إلى لبنان كان معظمهم من المهنيين، ومن هنا دخلوا سريعاً في الاقتصاد، وازدهرت الصناعة اللبنانية عندما حوّلوا مهنتهم إلى صناعة، فعلى سبيل المثال الكندرجي (مصلح الأحذية)، طوّر مهنته وأصبح يصنع ويبيع الأحذية.

العمل والتطوّر

يقول الباحث الاقتصادي والقانوني في المعهد اللبناني لدراسات السوق، كارابيد فكراجيان، وهو من أصول أرمنية أيضاً، إن “العامل الأساسي هو أنهم أتوا إلى مكان فيه مساحة كبيرة للعمل، ولم يمنعهم أحد من ذلك، ولم تكن هناك قوانين تمنعهم من التملّك أو الاستثمار، لأنهم أتوا إلى لبنان الذي كان جزءاً من السلطنة التي حل بعدها الانتداب الفرنسي، بالإضافة إلى غياب صناديق الرعاية للّاجئين الذين يدفعون اللاجئين إلى عدم العمل والبقاء في أماكن سكنهم”.

يضيف: “كان الأرمن مرغمين على العمل لكي يؤمّنوا لقمة عيشهم، ومن هنا بدأوا بالعمل وتطوير مهنهم في الوقت الذي كانت فيه البيئة اللبنانية مؤاتيةً للعمل والإنتاجية، فالضرائب منخفضة والقوانين التي تعيق العمل قليلة، وتمكّن هؤلاء الأشخاص على الرغم من حاجز اللغة من تطوير أنفسهم واكتساب المعارف العلميّة الواسعة والمتقدمة”.

الحياد المؤقت

لم ينخرط الأرمن في الحياة السياسية اللبنانية، فالتزموا الحياد منذ وصولهم إلى لبنان، وبحسب بقرادوني، كان لدى الأرمن موقف مفاده أنهم لن يتدخلوا في الشؤون السياسة الداخلية في لبنان، فهم مع الدولة أياً كان شكلها، أي أنهم كانوا في عهد رئاسة كميل شمعون، شمعونيين، وعندما تسلم فؤاد شهاب الحكم أصبحوا شهابيين، وهذه كانت قاعدةً حتى عام 1975، أي أنهم كانوا منعزلين عن السياسة اللبنانية، ولم يريدوا أن يكونوا طرفاً في الصراعات الدائرة في لبنان، مع لحظ أنه كان هناك صراع أرمني أرمني بين الأحزاب الأرمنية الموجودة.

عام 1936، فُتِح باب التجنيس في لبنان بوجود الفرنسيين، وبحسب بقرادوني، كان هذا القرار من أجل تجنيس الأرمن، أي أن هذا التاريخ هو نقطة التحول في حياة الأرمن السياسية، فقبله كانوا أرمن لاجئين وبعده ومع الولادات الجديدة في المجتمع الأرمني أصبحوا لبنانيين من أصول أرمنية.

استطاع الأرمن المحافظة على خصوصيتهم لفترات زمنية طويلة، عبر الأندية الكشفية والمدارس الأرمنية والكنيسة ولا ننسى اللغة التي يتوارثونها جيلاً بعد جيل، أضف إلى ذلك سكنهم ضمن نطاق جغرافي محدد وليس على كامل الخريطة اللبنانية. كل هذا منع الانصهار الكامل في المجتمع اللبناني، لكن هذا الأمر لم يعد كما كان في السابق، بل بتنا نشهد فصولاً من الاندماج. وبحسب بقرادوني، الذين وُلدوا في لبنان وذهبوا إلى مدارس غير أرمنية، انخرطوا سريعاً في المجتمع اللبناني انخراطاً كاملاً، ونحن اليوم أمام اندماج كامل وليس أمام انصهار كامل.

إلى السياسة درّ

بما أننا أمام أجيال جديدة وُلدت في لبنان، واندمجت مع المجتمع اللبناني، بتنا نرى لبنانيين من أصول أرمنية خارج الأحزاب الأرمنية التقليدية، وهذا ما لم يكن يحصل في الماضي، أي أن اللبنانيين من أصول أرمنية باتوا يتصرفون كمواطنين لبنانيين بالرغم من المحافظة على بعض الخصوصية، وكان من الضروري دخول المعترك السياسي اللبناني عبر الأحزاب الأرمنية أو الأحزاب اللبنانية الأخرى.

تنبّه النائبة في البرلمان اللبناني من أصول أرمنية، بولا يعقوبيان، في حديث إلى رصيف22، إلى أن الأرمن هم جزء من الشعب اللبناني ومن الطبيعي أن يدخلوا الحياة السياسية، وطبيعي أن يكونوا جزءاً من صناعة القرار، وأن يكونوا مرشحين ومقترعين ومشاركين في الحياة السياسية”.

قول تعليقاً على تجربتها السياسية: “دخلت المعترك السياسي ليس لأني من أصول أرمنية، بل لأنني لبنانية وأعيش تفاصيل تحلّل وانحدار الدولة وكل المشكلات كبقية اللبنانيين، لذلك قررت أن أخطو هذه الخطوة عندما شاهدت كيف أقصت الأحزاب السياسية اللبنانية المعارضة، وتقاسمت الحصص والنفوذ والمكاسب في البلد، حتى أنهم ألغوا فكرة التنافس على عمل الخير لصالح الشعب والوطن، وقرروا أن يتنافسوا أكثر في السرقة، ولهذا أخذت القرار مع المعارضين بالدخول ضد هذه السلطة”.

“الأكثر حزناً في مسلسل الأحزان”

في المقابل، فإن مسلسل هجرة اللبنانيين، سواء أكان شرعيّاً أو غير شرعي، بدأ يظهر بشكل واضح، والأرمن كونهم جزءاً من النسيج اللبناني بدأوا بالهجرة، وهذا ما بيّنته نسب الاقتراع المتدنية في الشارع الأرمني. وفي هذا السياق، تؤكّد يعقوبيان أن “واقع اللبنانيين من أصول أرمنية هو الأكثر حزناً في مسلسل الأحزان اللبنانية، والطائفة الأرمنية تشهد على تراجعها كل أربع سنوات، وهذا يعكس مدى القهر ومحاولات خروج اللبنانيين إلى الخارج، وربما يكون الأرمن أكثرهم”.

تضيف: “الأرمن اليوم في ظل أحزاب قادتهم إلى المجهول وإلى اللا قيادة بطريقة تحابي السلطة السياسية، صنعوا سياسةً ليست فيها منفعة للناس، لكي يبقوا في أرضهم ومدارسهم ووطنهم، فلم يعد أمام الأرمني من سبيل إلا الهجرة كي يعيش في بلد يحترمه”.

بدوره، يلفت فركجيان، إلى أن السبب الذي يدفع بالأرمن إلى الهجرة هو نفسه الذي يدفع ببقية اللبنانيين إلى الهجرة. سنةً بعد سنة بدأت البيئة تختنق وأتت الأزمة الحالية لتدفعهم إلى الهجرة، ولم تعد الظروف مؤاتيةً للاستثمار وتطوير الذات لذا يبحثون عن ذلك في الخارج.

لا شك أن اللبنانيين اعتادوا على السفر والهجرة إلى أصقاع الأرض كافة، لكن هذه العيّنة التي أخذناها من فئة من اللبنانيين والتي بدأت تظهر معالم تقلّصها من نسب الاقتراع والحضور العام، لأن عددها صغير نوعاً ما مقارنةً ببقية الطوائف، لكن الأمر نفسه يحصل مع بقية الطوائف أو البيئات؛ هجرة كبيرة وتراجع في الحضور، في ظل واقع مزرٍ اجتماعياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً، واقع يبدو أنه مستمرّ ويتجه نحو الأسوأ.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع رصيف 22