في ظل الأزمة الاقتصادية المستفحلة والتراجع المخيف للقدرة الشرائية للمواطن اللبناني، لجأت الدولة الى زيادة الرواتب في القطاع العام لثلاثة أضعاف، في حين يتم درس وضع القطاع الخاص، بعدما كان تم سابقاً رفع الحد الأدنى للأجور الى مليونين و600 ألف ليرة، وهو مبلغ قد يكفي لأجار منزل متواضع.
فمنذ أسبوع، أقر مجلس النواب موازنة العام 2022، وقد تم فيها احتساب المداخيل على سعر صرف 15.000 ليرة للدولار الجمركي. وشهدت الموازنة رفع رواتب موظفي القطاع العام بنسبة ثلاثة أضعاف، على أن لا تقل الزيادة عن خمسة ملايين، ولا تتجاوز الـ 12 مليون ليرة.
لا شك بأن هذه الموازنة هي أقل الممكن، وهي ستعترضها صعوبات بالغة، خصوصاً في حال جاءت المداخيل أقل من المتوقع، بفعل عمليات التهريب التي قد تزدهر في حال لم يتخذ قرار سياسي عالي المستوى بالتصدي لها ووقفها نهائياً.
أما زيادة الرواتب، فهنا الكارثة، لأن عدم تأمين المداخيل لها، سيعني اللجوء الى طباعة المزيد من العملات المحلية، وهذا ما سيؤدي بالطبع الى رفع مستوى التضخم في البلاد، وبالتالي، ستعود دوامة الأزمة الاقتصادية والمعيشية الى سابق عهدها، كما حصل عندما تم إقرار سلسلة الرتب الرواتب الشهيرة عام 2017، والتي ساهمت لاحقاً بشكل كبير في اندلاع أكبر أزمة اقتصادية في تاريخ لبنان الحديث.
مزيد من التضخم
وضمن هذا السياق، اتصل موقع “الديار” بالخبير الاقتصادي الدكتور سامي نادر الذي أكد أنه “إذا تم تمويل زيادة الرواتب عبر طبع العملة، فإن هذا الأمر سيؤدي الى مزيد من التضخم، وان ما ستعطيه الدولة في اليد اليمنى، ستأخذه باليد اليسرى، تماماً كما حصل في سلسلة الرتب والرواتب”.
وأضاف نادر: “الزيادة يجب أن تترافق مع الإصلاحات وتخفيف النفقات وتعزيز الإنتاج”.
وعن تأثيرات رفع سعر الدولار الجمركي الى 15 ألفاً، قال نادر: “عندما تزداد الرسوم، فإن الأسعار والتكلفة ستزداد بالطبع، وليس صحيحاً أن بعض الأصناف ستكون معفية، لأن كل شيىء سيرتفع عبر سعر المبيع، والنقطة الأساسية للحل هي رفع الإنتاج”.
وعن وضع القطاع الخاص، أشار نادر الى أن “بعض الشركات بدأت تتأقلم، وقسماً منها يدفع نسبة مئوية بالدولار، علماً أن المداخيل تراجعت 70 في المئة، ومن حافظ على وظيفته بات ينال ثلث راتبه السابق”.
وعن تأثير الدولار الجمركي الجديد على قطاعات الطب والاستشفاء والضمان والصحة، قال نادر: “التأثير سيطال طبعاً هذه القطاعات، لأن لبنان يستورد نحو 90 في المئة من حاجاته من الخارج”.
وختم نادر كاشفاً أن “تثبيت سعر الصرف كان اصطناعياً، وهو لا يستقر إذا لم يستقر ميزان المدفوعات”.
خطوة سيئة
من جهته، أكد مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق الدكتور باتريك مارديني أن “رفع الرواتب هي خطوة سيئة لأن الزيادة التي أقروها، بحسب أرقام الموازنة، توازي عجز الموازنة العامة ككل، وهي غير ممولة رغم زيادة الدولار الجمركي، وبعض الزيادات الأخرى التي لا تغطي كلفة الرواتب الجديدة، وبالتالي فان لا قدرة للدولة على دفع هذه الرواتب، ولا تستطيع الاستدانة من الخارج، لانها تخلفت عن دفع سندات اليوروبوند، ولا تستطيع الاستدانة من المصارف اللبنانية لأن الأخيرة بحاجة أيضاً الى الاستدانة. لذلك لم يعد أمام الدولة سواء خيار اللجوء الى طبع العملة لدفع الرواتب والأجور، وهذا ما سيؤدي الى زيادة الطلب على الدولار، الأمر الذي سيؤدي الى ارتفع سعره، والى انهيار سعر صرف الليرة”.
وعن الدولار الجمركي، كشف مارديني أن “رفع سعر الدولار الجمركي الى 15 ألف سيعمق الركود الاقتصادي، وعندها سيخسر الاقتصاد اللبناني المزيد من الشركات التي تعتمد على الاستيراد والتصدير، الأمر الذي سيؤدي الى ازدياد عمليات صرف عمال وموظفين واقفال شركات”.
وعن قضية الرواتب، أشار مارديني الى أن “رفع الرواتب لا يرتبط مطلقاً بارتفاع سعر الدولار، بل ان الراتب يجب أن يرتبط حصراُ بانتاجية الموظف، فمن ينتج يقبض راتباً مستحقاً، ومن لا ينتج لا يجب أن يقبض راتبه، وحتى يجب أن يتم تسريحه من عمله. واليوم يجب وضع إعادة هيكلة للقطاع العام، وانا أرى أن رقم مئة موظف في هذا القطاع هو كثير بالنسبة لحاجة الدولة اللبنانية، فكيف برقم 300 ألف موظف كما هو موجود حالياً.
وعن تأثير رفع سعر الدولار الجمركي على القطاعات الصحية والطبية والضمان والتأمين، اكد مارديني أن هذه القطاعات ستتأثر بالطبع، لأنها تعتمد على استيراد المواد الطبية من الخارج، والتي سيرتفع سعرها بالطبع عند زيادة سعر الدولار الجمركي.
خطوة إلى الوراء
إذن، يبدو أن خطوة الحكومة برفع الرواتب وزيادة الدولار الجمركي ستعيد لبنان الى الوراء، والغريب في الأمر هو التهرب الواضح من إقرار الإصلاحات الضرورية وتنظيم القطاع العام، وهذا الموضوع هو من أهم بنود الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وهو أمر طبيعي تلجأ إليه أي دولة تعاني اقتصادياً ومالياً، قبل الحديث عن أي زيادة في الرواتب.