وسع قانون الشراء العام الجديد الذي دخل حيز التنفيذ بتاريخ ٢٩-٠٧-٢٠٢٢ نطاق عمل السطلة الرقابية التي تغير اسمها من إدارة المنقصات الى هيئة الشراء العام، وأصبحت رقابتها تشمل أيّ شخص من أشخاص القانون العام ينفق مالاً عاماً. ولعل أبرز ثغرات هذا القانون، هو تجريد السلطة الرقابية من القدرة على الغاء المناقصة المخالفة للقانون ما وسع من صلاحيات الجهة الشارية بدل وضع الضوابط والتوازنات عليها. واليوم مع بدء تطبيق هذا القانون، ظهرت ثغرات على مستوى البلديات لأن القانون اقتبس بشكل أساسي نصوص من تشريعات عالمية واغفل واقع الإدارة اللبنانية.
- عدم قدرة البلديات على تأليف لجان التلزيم والاستلام
نصت الفقرة الثانية من البند (أولًا) من المادة ١٠٠ والفقرة الأولى من البند (أولًا) من المادة ١٠١ من قانون الشراء العام على ان الموظفين المقترحين للجان التلزيم والاستلام هم من الفئة الثالثة على الأقل لدى الجهات الشارية. ونصت على ان ترسل هيئة الشراء العام اللوائح الموحدة المكونة من موظفي الجهات الشارية من الفئة الثالثة على الأقل الى هيئة التفتيش المركزي، الهيئة العليا للتأديب وديوان المحاسبة للتقصي عن الأسماء المقترحة وبيان المخالفات المنسوبة إليهم لتقوم هيئة الشراء العام بتنقيحها عن طريق شطب أسماء الملاحقين والمعاقبين، لوضع اللوائح الموحدة بتصرف الجهات الشارية لاستعمالها في تكوين لجان التلزيم وفقًا لأحكام الفقرة (3) من المادة ١٠٠ ولجان الاستلام وفقا لأحكام الفقرة (2) من المادة ١٠١ من قانون الشراء العام.
ان التطبيق العملي لهذا النص في موضوع تأليف لجان التلزيم والاستلام يواجه استحالة عملية بالنسبة لبعض الجهات الشارية، دلت عليها الكتب الواردة الى هيئة الشراء العام من معظم البلديات واتحاداتها، وهي تراوحت بين استحالة مطلقة في التطبيق، وبين ارسال عدد محدود من الأسماء من الفئة الثالثة غير كافٍ لتأليف اللجان للقيام بالمهمات المطلوبة لدى الجهات الشارية.
جرت اول محاولة لحل هذه الإشكالية بإيراد نص في قانون موازنة العام ٢٠٢٢ يجيز تعيين لجان الاستلام في البلديات واتحاداتها من موظفين ومتعاقدين من دون الفئة الثالثة، إذا كان عدد موظفي الفئة الثالثة ومتعاقديها ليس كافيا، وإذا لم يكن عدد الموظفين والمتعاقدين كافيا يجاز التعيين من أعضاء المجلس البدي، هذه المحاولة سقطت مع ابطال المجلس الدستوري للمادة ١١٩ من قانون الموازنة العامة لعام ٢٠٢٢، التي تضمنت هذه الامكانية، باعتبارها من فرسان الموازنة وتخالف مبدأ سنويتها، فعادت الأمور الى النقطة صفر.
- الشراء بالفاتورة يعيق عمل البلديات
وأهمل قانون الشراء العام حالتي التعرفة الرسمية التي يتعذر الحصول على سعر أدنى منها وحالة استئجار اليات اشغال عامة بموجب تعرفة عامة تحدد بقرار من الوزير المختص، كما أغفل البيان كطريقة شراء بديل حين يتعذر تأمين الفاتورة. لذلك، تواجه البلديات واتحاداتها مشاكل في تطبيق قانون الشراء العام مسألة العمال المياومين والشراء بالفاتورة اذ نصت المادة ٤٧ من قانون الشراء العام على شروط الشراء بالفاتورة وفقا لما يلي: يجوز للجهة الشارية أن تقوم بالشراء بالفاتورة وِفقاً للبند السادس من هذا الفصل، إذا كانت القيمة المقدَّرة لمشروع الشراء، بما فيه الخدمات الاستشارية، لا تتجاوز سقفاً مالياً محدَّداً بمئة //100// مليون ليرة لبنانية. يُعدَّل هذا السقف المالي بناءً على توصية من هيئة الشراء العام وبموجب مرسوم يُتَّخذ في مجلس الوزراء بناءً على اقتراح رئيسه، على ألّا يؤدي التعديل إلى مخالفة أهداف هذه المادة والمبادئ التي كرّسها هذا القانون.
نصت المادة ٦٠ بعنوان الدعوة إلى الشراء بالفاتورة على ما يلي:
- عند تطبيق هذه الطريقة وفقاً لأحكام المادة 47 من هذا القانون، تَطلب الجهة الشارية عروض الأسعار من أكبر عدد ممكن عملياً من المورِّدين أو المقاولين، على ألاَّ يقلّ عددهم عن عرضَين.
- يُسمح لكل عارض بأن يقدِّم عرض أسعار واحداً فقط، ولا يُسمح له بتغيير عرضه. ولا تُجرى مفاوضات بين الجهة الشارية وأيّ عارض بشأن عرض الأسعار الذي قدّمه.
كما نصت المادة ٦١، بعنوان العرض الفائز بالشراء بالفاتورة، على ما يلي: يكون عرض الأسعار الفائز هو العرض الأدنى سعراً الذي يفي باحتياجات الجهة الشارية كما هو محدَّد في طلب عروض الأسعار.
من الواضح ان المشرع في قانون الشراء العام تعاطى مع الشراء بالفاتورة على انه طلب عروض أسعار مصغر، لا يوضع له دفتر شروط خاص، وتكون العتبة التي تجيزه مئة مليون ليرة وما دون بدلا من مليار ليرة وما دون، ويكون الحد الادنى للعروض المطلوبة اثنين بدلا من ثلاثة.
بالمقارنة مع النص السابق للشراء بالفاتورة الوارد في المادة ١٥١ الملغاة من قانون المحاسبة العمومية، يتبين لنا ان قانون الشراء العام حصر حالات الشراء بالفاتورة بالمشتريات التي تقل قيمتها عن او تساوي عتبة مالية حددت بمئة مليون ليرة، وأهمل حالات التعرفة الرسمية والبيان كطريقة شراء بديل حين يتعذر تأمين الفاتورة.اظهر الواقع العملي ان النص المعتمد في قانون المحاسبة العمومية يتلاءم أكثر مع حاجات البلديات واتحاداتها، من النص المعتمد في قانون الشراء العام، سيما لناحية:
- الحاجة الى البيان بخصوص بعض النفقات النثرية، ومنها التنظيفات وبعض الخدمات التي يؤديها افراد لا يملكون حق اصدار فاتورة.
- استحالة الحصول على عرضين بالنسبة لمشتريات تؤديها إدارات رسمية مثل الهاتف، الكهرباء والبريد او لا يملكها الا مورد واحد، مثل دواء بتركيبة علمية واحدة، وباسم تجاري واحد.
- قد تكون تكلفة الحصول على العرض الثاني اعلى من تكلفة الخدمة المؤداة او اللوازم المشتراة او الاشغال المنفذة مثل حالة تصليح سيارة البلدية او الاتحاد في مرآب وحيد موجود في النطاق البلدية او شراء المحروقات او غسيل السيارات من محطة وحيدة موجودة في النطاق البلدي.
- الحاجة في ظل الظروف الاستثنائية الراهنة، التي يتعذر معها اجراء مناقصة للحصول على سعر أدنى من التعرفة الرسمية، الى شراء المحروقات بكاملها بالفاتورة دون الاضطرار الى التجزئة.
- لجوء الجهات الشارية مرغمة الى التجزئة في مشتريات محددة اسعارها في تعرفة صادرة عن الادارة او هيئة دولية معترف بها ويتعذر الحصول على سعر أدنى لها. كذلك فيما يتعلق باستئجار اليات اشغال عامة بموجب تعرفة عامة تحدد بقرار من الوزير المختص.
جرت محاولة للحد من هذه المشاكل جزئيا بموجب المادة ١١٩ من قانون موازنة العام ٢٠٢٢ التي اجازت الشراء بموجب بيان عند تعذر الحصول على فاتورة، والاكتفاء بعرض واحد عند تعذر الحصول على عرضين، هذا الحل الجزئي سقط مع ابطال المجلس الدستوري للمادة ١١٩ المذكورة سابقا وعادت الأمور الى النقطة صفر من جديد.
- إشكالية إزالة الاضرار الناجمة عن العواصف الطبيعية ومعالجة النفايات المتراكمة:
كما تواجه البلديات واتحاداتها مشكلة ضرورة التحرك بسرعة فيما خص إزالة الاضرار الناجمة عن العواصف الطبيعية ومعالجة النفايات المتراكمة والتي لعدم معالجتها انعكاسات خطيرة على البيئة وصحة الانسان، وهذه الحالات لم يلحظها قانون الشراء العام عند صياغة المادة ٤٦ منه المتعلقة بالحالات التي يجوز معها التعاقد بالتراضي، لان قانون الشراء العام وضع ليطبق في ظروف طبيعية يمكن معها التعاقد بطريقة المناقصة العمومية بخصوص نقل ومعالجة النفايات، والتعاقد المسبق بطريقة الاتفاق الاطاري فيما خص الكوارث الطبيعية وتنظيف مجاري المياه. كما ان قانون الشراء العام قد ألغى الفقرة ٨ من المادة ١٤٧ من قانون المحاسبة العمومية والنص المماثل لها في المرسوم رقم ٥٥٩٥ المتعلق بأصول المحاسبة في البلديات غير الخاضعة لقانون المحاسبة العمومية، والتي كانت تجيز التعاقد بالتراضي فيما يتعلق باللوازم والاشغال والخدمات التي اجريت من اجلها، مناقصتان متتاليتان، او استدراج عروض على مرتين متتاليتين، او مناقصة تلاها استدراج عروض. وذلك دون ان تسفر هذه العمليات عن نتيجة ايجابية.
كان هاجس المشرع عند وضع قانون الشراء العام الحد ما أمكن من حالات اللجوء الى الشراء بالتراضي لاقترانها في معظمها بحالات فساد، فكان ان الغيت حالة التراضي المعبر عنها في المادة ١٤٧ فقرة ٨، لأنه غالبا ما كان يساء استخدامها بوضع شروط تعجيزية لإفشال المناقصة ثم التعاقد بالتراضي وفقا لمشيئة المرجع الصالح للعقد. ولكن الواقع اليوم مخلف تماما ففشل المناقصات ناتج عن ان البلديات واتحاداتها تدفع بالليرة اللبنانية، ومع الانهيار المريع في قيمة العملة الوطنية لم يعد يوجد عارض يلتزم بسعره المقدم في هذه العملة لأربع وعشرين ساعة علما ان مدة صلاحية العرض وفقا لأحكام قانون الشراء العام يجب ان لا تقل عن ثلاثين يوما من اخر موعد لتقديم العروض.
مما لا شك فيه، في ضوء ما تقدم، ان الحاجة ملحة لاجراء تعديلات تقنية على قانون الشراء العام ليصبح ممكنا تطبيقه على البلديات واتحاداتها سيما في هذه الظروف الاستثنائية الصعبة، فالشكل اهم من الجوهر، وتشكيل لجان التلزيم والاستلام من موظفين او متعاقدين من الفئة الثالثة او الرابعة او من أعضاء من المجلس البلدي امر تقني لا يجب التوقف عنده طالما ان تأليف اللجان قائم على معايير الحيادية والكفاءة والاختصاص، وشراء المحروقات بالفاتورة الواحدة او عشرة فواتير او مناقصة غير مهم طالما انه لا يمكن التخفيض لقرش واحد عن التعرفة الرسمية، وإزالة اضرار العواصف والنفايات من الشوارع لا يحتمل اجراء مناقصات من الثابت انها لن تكون مجدية.
بانتظار التعديلات التقنية التي يجب ان لا تمس جوهر القانون يفترض بهيئة الشراء العام والتفتيش المركزي وديوان المحاسبة والقائمقامين والمحافظين والمراقبين العامين لدى البلديات ان يتفهموا ان الظروف الاستثنائية تخلق شرعية استثنائية، وان فاتورة العرض الوحيد من المرآب الوحيد في البلدية ليست هي من أفقر خزينة الدولة وبدد مليارات الدولارات من الاحتياطي الالزامي.
قد يتأخر التعديل لتأخر التشريع، اذ برأي عدة كتل نيابية ان المجلس النيابي لا يمكنه التشريع قبل انتخاب رئيس الجمهورية، لذلك يجب على سلطة الوصاية والجهات الرقابية المبادرة الى اتخاذ إجراءات سريعة واستثنائية تحول دون شل العمل البلدي ودون الخروج عن دائرة تطبيق قانون الشراء العام لان التعديل التشريعي قد لا يكون سهلا حتى عند استئناف مجلس النواب لدوره التشريعي، اذ سيحاول البعض اغتنام الفرصة لضرب الركائز التي يقوم عليها قانون الشراء العام والمتمثلة بالشفافية، العلنية، المنافسة، المساواة ، الشمولية، تكافؤ الفرص والقيمة مقابل المال المنفق.