بتاريخ ١٨ تشرين الأول ٢٠٢٢ أعلنت وزارة الاتصالات عن مزايدة لتلزيم الخدمات والمنتوجات البريدية لمدة تسع سنوات على ان يتم فض العروض بتاريخ ٢٤ -٠١-٢٠٢٣، وقبل الموعد المحدد بحوالي أسبوع تم الإعلان من قبل الوزارة عن تمديد الموعد الى يوم ١٦-٠١-٢٠٢٣ الساعة العاشرة صباحا إفساحًا في المجال أمام المزيد من المنافسة كما ورد في إعلان التمديد. هذه المزايدة تهدف الى:
- تشغيل القطاع البريدي في لبنان.
- تشغيل الخدمات والمنتجات البريدية بطريقة مربِحة تكفل رضا المستخدمين والمنظم من ناحية مستوى الخدمات وجودة المنتجات.
- تنفيذ الخدمات والمنتجات البريدية بطريقة تسمح بأن يبقى القطاع شاغلا بالكامل عند انتهاء فترة الالتزام.
- تطوير الخدمات والمنتجات البريدية وغير البريدية بشكل مطابق للمعايير التنظيمية المحلية والدولية بما فيه التعليمات البريدية في لبنان.
- تحقيق اقصى فوائد ممكنة للاقتصاد اللبناني من خلال زيادة فرص الاستثمار وفرص التوظيف المستدام وجعل القطاع أكثر قدرةً على المنافسة، بالإضافة الى استقطاب خدمات ومنتجات جديدة وفقًا لما هو قائم على المستوى المحلي والعالمي.
- تطوير الخدمات بالتزامن مع التقدم التكنولوجي وابتكار خدمات الكترونية جذابة.
هذه هي الأهداف المعلنة، لكن السؤال الكبير كيف تم تحديد هذه الأهداف وما هي فرص ادراكها، ولم يسبق اجراء المزايدة أي دراسة جدوى مالية او اقتصادية او أي دراسة عن التطور الرقمي في هذا المجال، انما تحددت شروطها بطريقة سد الثغرات في العقد الحالي، ولم يتم الاطلاع على بيانات مالية مدققة للمستثمر ولا احتساب نسبة أرباحه الى مجمل إيراداته ليتم تحديد حصة الدولة من الأرباح بالطريقة التي حددت بها. صحيح ان ال١٠٪ بالمائة كحصة للدولة على مجمل الإيرادات أفضل من ال٥٪ على جزء منها. لكن بالمقابل يطرح السؤال لماذا لم تحدد حصة الدولة مثلا ب١٥٪ من مجمل الإيرادات هل كان ذلك سيؤدي الى وقوع المشغل في خسارة، ام ان أرباحه كانت ستكون ضمن المعقول لم تجر أي دراسة مالية تثبت أي فرضية من الفرضيتين صحيحة.
بالفعل جرت المزايدة بتاريخ ١٦-٠١-٢٠٢٣ بحضور مندوب عن هيئة الشراء العام، بالاستناد الى دفتر شروط خاص يتصف، عن التلزيم الحالي القائم اعتبارا من تسعينيات القرن الماضي بالمزايا التالية:
- شمول حصة الدولة جميع الإيرادات التي تحققها الشركة من إيرادات من خدمات بريدية حصرية وايرادات من خدمات غير بريدية وغير حصرية.
- رفع الحد الأدنى لحصة الدولة من الإيرادات من ٥٪ الى ١٠٪ تتصاعد سنويا.
- تسديد الشركة ايجارات المباني للوزارة على أساس سعر صيرفة بدل السعر الرسمي.
- خضوع حسابات الشركة لتدقيق مالي مستقل.
- تسديد الملتزم مبلغ كفالة التنفيذ نقدا ومقدارها مليوني دولار أميركي.
لكن مفاجأة المزايدة في لحظاتها الأخيرة كانت انه لم يتقدم أي عارض رغم ان ٤ شركات كانت قد استلمت دفتر الشروط وسددت ثمنه. هنا يطرح السؤال لماذا لم تقدم الشركة المشغلة حاليا للقطاع اي عرض للاشتراك في هذه المزايدة؟
لا شك ان الشركة تستوفي كل الشروط التقنية المطلوبة كونها المشغل على مدى عقود من الزمن، طبعا اذ لم يصدر أي قرار يبت بالنزاع عن مجلس شورى الدولة فتمنع عنده مشاركتها اذا اقتضى الامر. تبقى مسألة براءة الذمة المعبر عنها بالملحق رقم ٣-١ من دفتر الشروط الخاص بالمزايدة والتي تشمل المستحقات الضريبية وغير الضريبية لصالح الدولة اللبنانية. بالنسبة للمستحقات الضريبية تقدمت ليبان بوست بتصاريح ضريبة الدخل وسددت الضرائب المتوجبة عن نتائج أعمالها عن السنوات 2016 لغاية 2021 ضمناً كما يتبن من إفادة وزارة المالية المعطاة لها بهذا الخصوص. اما بالنسبة للمستحقات غير الضريبية يبدو ان وزير الاتصالات رفض توقيع براءة الذمة، وهو يبرر موقفه بان دفتر الشروط لا يتطلب براءة ذمة غير براءة الذمة من الضرائب والرسوم. ويتردد ان الشركة رفضت وجهة نظر الوزير انطلاقا من قراءة محاميها لدفتر الشروط الخاص بالمزايدة وهي رفضت ان تخاطر وتخوض غمار المزايدة مع أخطار عالية برفض طلبها لعدم انطباقه على احكام دفتر الشروط الخاص بالصفقة.
ثمة وجهة نظر مغايرة تقول بان الشركة كانت واثقة بان طلبها سيقبل، وان الوزير كان يحضر للتعاقد معها كعارض وحيد مقبول مستندا الى الفقرة الرابعة من المادة ٢٥ من قانون الشراء العام التي تنص على ما يلي:
تُلغي الجهة الشارية الشراء و/أو أيّ من إجراءاته في حالة العرض الوحيد المقبول، غير أنه يحقّ لها اتّخاذ قرار معلَّل بالتعاقد مع مقدِّم العرض الوحيد المقبول إذا توافرت الشروط التالية مجتمعة:
- 1- أن تكون مبادئ وأحكام هذا القانون مُطبَّقة وألا يكون العرض الوحيد ناتجاً عن شروط حصرية تَضمَّنَها دفتر الشروط الخاص بمشروع الشراء؛
- 2- أن تكون الحاجة أساسية ومُلِحّة والسعر مُنسَجِماً مع دراسة القيمة التقديرية؛
- 3- أن يتضمَّن نَشر قرار الجهة الشارية بقبول العرض الفائز (التلزيم المؤقت) نصّاً صريحاً بِتقدُّم العارض الوحيد المقبول ونيّة التعاقُد معه.
بالنسبة للشرط الأول واضح ان دفتر الشروط لم يكن مفصلا على المقاس، فبمراجعة معايير التأهيل يتبين انها قائمة على نظام النقاط وأنها لا تستبعد أي عارض، والدليل عدم تقدم أي شركة من الشركات الأربع التي حصلت على دفتر الشروط الخاص بالمزايدة باعتراض امام الجهة الشارية او امام هيئة الشراء العام بهذا الخصوص.
فيما يتعلق بالشرط الثاني، هل تبدو الحاجة ملحة وضرورية هنا يطرح سؤالان، الأول هل ان الدولة قادرة في ظل الوضع الإداري الحالي على إدارة القطاع، هذا السؤال أجاب عليه وزير الاتصالات، امام الاعلام، بالقول لا مقدرة لدينا على استرداد القطاع. السؤال الثاني هل ان سعر العارض اتى منسجما مع القيمة التقديرية واستطرادا هل ان القيمة التقديرية هي نتيجة دراسة جدوى اقتصادية وضعتها الوزارة ام انها احتسبت على قاعدة الكحل أفضل من العمى.
بالنسبة للشرط الثالث فانه شكلي يرجح ان تلتزم به الجهة الشارية في مسار التعاقد مع العرض الوحيد المقبول متى توافرت ظروف مثل هذا التعاقد.
يتكرر السؤال، لماذا لم تشترك لبان بوست بالمزايدة مع ترجيح فرضية التعاقد مها كعارض وحيد مقبول؟
الشركة تدلي في هذا الصدد بالحملة التي استهدفتها كما تقول عبر الاعلام، وهي تعتبر وفقا لمصادرها ان اشتراكها في المزايدة كان سيرتب عليها، في حال التعاقد معها، موجبات مالية غير قادرة على تلبيتها من أهمها تسديد مبلغ لا يقل عن ١٠٪ من مجمل إيراداتها البريدية وغير البريدية لخزينة الدولة بدل ٥٪ فقط عن الإيرادات البريدية ودفع بدلات المباني المستأجرة من الدولة بسعر صيرفة بدل السعر الرسمي للدولار وتسديد دفع بدل تأمين نقدي لا يقل عن مليوني دولار أميركي، بالإضافة الى ارتباطها باستثمار لمدة ٩ سنوات في بلد يعيش ظروفًا اقتصادية وسياسية متقلبة وغير مستقرة وفي ظل تدني سعر العملة الوطنية وما سيترتب عليه من ضعف للمقدرة الشرائية للمواطنين والجهات المستفيدة من خدماتها.
هل هذا يعني ان ليبان بوست انسحبت من الحلبة بالكامل وتركت قطاع البريد بعد ٢٣ سنة من تشغيله الحصري من قبلها؟ بالتأكيد يُجيب عارفون بلا، الشركة لعبتها بذكاء فهي تعرف ان الدولة محكومة في تسيير اعمالها بمبدأ استمرارية المرفق العام، وان هذه الدولة غير القادرة اليوم بالذات على استرداد القطاع وادارته ستطلب من الشركة التفاوض معها على تمديد العقد وان الشركة واثقة بان تكلفة التمديد عليها ستكون اقل وقعا من تكلفة التقيد بشروط العقد الجديد.
باختصار طارت المزايدة وعادت أمور البريد الى النقطة الصفر، فرصة استثمار جديدة وضخ أموال للخزينة تبددت وكان قدر المال العام ان ينقص باستمرار من دون ان يزيد ولو مرة واحدة.