شكّل استقدام بواخر النفط لمعامل إنتاج الكهرباء قبل فتح الاعتمادات نقطة سوداء في سجل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الطاقة. ولم يشذّ الوزير “التكنوقراط” وليد فياض عن هذا النمط المتبع منذ التسعينيات والذي استشرس بوقاحته في العقدين الأخيرين ليصبح “على عينك يا دولة”.
ولم تعنِ للوزير فياض شيئاً “فضيحة” مراكمة ٣ ملايين دولار من الغرامات على الخزينة مطلع هذا العام؛ فقط لأنه قرر التعاقد على شراء بواخر النفط خلافاً لأحكام قانون الشراء العام والمحاسبة العمومية، فكان اللبنانيون المحرومون من القمح وأدوية السرطان والأمراض المستعصية يشاهدون بأم العين “عداد” الغرامات يسجل ٣٦ ألف دولار يوميا مما تبقى من حساباتهم في مصرف لبنان في حساب سماسرة السفن ومالكيها، حتى وصل هذا الرقم إلى ٣ ملايين دولار.
قالوا: “لو كان الوزير يعلم”، ومسحوا الخسائر في “ذقن” المناكفات السياسية وعرقلة فريق وزير المالية عمل وزير الطاقة المحسوب على الفريق المضاد، وتحملت الأعباء الخزينة بدلا من أن يتحملها الوزير شخصيا من ماله الخاص كما تنص المادة ١١٢ من قانون المحاسبة العمومية. إلا أن الخطأ تكرر؛ وعلى حد قول الكاتب والروائي باولو كويلو، فإنه “حين تُكرر ارتكاب خطأ ما، فلن يصبح خطأً بعد ذلك: إنه قرار واختيار”. فقبل أن يجف حبر القرار الذي لملم فضيحة رسو باخرتي نفط قبالة الشواطئ اللبنانية لمدة ثلاثة أشهر من فتح الاعتمادات، قرر الوزير التكنوقراط استقدام باخرة فيول دون أن يؤمن فتح الاعتماد؛ فوصلت بواخر النفط وبدأ عداد الغرامات يسجل ١٨ ألف دولار يوميا على حساب الخزينة. يأتي ذلك مع العلم بأن لا وجود لحالة اضطرارية وأن مخزون الفيول في المعامل لم ينفد بعد؛ وأبعد من ذلك أن الوزير أكثر من يعلم بتغيير آلية التعامل في مصرف لبنان ابتداءً من الأول من آب مع استلام النائب الأول مهام الحاكمية والإصرار على عدم تحويل المبالغ المجبية من الكهرباء إلى الدولار أو حتى تحويل السلفات بالليرة إلى دولار. ومع ذلك، فقد تقصد الوزير التعاقد مع شركة نفط واستقدام بواخر النفط والبدء في تسجيل الغرامات. وكما حُلَّت المشكلة في المرة الأولى تُحَلّ في الثانية، و”صحتين” على من استفاد من العمولات.
هذا “النمط” من الإدارة في وزارة الطاقة المبني على سوء النية وعقلية الصفقات “المتفلتة” من الرقابة العمومية السابقة واللاحقة يطرح السؤال حول إمكانية مواصلة الوزارة فرض وصايتها على أكثر القطاعات حاجة للنمو والازدهار. فالإصلاح من الداخل قد يكون شبه مستحيل، وكما يقول المثل الشامي، “ذنب الكلب أعوج ولو وضعوه في القالب ٤٠ سنة”، لم يعد التقويم ينفع في ظل الحجم الهائل للاعوجاج في إدارة قطاع الطاقة المتصلب بمرور السنوات. ويتطلب هذا القطاع بالتالي تغيير النهج بالكامل وفتح المبادرات الجديدة والجدية أمام القطاع الخاص لتأمين أوسع مشاركة لامركزية في إنتاج الكهرباء ونقلها وتوزيعها ومبادرات تقوم على تعاون القطاع الخاص مع السلطات المحلية اللامركزية المتمثلة في البلديات. ولعلّ تجربة بلدية “تولا” خير نموذج على فرص نجاح التعاون بين القطاع الخاص والبلديات في إنتاج الكهرباء بكلفة زهيدة وفعالية عالية. فهل من يرى ويتعظ قبل فوات الأوان؟! وفيما يلي ملخص عما جرى مؤخراً مع ما تحملته إدارة وزارة الطاقة من مخاطر على الأمن الطاقوي والمال العام والاستقرار النقدي.
تكرار المخالفات بات مقصوداً
لم ينس اللبنانيون بعد قصة عقود تأمين الفيول أويل بنوعيه (أ) و (ب) والغاز أويل التي وقعها وزير الطاقة والمياه خلافا لأحكام قانون الشراء العام وقانون المحاسبة العمومية دون تأمين مصدر التمويل لها، والتي رتبت على الخزينة اللبنانية لغاية شهر أيار ٢٠٢٣ ما لا يقل عن ثلاثة ملايين دولار أميركي. وقد أصدرت يومها هيئة الشراء العام التقرير رقم (١) /ه. ش. ع/ ٢٠٢٣ تاريخ ٠٩-٠١-٢٠٢٣، الذي حدد بشكل واضح المسؤولية المترتبة على الوزير بأمواله الخاصة سنداً لأحكام المادة ١١٢ من قانون المحاسبة العمومية. وقد حاول الوزير، خلال حضوره اجتماع لجنة الطاقة والمياه النيابية الخاص بموضوع هذه الغرامات، إلقاء المسؤولية على رئيس مجلس الوزراء من خلال وعود يقول إنه تلقاها منه بتأمين التمويل عبر فتح اعتماد مستندي في مصرف لبنان. إلا أن تقرير هيئة الشراء العام كان قد أشار بوضوح إلى أن مجلس الوزراء لا يستطيع وفقا لأحكام المادة ٧٠ من قانون المحاسبة العمومية الموافقة على عقد نفقة سبق لمراقب عقد النفقات أن رفض التأشير عليه لعدم توفر الاعتماد المرصود له أو كفايته.
لا محاسبة ولا مساءلة
على الرغم من أن تقرير هيئة الشراء العام قد أُبلِغ إلى مجلس النواب ورئاسة مجلس الوزراء والمديرية العامة لرئاسة الجمهورية وديوان المحاسبة والتفتيش المركزي ونُشر على موقع الهيئة الإلكتروني، لم تساءل أية جهة برلمانية أو رقابية الوزير أو أي موظف أو مستشار ممن حضّروا له العقود المخالفة للقانون لتوقيعها؛ ومرت المخالفات الرئيسية الثلاث التي تضمنها التقرير على قاعدة “عفا الله عن وزير تسبب لشعبه بدفع الملايين من الغرامات وعن موظفين ومستشارين ما عرفوا يوماً أن يقولوا “لا” لوزير”. وحيث كانت هذه المخالفات تصيب المالية العامة والقوانين الرقابية في العمق، نعود ونذكر بها مختصرة :
أبرز المخالفات القديمة والجديدة
- توقيع عقود شراء كميات من الفيول أويل من النوعين (أ) و(ب)، والغاز أويل دون عرضها على تأشير مراقب عقد النفقات، خلافاً لأحكام المادة ٦١ من قانون المحاسبة العمومية.
- توقيع عقود شراء كميات من الفيول أويل من النوعين (أ) و(ب)، والغاز أويل وتنفيذها دون عرضها على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة خلافا لأحكام قانون تنظيمه.
- توقيع هذه العقود دون توفر مصدر التمويل، مع تضمينها بنوداً تغرم الدولة اللبنانية في حال عدم فتح الاعتمادات المستندية قبل تفريغ البواخر.
- إعطاء الأوامر ل باخرة فيول الانطلاق دون فتح الاعتمادات المستندية اللازمة.
وبطبيعة الحال، لم يُحاسَب الوزير لأنه “رجل آدمي خدعه رئيس الحكومة” كما قال بعض من دافع عنه. ولم يُحاسَب أزلام وزير الطاقة الأصيل الذين حضّروا العقود، لأن الجميع بحاجة في السياسة إلى رضاه، و”أكلت” الخزينة اللبنانية “الضرب” بما لا يقل عن ٣ ملايين دولار أميركي لغاية ٤ أيار ٢٠٢٣ لم يصدر حتى اليوم عن وزارة الطاقة أي توضيح بشأنها.
وحيث كانت نتيجة التساهل في المخالفات وعدم المحاسبة هي ازدياد هذه المخالفات ونموها وتماديها مع مرور الوقت، عادت المسألة ذاتها وتفاقمت في موضوع شراء كميات من الفيول أويل من النوعين (أ) و(ب)، والغاز أويل لزوم مؤسسة كهرباء لبنان لشهري آب وأيلول ٢٠٢٣، حيث وقع وزير الطاقة والمياه عقدين على أقل تقدير منذ حوالي أسبوع واستقدم بواخر النفط إلى السواحل اللبنانية “لجني الغرامات” التي باتت تتصاعد يوميا بمعدل ١٨ ألف دولار أميركي عن بواخر النفط ، والمستقبل “واعد”. وفي هذه المرة، يمكننا الجزم بأن المخالفات القانونية لا تعد ولا تحصى، خصوصاً لناحية:
- تخفيض مدة الإعلان عن المناقصات من ٢١ إلى ١٥ يوماً خارج حالة الضرورة. فلا الكميات الموجودة في مخزون كهرباء لبنان أوشكت على النفاد بتاريخ الإعلان عن المناقصات، ولا الاعتمادات المالية كانت قد فُتِحت في هذا التاريخ.
- التعاقد مع مقدم العرض الوحيد دون توفر الاعتمادات وخارج حالات الضرورة والإلحاح، أي خارج الشروط المنصوص عليها في الفقرة الرابعة من المادة ٢٥ من قانون الشراء العام.
- توقيع عقود شراء كميات من الفيول أويل من النوعين (أ) و(ب)، والغاز أويل دون عرضها على تأشير مراقب عقد النفقات خلافا لأحكام المادة ٦١ من قانون المحاسبة العمومية.
- توقيع عقود شراء كميات من الفيول أويل من النوعين (أ) و(ب)، والغاز أويل ووضعها موضع التنفيذ دون عرضها على رقابة ديوان المحاسبة المسبقة خلافا لأحكام قانون تنظيمه.
- توقيع هذه العقود دون توفر مصدر التمويل، مع تضمنيها بنود تغرم الدولة اللبنانية في حال عدم فتح الاعتمادات المستندية قبل تفريغ البواخر.
- إعطاء الأوامر بانطلاق شحنة على الأقل على الرغم من عدم فتح الاعتمادات المستندية.
السداد من حقوق السحب الخاصة؟
هي نتيجة التراخي والإهمال في الرقابة على المال العام. فهل من نائب مستعد لأن يفتح هذا الموضوع مجدداً أمام البرلمان للمساءلة والمحاسبة أم أنّ قدر المواطن اللبناني هو أن يدفع دائماً من جيبه الخاص غراماتٍ وأعباءً مالية؟ لا حل خارج إطار التوافق السياسي كما حُلَّت أزمة توقف شركة “برايم ساوث” عن تشغيل معملي توليد الطاقة الرئيسيين في “دير عمار” و”الزهراني” اللذين يوفران حوالي 550 ميغاواط من الطاقة، بتعهد من رئيس حكومة تصريف الأعمال بدفع 7 ملايين دولار من حقوق السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي “SDR” على شكل مستحقات للشركة مقابل تشغيل المعملين فورى، وذلك بعد رفض حاكم مصرف لبنان بالإنابة وسيم منصوري الدفع من أموال الاحتياط الإلزامي.
والسؤال للوزير ودولة الرئيس: متى توافقان؟ هل ستسدد الغرامات المالية الناتجة عن مخالفات وزير الطاقة والمياه التي تجاوزت ٣ ملايين دولار حتى تاريخ ٤ أيلول وهي آخذة في التصاعد من حقوق السحب الخاصة؟ وهل سيبلغ صندوق النقد الدولي بعمليات السداد هذه وبمبرراتها وأسبابها وصلتها بإدارة المرفق العام؟
هل سيؤدي نقص السيولة وعجز الدولة عن دفع مستحقاتها ومخالفات وزير الطاقة والمستشارين والموظفين في وزارته العتيّة على المساءلة البرلمانية، كما القضائية والإدارية، إلى إغراق لبنان مجدداً في العتمة المطلقة ويتوقف مجدداً تزويد مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت بالتغذية الكهربائية لينتقل للعمل على المولدات الخاصة به حتى نفاد مادة المازوت لديه؟ هل سيتم ذلك أم أن المخالفين سيقلعون عن مخالفاتهم ويتم التفاهم مع مصرف لبنان على آلية تحول فيها أموال كهرباء لبنان المجبية بالليرة اللبنانية إلى الدولار الأميركي وتفتح بها الاعتمادات اللازمة قبل توقيع العقود؟ وهل سيتوقف هدر الكهرباء الذي تجاوز ٤٠ مليار دولار منذ العام ٢٠١٠؟ وهل من يجرؤ على إجراء تدقيق جنائي يبحث في وجهة هدر هذه الأموال؟
ليست الأزمة بجديدة ولا بمستجدة، بل هي نتيجة نهج تجذر منذ العام ٢٠١٠ واتخذ من القفز فوق القوانين عنواناً وتحصن في قلعة غياب المساءلة في وزارة الطاقة والمياه اللبنانية.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق