عجز لبنان عن تأمين الخدمات الأساسية
تراجع مستوى أداء المؤسسات والمرافق العامة في تأمين الخدمات ووصل إلى مستويات مقلقة نتيجة الانهيار المالي وإفلاس الخزينة واستحالة الاقتراض في ظل عجز الدولة عن توفير أي تمويل للاستثمار في المرافق العامة وتوقف توظيف رؤوس الأموال الخارجية في لبنان. وقد ظهر ذلك أولا على مستوى العجز عن تأمين سلعة الكهرباء الأساسيّة بالنسبة إلى جميع القطاعات الاقتصادية، والضرورية لاستمرار الحياة، والتي يحقّ لأي مواطن أو شركة الحصول منها على ساعات تغذية تكون كافية موثوقة آمنة ونظيفة ومتاحة بتكلفة معقولة وعادلة. وقد كان من الطبيعي أن تنعكس أزمة الكهرباء سلباً على تأمين استخراج المياه وضخها وتوزيعها كما على سير قطاع الاتصالات وتشغيل محطاته وسنترالات التوزيع في مختلف المناطق، وذلك بسبب عدم القدرة على تغطية تكلفة المحروقات اللازمة لتشغيل المولدات نتيجة ارتفاع الأسعار وعدم توفر بدائل أوفر مثل الطاقة الشمسية. ومع تصاعد حدة الأزمة واستفحالها وانقطاع الكهرباء، لجأت الشركات والمؤسسات الخاصة إلى مولداتها الخاصة أو اضطرت إلى الاشتراك في مولدات المناطق، فارتفعت نفقاتها التشغيلية وتراجعت إيراداتها. وقد بدأت بعضها في صرف الموظفين أو توقفت عن العمل.
وبدورها أطلّت أزمة أخرى بالمستوى ذاته من الأهمية والخطورة هي توقف خدمات جمع النفايات ومعالجتها لتضاف إلى عدم قدرة المطامر على استيعاب كمياتها وعدم قدرة الدولة على تأمين دفع مستحقات متعهديها بالدولار. هكذا عادت النفايات لتتكدس أو تنتشر على جوانب الطرقات والشوارع والأرصفة المؤدية إلى المنازل وأبنية المكاتب والمحلات التجارية، فأعاقت أعمالها وأثرت على ارتياد الزبائن لها وألحقت أضراراً جسيمة بالبيئة وبالصحة العامة وتحولت إلى قنبلة موقوتة لا يُعرَف متى تنفجر. وقد شهدت فصول الشتاء طوفانات أغرقت بعض شوارع المدن وأنفاقها بمياه المطر والصرف الصحي بسبب اختناق المجاري بالأتربة والأوساخ. وينطبق الأمر نفسه بالنسبة إلى تراجع مصالح المياه عن تأمين خدماتها لمشتركيها، حيث انعكس ذلك سلباً على أداء المؤسسات السياحية والفندقية.
الحل: “المستخدم يدفع”؟
انطلاقاً من واقع حاجة الشركات والمواطن ل الخدمات الحياتية اليومية والأساسية وعجز الدولة ومؤسساتها عن توفيرها، وفي ظل وجود البلديات المعنية بتنمية المناطق، يحتاج لبنان اليوم إلى إيجاد صيغة تستطيع تأمين هذه الخدمات بالتعاون مع القطاع الخاص المستعد لتأمينها وتحفظ له حقه في استرداد استثماره فيها. لذا تقترح هذه الورقة آلية الدفع من قبل المستخدم على قاعدة “الملوث يدفع” المقرر اعتمادها في مجال الصرف الصحي، والتي تؤمن مصلحة جميع الشركاء فيها (المواطن والمستثمر والبلدية). وتتمثل هذه الآلية في التزام المشتركين، مواطنين كانوا أم شركات ناشطة في مختلف القطاعات تريد سد حاجتها من الطاقة، بدفع البدلات المستحقة عليهم لقاء اشتراكهم في هذه الخدمات وبمقدار الاستفادة منها (ومن غيرها مثل جمع النفايات ومعالجتها أو الحصول على مياه الشفة الآمنة وخدمات الصرف الصحي) التي يمكن تأمينها لهم من خلال هذه الصيغة. ويكون ذلك بالتعاون مع البلديات وتحت إشرافها ورقابتها. ويكتسب طرح صيغة نظام الدفع من قبل المستهلك أهميته من أن بإمكانه أن يشكل الحل القانوني الذي يحفظ للمستثمر حقوقه ويضمنها.
وقد تدخل القطاع الخاص فعلاً وفرض أمرا واقعاً نتيجة الفراغ الذي ترتب عن غياب الدولة وعجز مؤسساتها عن تقديم الخدمات الأساسية والحيوية للمواطنين. وقد ساهمت بعض البلديات أيضاً، وبالتعاون مع القطاع الخاص والمواطنين المقتدرين، في تأمين إنتاج الطاقة من خلال المولدات و/ أو الطاقة الشمسية التي بات مجموع إنتاجها يفوق ألف ميغاواط وتوازي ثلث حاجة لبنان الفعلية من الطاقة. كما تعددت مشاريع واقتراحات القوانين الهادفة إلى تكريس واقع إنتاج الطاقة القائم في مختلف المناطق وعلى مختلف المستويات المذكورة.
الإطار القانوني
على مستوى التشريع، حصل خرق إيجابي مهم أدى إلى كسر احتكار مؤسسة كهرباء لبنان لقطاعات إنتاج الطاقة وتوزيعها ونقلها، وذلك بصدور قانون تنظيم قطاع الكهرباء رقم ٤٦٢/ ٢٠٠٢، الذي اقتصرت إتاحته إمكانية التدخل في هذه الأنشطة على القطاع الخاص دون البلديات. وقد أولى هذا القانون صلاحية إعطاء أذونات إنتاج الطاقة وتراخيصه لغير الاستعمال الخاص لهيئة تنظيم قطاع الكهرباء، على أن يتم ذلك بموجب استدراج عروض أو مناقصة تجريها هذه الهيئة، والتي تعذر تشكيلها وتعيينها لأسباب سياسية.
وبدوره أتاح قانون تنظيم الشراكة بين القطاعين العام والخاص رقم ٤٨/ ٢٠١٧ للبلديات، إن هي شاءت، التدخل في المشاريع المشتركة. وبعد إدراج البلديات واتحادات البلديات ضمن مفهوم “الشخص”، إضافة إلى الدولة والمؤسسات العامة وسائر أشخاص القطاع العام، عرّف هذا القانون المشروع المشترك على أنه أي مشروع ذو منفعة عامة يساهم فيه القطاع الخاص عن طريق التمويل أو الإدارة والتشييد والتطوير والتجهيز والصيانة…. وقد أخضعت المادة ٢ منه المشاريع المشتركة التي تقوم بها الدولة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص إلى الحق العام، باستثناء البلديات أو اتحادات البلديات، “التي يجوز لها أن تخضع المشاريع المشتركة التابعة لها لأحكام هذا القانون”؛ بحيث يكون هذا الخضوع ممكناً ومتاحاً وإنما اختيارياً وغير ملزم.
وتجدر الإشارة هنا إلى اقتراحات ومشاريع القوانين العديدة الواردة إلى مجلس النواب مؤخراً، وتتعلق بمعالجة أزمة الكهرباء ولامركزية إنتاجها وتوزيعها. ومن هذه المقترحات مشروع قانون لإنتاج الطاقة الموزعة الذي يشكل خطوة أساسية وهامة في تطوير مشاريع الطاقة المتجددة الموزعة على كامل الأراضي اللبنانية. ويوفر هذا المشروع إمكانية دمج آليات مشاريع القطاع الخاص ويدخل تطوير سوق الطاقات المتجددة لإنتاج الكهرباء في صلب سياسة الحكومة اللبنانية حول التنمية المستدامة.
على مستوى تجارب الواقع والتطبيق
أثبتت تجارب تعاون البلديات مع القطاع الخاص في بناء معامل لإنتاج الطاقة ومعالجة النفايات بدعم المجتمع الأهلي ومنظمات أوروبية نجاحها وإمكانية تعميمها على قاعدة “المستخدم يدفع”. وربما يكون هذا التعاون هو الأيسر والأقل تكلفة من مجالات التعاون الأخرى، باعتباره يقدم خدمتي الكهرباء والنفايات اللتين تقعان ضمن صلاحية البلديات، ويوفر مردوداً إضافياً لها من بيع الكهرباء المنتجة أو الاشتراك بخدمة النفايات التي يمكن أن تكون للبلدية حصة منها لتغطية جمع النفايات من الأمكنة العامة.
ولا بد من الإشارة في هذا المجال إلى مبادرتين جريئتين وتجربتين نموذجيتين ناجحتين يمكن التعرف على تفاصيلهما والافتداء بها: الأولى لبلدية تولا، حيث تم بناء مزرعة طاقة شمسية للعموم بالتعاون مع متمولين ومهندسين من أهل البلدة، بغاية تأمين الكهرباء لهم من طاقة نظيفة. وقد ربطت إنتاجها على شبكة المولدات وأمنت الكهرباء لأهلها وللمؤسسات العاملة ضمن نطاقها بكلفة أقل من المولدات. أما التجربة الثانية فهي لبلدية بيت مري، التي تعاونت مع القطاع الخاص في مجال جمع ومعالجة النفايات، وتركت للبلدية أن تهتم على أن تهتم بالمراقبة ومنع رمي النفايات في الشوارع والأسواق والأماكن والساحات العامة.
وبعد التذكير بمميزات تتمتع أنظمة الطاقة المتجددة الموزعة، والمبنية على نظام التعداد الصافي، وقدرتها على المساهمة في تحقيق أهداف إنتاج الطاقة من المصادر المتجددة بطريقة فعالة من حيث التكلفة وتوفير الفرصة لجميع مستهلكي الكهرباء لتغطية جزء هام من احتياجاتهم من الطاقة. ويؤدي ذلك بالتالي إلى تخفيف الضغط على الشبكة العامة. كما تتيح هذه الأنظمة إمكانية بيع الطاقة المتجددة وشرائها من خلال اتفاقيات مباشرة لشراء الطاقة بالتعاون بين البلديات والقطاع الخاص، كما يحصل في الواقع مع أصحاب المولدات، والتي يمكن تطويرها لتشمل الطاقة الشمسية.
وتضع هذه الحقائق والوقائع المسؤولين والمعنيين بشؤون المواطن من نواب وبلديات أمام مسؤولية دعم التوجه نحو إصدار تشريعات جديدة أو تعديلها. ويُفترَض أن توفر هذه التشريعات الإطار القانوني اللازم لإقرار حق البلديات في إنتاج الطاقة وتوزيعها وتكريسه بالتعاون مع القطاع الخاص، لا بل في إيلائها صلاحية إعطاء الأذونات وتراخيص الإنتاج للقطاع الخاص لغايات استثمارية في إطار منافسة جدية وواسعة تغطي جميع الأراضي والمناطق اللبنانية.
وفي حال دخولها حيّز التنفيذ، يُفترَض أن ترضي صيغة “المستخدم يدفع”، التي نقترحها أساساً للتعاون بين القطاع الخاص والبلديات، المواطن والمستثمر في آن معاً وأن تعفي المجتمع من انتظار استعادة الدولة عافيتها التي لا يمكن للمواطن تحمل نتائج تأخرها وانتظارها بلا جدوى.