معاناة القطاع الخاص في ظل الانهيار الاقتصادي
يعاني لبنان من ركود اقتصادي كبير بدأ في أواخر العام 2019 وتمثل في انهيار الناتج المحلي من 55 مليار دولار إلى حوالي 20 مليار دولار اليوم. وقد انعكس ذلك، لغاية العام 2022، في صرف نحو 100 ألف عامل نتيجة إقفال آلاف المؤسسات. وتركزت عمليات الصرف في قطاعات السّياحة: 40 ألفًا والمصارف: 10 آلاف والتجارة: 25 ألفًا والصناعة: 12 ألفًا والنّقل: 3 آلاف والتّعليم: 7 آلاف والبناء والمقاولات: 5 آلاف. هذا ولم تُحتَسَب بعض الأعمال مثل الزراعة، والتي تأثرت أيضا بشكل كبير بارتفاع كلفة الري وبالتالي اضطر أصحابها إلى هجرها بعد أن أصبحت أكلافها تفوق إيراداتها بأشواط. وقد كانت هذه المؤسسات تشكل مورد رزق أساسيًّا للاقتصاد المحلي وتحديدا للعائلات التي تعمل في تحويل المنتجات الزراعية وإنتاج العصائر ومحترفات صناعة المربيات والمصابغ ومحلات بيع المثلجات. وباتت مشاكل الطاقة والمياه والنفايات والصرف الصحي تضخم مصروف جميع شركات القطاع الخاص ومؤسساته وتمتص مدخولها، وبات الإقفال أكثر ربحًا لمعظمها بما لا يقاس.
انهيار الخدمات الأساسية في لبنان
استنادا إلى استطلاع أولي أجراه المعهد اللبناني لدراسات السوق مع عينة من البلديات وشركات القطاع الخاص في بيروت وجبل لبنان، تلبي البلديات حاجات القطاع الخاص في جمع النفايات والأمن والضرائب والرسوم المنخفضة وتسهيل المعاملات وتوفير مياه الشفة ومعالجة الصرف الصحي وتنظيم فعاليات وانشطة سياحية.
ولكن، يتسع الفارق بين حاجات الاقتصاد المحلي وقدرة البلديات، لدى النظر في موضوع معالجة النفايات التي تحتاجها 54.8% من الشركات المستطلعة ولا تؤمنها سوى 25% من البلديات. فالمعامل التي جرى تأسيسها بتمويل أجنبي أو بمساعدات هي الآن متوقفة عن العمل. وهي تعمد إلى طمر النفايات بدلا من فرزها ومعالجتها نتيجة توقف المعدات بسبب عدم توفر الكهرباء وارتفاع كلفتها. وقد انعكس كل ذلك سلبا على صحة اللبنانيين أولا وجودة المياه الجوفية ثانيا وصورة لبنان التي تعتمد القطاعات السياحية عليها لجذب الزوار ثالثًا.
كما أعربت 45.20% من الشركات المستطلعة عن حاجتها إلى كهرباء بكلفة أدنى مثل أن يتم إنتاجها في مزارع للطاقة الشمسية. إذ ما زالت القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والخدماتية تعتمد حتى اللحظة على ثلاثة أشكال مكلفة لتأمين الطاقة، وهي: (1) كهرباء الدولة، حيث تفوق كلفة الكيلوواط 29 سنتا للاستهلاك الذي يفوق 100 كيلوواط، إذا ما أضفنا البدلات الثابتة، (2) الاعتماد على مولداتهم الخاصة التي تتراوح كلفة إنتاج الكيلوواط فيها بين 21 و30 سنتا تبعا لنوع المولد وقدرته، (3) الاشتراكات التي تتجاوز 65 سنتًا للكيلوواط ساعة. وبينما تتكبد القطاعات الإنتاجية في لبنان هذه الأكلاف، لا يصل المتوسط العالمي للكيلوواط إلى 15 سنتا.
وتُلاحَظ كثافة عمليات الإقفال التي شهدتها المؤسسات الصغيرة منذ نهاية العام 2022 نتيجة مشاكل الطاقة والمياه ومعالجة النفايات والصرف الصحي. والملفت أن 80.6% من الشركات المستطلعة مستعدة لسداد بدل لقاء هذه الخدمات.
الانتقال من نموذج الدفع من قبل المكلف إلى نموذج الدفع من قبل المستخدم (User Payer VS Taxpayer)
اعتادت البلديات على نموذج الدفع من قبل المكلف إما مباشرة من خلال الرسوم التي تستوفيها من المكلفين، وأما بشكل غير مباشر من خلال الرسوم التي تستوفيها المصالح المستقلة والمؤسسات العامة لصالحها (عائدات الصندوق البلدي المستقل). وفي هذا النموذج، تموِّل البلديات كلفة تقديم الخدمات من خلال الضرائب والمال العام. ولكن البلديات فقدت مصدر دخلها الأساسي بسبب انهيار سعر الصرف وتأخر الصندوق البلدي المستقل عن سداد مستحقات البلديات. لذا ننصح اليوم بالانتقال إلى نظام الدفع من قبل المستخدم بدلًا من المكلف والسماح للقطاع الخاص بتقديم الخدمات الأساسية.
ويظهر الرسم البياني رقم 2 ان 33.30% من البلديات مهتمة بتأمين الكهرباء بالتعاون مع القطاع الخاص و23.30% من الشركات المستطلعة مهتمة بتقديم هذه الخدمة. ويمكن للقطاع الخاص إنشاء مزارع للطاقة الشمسية على المستوى البلدي وربطها بشبكة مولد الاشتراك بحيث يتم تأمين الكهرباء من الشمس عند توفرها والانتقال إلى المولد في غيابها كما جرى في بلدة تولا. ويؤدي هذا النموذج إلى تأمين كهرباء أنظف على مدار الساعة وبكلفة أقل. وقد أثبتت هذه التجربة نجاحًا أكبر في الحالات التي كانت البلدية تدير فيها مولد الاشتراك ونقلت إدارته إلى القطاع الخاص الذي استثمر في مزرعة الطاقة.
أما بالنسبة النفايات، فان 16.70% من البلديات مهتمة بتأمين خدمة جمع النفايات ومعالجتها بالتعاون مع القطاع الخاص و20% من الشركات المستطلعة مهتمة بتقديم هذه الخدمة. ويمكن للقطاع الخاص جمع النفايات ومعالجتها على المستوى البلدي، كما جرى في بلدة بيت مري. ويمكن تقاضي رسم اشتراك يسدده كل منزل لقاء خدمة التخلص من النفايات. ويوفر هذا النموذج، الإيرادات الكافية لإدارة القطاع ويحرر البلدية من عبء النفايات. وبالتوازي، تعمل البلدية على المحافظة على النظافة في الأماكن العامة من خلال إزالة جميع المستوعبات ومنع رمي النفايات في الشوارع وتغريم من يخالف القانون. ويمكن أن تساهم شركات النفايات في مساعدة البلدية على المحافظة على النظافة في الأماكن العامة عبر سداد رسم يسمح للبلدية بتمويل حملة النظافة وقمع المخالفات
ومن خلال تنظيم هذه أنشطة سياحية، يمكن للبلديات والقطاع الخاص جذب المزيد من الزوار إلى المنطقة وتعزيز الاقتصاد المحلي وزيادة الإيرادات من السياحة والاستثمارات وتأمين دخل يسمح للبلدية بتحسين البنية التحتية المحلية، ما يجعل المنطقة أكثر جاذبية للسياح.
وفي المحصلة، يتمثل الحل في تعاون البلديات مع القطاع الخاص لتنفيذ مشاريع استثمارية يُعتبَر المواطنون والشركات في أمس الحاجة إليها. ولا يساعد هذا الحل على الانتهاء من المشاكل فحسب، بل يشكل رافعة للمؤسسات الإنتاجية العاملة في النطاق البلدي ويساعدها على تخفيض كلفتها الإنتاجية وتعزيز تنافسيتها، وبالتالي التوسع وخلق المزيد من فرص العمل.