شكل رفض ديوان المحاسبة تعاقد وزارة الاتصالات رضائيا مع شركة “ستريم ميديا” لتشغيل نظام ال OTT ما يشبه الصاعقة، لأن قرار الديوان أضاء على أفعال مجرمة بموجب قانون العقوبات، سيما لناحية محاولة اكتساب أرباح غير مشروعة، والتعاقد مع شركة بهيكل فارغ، أشبه بالشركة الوهمية، ولا تملك المؤهلات التقنية والمهنية والمالية. فهذا النظام الذي يُعنى ببث المحتوى المرئي والمسموع على شبكة الانترنيت، “تستقتل” الوزارة لتلزيمه حصريا لشركة أسسها وزير الاتصالات خصيصا لهذا الغرض، كما بينت مرافعة “الديوان”.
المحاباة في عقود الشراء العام أمر ليس بجديد. وتفصيل دفتر شروط على قياس عارض محدد سلفاً امر معروف. ولكن المستهجن بصفقة الـ OTT، ويجعل منها أشد هولا من الصفقات الأخرى هو تحجج وزارة الاتصالات بعدم توفر الخدمة إلا عند مورد واحد، للتعاقد رضائيا مع “ستريم ميديا”. فمنصات Netflix وDisney+ وESPN وHulu والعشرات العشرات من مثيلاتها، غير معروفة من قبل الوزير وفريق الوزارة. وذلك على عكس “ستريم ميديا” المولودة قبل سنة برأسمال ٣٣٠ دولار، والمسجلة “مكتومة القيد” نظراً لتجهيل صاحب الحق الاقتصادي لها، وغير المسجلة بالضمان، والموصوفة بـ “الهيكل الفارغ” بحسب التوصيف الحرفي لـ ديوان المحاسبة.
أكثر من ذلك تُخطئ وزارة الاتصالات، في حال عادت وقررت إجراء مناقصة لتلزيم هذه الخدمة لشركة واحدة. فعدا عن إمكانية تفصيل دفتر الشروط على قياس “ستريم” أو غيرها، وتقليص مدة العرض، وإدخال شركات تغطية، فان حصر هذه الخدمة المتزايدة الطلب، يعتبر جريمة بحق الاقتصاد والمستهلك، مهما كانت الشروط عادلة. فحق الوصول إلى الانترنيت وتاليا الخدمات التي يقدمها، أصبح حاجة من حاجات الانسان مثله مثل الماء والهواء والكهرباء. كما ان الطريقة التي يستهلك بها الافراد المحتوى الرقمي تغيرت بشكل جذري خلال السنوات العشرة الماضية، وتختلف منصات OTT بحسب الاحتياجات. وعليه، لا يمكن إلزام المشترك بشركة واحدة. هذا فضلا عن ان سوق OTT يشهد ارتفاعا مطرداً كمياً ونوعياً، ومن المتوقع ان تبلغ قيمته السوقية حوالي 250 مليار دولار عالميا بحلول العام 2027، ومن هذه الزاوية تحديدا فان حصر هذه الخدمة محليا بشركة واحدة لا يفوت فرصة المنافسة العادلة وتمتع المستهلك بحرية الاختيار بحسب السعر والخدمات فحسب، انما يفوت على الاقتصاد نشؤ العديد من المنصات. واجتذاب الاستثمارات الاجنبية في هذا المجال، مع كل ما تؤمنه من خلق فرص عمل وتنمية الاقتصاد وزيادة العوائد المالية للدولة من الرسوم والضرائب.
في الخلاصة، هذه الخدمة يجب ان تكون مفتوحة امام جميع المهتمين ولجميع المواطنين، بعيدا عن بيروقراطية الإدارة العامة وعقمها التنفيذي، وفائض خصوبة الوزراء المنفعية. وذلك لضمان حرية التعاقد وتأمين ما في صالح الاقتصاد والمواطن.
قرار ديوان المحاسبة
شكّل قرار ديوان المحاسبة رقم ١٠٥/رم/غ ٢، في نطاق رقابته الإدارية المسبقة، ما يشبه الصاعقة، بموضوع الاتفاق الذي أعدّته وزارة الاتصالات لتشغيل منصة ال OTT وبث المحتوى عبرها، والمعد ليوقّع مع شركة ستريم ميديا ش.م.ل. الا ان هذه الصاعقة مع الأسف لم تجد من يلتفت اليها او يسمع بها، وبقي القرار صوتاً صارخاً في برية وعتمة الظلم والفساد. اهم وقائع هذا القرار المدوي تلخص بالتالي:
تأسست الشركة المقترح التعاقد معها من قبل وزير الاتصالات قبل خمسة أشهر وبضعة أيام من تقديم عرضها إلى وزارة الاتصالات بتاريخ ٣ آذار ٢٠٢٣، أي انها تأسست خصيصا للتعاقد مع الدولة وهذا ما ذهب اليه قرار ديوان المحاسبة استنتاجا؟ فمن هو صاحب الحق الاقتصادي في هذه الشركة؟
تقدمت هذه الشركة من وزارة المالية بتصريح عدم مزاولة المهنة عن العامين ٢٠٢٢ و٢٠٢٣ وتفلّتت من الضرائب على الأرباح بحجة انه لا أرباح لديها لعدم مزاولة العمل، أي ان خبرتها في مجال عملها صفر.
علّل وزير الاتصالات في إفادته أمام ديوان المحاسبة هذا التعاقد بقوله حرفياً “ليس لدينا الإمكانيات المادية وقد لجأنا إلى القطاع الخاص.” ما يعني انه يعول على إمكانيات الشركة التي يقترح التعاقد معها والتي لا إمكانيات لديها.
إن التعاقد الذي طرحه وزير الاتصالات أمام ديوان المحاسبة يضرب قانون المنافسة بالصميم (القانون رقم ٢٨١ تاريخ ١٥/٣/٢٠٢٢).
الشركة التي طرح وزير الاتصالات على ديوان المحاسبة للتعاقد معها غير مسجّلة في الضمان الاجتماعي ولا تسدد أي إشتراكات، هذا يخالف أحكام المادة
عدم نشر العقد على موقع هيئة الشراء العام
لم يُنشر العقد غير المصنّف بالسري على الموقع الإلكتروني لهيئة الشراء العام خلافاً لأحكام المادة ٦٢ من قانون الشراء العام، ولم يطّلع الرأي العام على ملخّص عن أحكام العقد المقترح، ولم يفسح المجال أمام العارضين المحليين لغياب النشر لتقديم اعتراضاتهم، فكان الأمر أشبه بتهريبة، وغياب هذا النشر يصيب إجراءات التعاقد بعيب جوهري لأنه يعطّل حق الاعتراض المكرّس دستورياً وقانونياً ويعرّض العقد للإبطال.
لا تملك الشركة التي يرغب وزير الاتصالات التعاقد معها وهي حديثة النشأة ولم تزاول عملاً أي خبرة في موضوع التعاقد، بل أنها ترغب بعد التوقيع على العقد استيراد الخبرة من شركة أجنبية، وهي تعول أيضا على خبرة مؤسسها، وهذا الأمر يطرح علامات استفهام أقلّها لماذا لم يتعاقد وزير الاتصالات مباشرة مع صاحب الخبرة ولماذا يصر على المرور دائماً بالوسطاء؟ فضلاً عن أن هذا الأمر ينسف قاعدة الاعتبار الشخصي التي ترتكز إليها العقود الإدارية.
شركة وهمية Shell Company
لا توجد للشركة التي يقترح وزير الاتصالات التعاقد معها أي بيانات مالية ويقتصر نشاطها على وكالة حصرية وعقود مازلت قيد الإعداد تمهيداً للتوقيع.
يبلغ رأسمال الشركة التي يقترح وزير الاتصالات التعاقد معها لتنفيذ المشروع ٣٣٠ دولار أميركي وهذه الشركة هي أشبه ما تكون بالشركة الوهمية أو ما يُعرف ب shell companies وهي عبارة عن هيكل فارغ كما ورد حرفيا في قرار ديوان المحاسبة.
لم تجر وزارة الاتصالات أي دراسة سابقة لقيمة مشروع التعاقد والأسعار والأرباح المقدّرة وحصة الدولة المقترحة منها وهذا يخالف احكام المادة ١٣ من قانون الشراء العام التي توجب تحديث القيمة التقديرية لموضوع الشراء قبل الإعلان عن الصفقة على ابعد تقدير.
والأغرب في هذا العقد أنه بإمكان الشركة الأشبه بالشركات الوهمية shell companies فرض غرامات على الشخص المعنوي العام المتمثل بهيئة أوجيرو في حال تخلّفت عن الدفع في المواعيد المحددة وهذا الامر غير موجود وغير مألوف في العقود الإدارية وهو يضرب سلطات وامتيازات الإدارة في هذه العقود والاسس القائمة عليها.
أفعال مجرمة لناحية اكتساب أرباح غير مشروعة
ان قرار ديوان المحاسبة على النحو الوارد سابقا ينطوي على أفعال مجرمة بموجب قانون العقوبات سيما لناحية محاول اكساب الغير أرباح غير مشروعة، والتعاقد مع شركة لا تملك المؤهلات التقنية والمهنية والمالية اذ هي بهيكل فارغ واشبه ما تكون بالشركة الوهمية كما ورد في قرار ديوان المحاسبة ذا الصلة.
ان محاولة التعاقد مع شركة ستريم ميديا ش م ل، بالطرق الملتوية التي أشار اليها قرار ديوان المحاسبة في قراره، وخارج كل الأطر والقواعد القانونية المنصوص عليها في قانون الشراء العام، يعتبر من اعمال الفساد المعرف وفقا للمادة الأولى من قانون مكافحة الفساد في القطاع العام وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، على انه استغلال السلطة أو الوظيفة أو العمل الـمتصل بالـمال العام بهدف تحقيق مكاسب أو منافع غير مشروعة لنفسه أو لغيره، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، واعتبرت المادة الثالثة، الفقرة (أ) من هذا القانون جرائم فساد نيل الالتزامات أو سوء تنفيذها أو الاستحصال على الرخص من أحد أشخاص الحق العام جلباً للـمنفعة الخاصة إذا حصل أي منها خلافاً للقانون.
ينطبق هذا التعريف على الطرق الملتوية التي تم اللجوء اليها لتمرير الاتفاق الرضائي مع شركة ستريم ميديا ش م ل، كما ينطبق على هذه الطرق توصيف جريمة استثمار الوظيفة التي نصت على احدى صورها المادة ٣٦٣ من قانون العقوبات في فقرتها الأولى كما يلي « قيام من اوكل اليه بيع او شراء او ادارة اموال منقولة او غير منقولة لحساب الدولة او لحساب ادارة او مؤسسة عامة او بلدية او هيئة عامة او مؤسسة ذات منفعة عامة او تملك الدولة قسما من اسهمها باقتراف الغش في أحد هذه الاعمال او مخالفة الاحكام التي تسري عليها اما لجر مغنم ذاتي او مراعاة لفريق اضرارا بالفريق الاخر او اضرارا بالمصلحة العامة او الاموال العمومية، او بارتكاب الخطأ الفادح والجسيم».
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق