قررت “اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت” أن صفقاتها لن تخضع اعتباراً من أيلول 2024 لقانون الشراء العام. وقد طرح هذا القرار المفاجئ، والذي أتى بعد أكثر من عامين على التزام اللجنة بالقانون، تساؤلات حول نيّة اللجنة الحقيقية. وعلى وجه الخصوص، تتعارض حجة اللجنة “اليتيمة”، باعتبار المرفأ مرفقاً عامّاً تجاريّاً واقتصادياً، مع إلزامية خضوع الشركات الخاصة التي تدير المرافق العامة نفسها لقانون الشراء العام.
ولا تبرير منطقي لرغبة “اللجنة”، التي بدأت مؤقتة في العام 2002 وتحولت إلى دائمة بحكم الأمر الواقع، إلا برغبتها في التفلت من الرقابة والعودة إلى عقد الصفقات بالتراضي. وللجنة سجل حافل في إبرام عقود الصيانة والتنفيذ والدراسات بالتراضي خلال السنوات التي سبقت انفجار المرفأ في 4 آب 2020، وذلك في غياب مراقب عقد النفقة وبجهل تام من وزارة المالية. وقد سمح هذا الأمر للّجنة بإنفاق ملايين الدولارات على صفقات مثيرة للجدل، منها:
- صفقة لردم الحوض الرابع بقيمة 130 مليون دولار، والتي أعيد طرحها لاحقاً بقيمة 270 مليون دولار بعد إفشالها في مجلس الوزراء لتجاوزها القيمة المنطقية بأكثر من الضعف.
- صفقة شراء الرافعات الجسرية العملاقة بقيمة 54 مليون دولار، في حين قُدرت تكلفتها الحقيقية آنذاك بـ 18 مليون دولار فقط.
- الاتفاق مع شركة الهندسة “خطيب وعلمي” بقيمة مليون دولار لتطوير المرفأ.
- دراسة بقيمة 100 ألف دولار لصالح محطة الحاويات.
- عقد تأمين مع شركة “ميدغلف” بقيمة 3 ملايين دولار.
- إعداد دفتر شروط لتشغيل محطة الحاويات بالتراضي بقيمة 600 ألف دولار بعد انتهاء عقد الشركة السابقة المشغلة BCTC.
- الاستمرار في التعاقد مع شركة BCTC رغم مخالفتها للعقد الموقع مع اللجنة المؤقتة.
بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى قيام “اللجنة” بشراء الرافعات الجسرية لحساب الشركة وتأمين مضاعفة أرباحها من خلال توسيع الرصيف 16 (دون مناقصة أيضاً)، ما أدى إلى زيادة مساحتها التخزينية وتخفيض أسعارها بعيداً عن مصلحة الدولة.
هذه الممارسات ليست سوى غيض من فيض الصفقات التي أبرمتها “اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت” خارج إطار إدارة المناقصات آنذاك، وقبل دخول قانون الشراء العام حيز التنفيذ. وقد أدت هذه الممارسات إلى تدني مرتبة لبنان في مؤشر سهولة التجارة الدولية، حيث يحتل المرتبة 153 من أصل 190 دولة. كما تستغرق إجراءات التصدير والاستيراد وقتاً طويلاً مقارنة بالمرافئ الفعالة. وبدلاً من أن تسعى الدولة إلى إنهاء الوضع الشاذ لهذه اللجنة، والذي يسمح لها بإدارة مرفق عام والإنفاق من أمواله دون وجود أي إطار قانوني مؤسساتي، وبعيداً عن رقابة ديوان المحاسبة ووزارة المالية، نجدها تناقش ما إذا كانت اللجنة ستبقى خاضعة لقانون الشراء العام أم لا.
ولعلّ المطلوب اليوم هو إلغاء اللجنة المؤقتة التي نشأت بموجب المرسوم 7505/2002 وفتح جميع المرافئ على الساحل اللبناني للاستثمار والإدارة من قبل القطاع الخاص من خلال مزايدات شفافة تحقق أولاً مصلحة الدولة المالية. ومن شأن هذا الإجراء جذب الاستثمارات والخبرات اللازمة لتطوير الموانئ. فلنتصور، على سبيل المثال، أن مزاد مرفأ بيروت رسا على شركة فرنسية، بينما فازت شركة صينية بإدارة مرفأ طرابلس وشركة خليجية بمرفأ صيدا وشركة نرويجية بمرفأ صور. عندها تؤدي المنافسة بين الشركات المختلفة التي تدير الموانئ إلى تقليل الفساد وخفض تكاليف المعاملات وتحسين جودة الخدمات. فالهدف النهائي هو تحويل الموانئ اللبنانية إلى مراكز تجارية كبرى على البحر المتوسط، ما يسهم في تنمية المناطق المحيطة وتحريك عجلة الاقتصاد. ولعلّ الأهم من ذلك أن الإدارة الشفافة والمستقلة كفيلة بالقضاء على التهرب الجمركي والتهريب في آن واحد، ولا سيما تهريب الممنوعات الذي يدفع دولاً عدة إلى وقف الاستيراد من لبنان، ملحقاً بالقطاعين الزراعي والصناعي خسائر سنوية فادحة تقدر بمئات الملايين من الدولارات.
التزام الحكومة اللبنانية بتطبيق قانون الشراء العام. بعد 29/7/2022 وخلال شهر آب 2022 إثر بدء نفاذ قانون الشراء العام، أصدر وزير الأشغال العامة والنقل تعميماً حمل الرقم ٥ تاريخ ١٩-١٠-٢٠٢٢. وقد تم توجيه هذا التعميم إلى مختلف الإدارات والمؤسسات والمصالح وكافة الجهات التابعة لوصاية وزارة الأشغال العامة والنقل أو إشرافها أو إدارتها، ومنها اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، بضرورة تطبيق أحكام قانون الشراء العام والامتثال لموجباته.
وينسجم تعميم وزير الأشغال العامة والنقل مع تعميم رئيس مجلس الوزراء الذي طلب بموجبه إلى الجهات الشارية الخاضعة لأحكام قانون الشراء العام والمحددة في الفقرة الثالثة من المادة الثانية منه الالتزام بأحكام هذا القانون. وهذه الجهات «هي الدولة وإداراتها ومؤسساتها العامة والهيئات الإدارية المستقلة والمحاكم التي لديها موازنات خاصة بها والهيئات والمجالس والصناديق والبلديات واتحاداتها والأجهزة الأمنية والعسكرية (والمؤسسات والإدارات والوحدات التابعة لها) والبعثات الدبلوماسية في الخارج والهيئات الناظمة والشركات التي تملك فيها الدولة وتعمل في بيئة احتكارية والمرافق العامة التي تديرها شركات خاصة لصالح الدولة وأيّ شخص من أشخاص القانون العام ينفق مالاً عاماً».
هيئة الشراء العام تواكب تطبيق القانون. وقد كانت هيئة الشراء العام تؤكد في حينه على ضرورة تطبيق قانون الشراء العام. فقد أكدت أهمية هذا التطبيق لما يؤمنه القانون من شفافية في التعاطي بالشأن العام ولما يفرضه على الجهات الشارية لناحية ضرورة احترام مبادئ المنافسة والعلنية والمساواة ولما يؤمنه من فرص متكافئة أمام العارضين في القطاع الخاص، لا سيما المؤسسات المتوسطة والصغيرة الحجم. وقد أطلقت هيئة الشراء العام موقعها الإلكتروني، الذي كان نواته موقع إدارة المناقصات السابقة، لنشر الإرشادات والتوجيهات والمذكرات. وركزت الهيئة حينها على أهمية تطبيق مبادئ الشراء العام المعبر عنها في المادة الثانية من القانون والمعتبرة من الانتظام العام لتحقيق الاستدامة والقيمة مقابل المال المنفق والحد من الهدر في إنفاق المال العام وتالياً من الفساد في المشتريات العمومية.
تنصل اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت من تطبيق القانون. وبعد أكثر من سنتين على التزام اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت بأحكام قانون الشراء العام ونشر إعلاناتها عبر الموقع الإلكتروني للهيئة وإرسال طلبات إبداء رأي للهيئة ودفاتر الشروط الخاصة بها للتدقيق من قبل هذه الأخيرة وإبداء ملاحظاتها بشأنها، أصدرت اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت قرارا مفاجئا في أواخر شهر آب المنصرم. وقد أعلنت فيه اللجنة تنصلها من أحكام قانون الشراء العام مستندة إلى اجتهاد يقول إن مرفأ بيروت هو عبارة عن مرفق عام تجاري واقتصادي. وقد غاب عن بال محامي اللجنة أن المرافق العامة، وإن كانت تديرها لجان أو حتى شركات خاصة خاضعة لقانون الشراء العام، تُعتبَر من الجهات الشارية وفقاً لأحكام الفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الشراء العام.
محاولات إعادة اللجنة إلى كنف القانون. وقد سارعت وزارة الأشغال العامة والنقل إلى محاولة إنهاء سريعة لتمرد اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت. إذ ردت على اللجنة باستشارة صادرة عن هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل تؤكد أن مرفأ بيروت هو إحدى إدارات الدولة، وإن كان له طابع خاص. وبناءً على هذه الصفة، يخضع المرفأ لسلطة وزير الأشغال العامة والنقل كما يخضع طبعا لقانون الشراء العام. وقد طلبت وزارة الأشغال العامة والنقل في كتابها بتاريخ ٢٧-٠٨-٢٠٢٤ إلى اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت الخضوع لسلطة وزير الأشغال العامة والنقل لكون المرفأ إدارة من الإدارات التابعة لهذه الوزارة. وكذلك طلبت الوزارة في كتابها خضوع المرفأ لسلطة هيئة الشراء العام في مجالات اختصاصها وتطبيق أحكام قانون الشراء العام. وقد أبلغت وزارة الأشغال العامة والنقل هيئة الشراء العام صورة عن مراسلة اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت التي تعلن فيها أنها لن تطبق قانون الشراء العام . كما سلّمتها نسخة من كتاب وزارة الأشغال العامة والنقل إلى اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت تطلب فيه إلى الأخيرة الالتزام بأحكام قانون الشراء العام.
وقد توجهت هيئة الشراء العام إلى اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت بكتاب يحمل عبارات قانونية قاسية تطلب فيه إليها، فيما يشبه صيغة الأمر، الرجوع دون إبطاء وحالاً عن قرار عدم تطبيق قانون الشراء العام. وتشرح هيئة الشراء العام للجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت في كتابها مبررات خضوعها للقانون باعتبارها إحدى الجهات الشارية المعرّف عنها فيه، وتؤكد عدم ارتكاز ما تدلي به من أسباب للخروج عن أحكام القانون إلى أي أساس قانوني سليم. كما تذكر هيئة الشراء العام اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت في كتابها بتاريخ ٢٩-٠٨-٢٠٢٤ بمضمون الفقرة الأولى من المادة الثالثة من قانون الشراء العام (نطاق التطبيق) والتي تحظر على أي جهة شارية خاضعة لأحكامه إجراء أي عملية شراء من خارجه.
وفي النهاية تخلص الوزارة إلى اعتبار عمليات الشراء التي تجريها اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت من خارج قانون الشراء العام غير قانونية، وتحتفظ بكامل حقوقها تجاهها. وكذلك تحظر الوزارة الموردين والمقاولين من التعاقد مع إدارة المرفأ خارج إطار قانون الشراء العام تحت طائلة العقوبات التي ستطولها كما ستطول الجهة الشارية، أي إدارة المرفأ، وفقاً لأحكام المادة 112 من قانون الشراء العام، إما مباشرة من قبل هيئة الشراء العام بالنسبة للموردين والمقاولين ،وإما من قبل ديوان المحاسبة عفواً أو بناءً على طلب هيئة الشراء العام بالنسبة للجهات الشارية.
التوصيات. نحن بالفعل أمام حالة تمرد حقيقية على قانون الشراء ومحاولة اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت التنصل من أحكامه بعد سنتين من تطبيقه على مضض كما يبدو. وبدلاً من انتظار معرفة ما ستؤول إليه حالة التمرد الحاصلة وما إذا كانت ستغطيها مرجعيات معينة وكيفية تعامل وزارة الأشغال العامة والنقل وهيئة الشراء العام معها، تقترح هذه الورقة إلغاء اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت. كما تقترح فتح الباب أمام القطاع الخاص لاستثمار جميع المرافئ اللبنانية بما فيها مرفأ بيروت عن طريق مزايدات شفافة تضمن المنافسة العادلة التي تحقق مصلحة الدولة المالية كما تؤمن الانتفاع الأمثل من موقع المرفأ الاستراتيجي والابتعاد عن الاستزلام والزبائنية في التوظيف. وتضمن هذه المزايدات بدورها القضاء على التهرب الجمركي والتهريب على حد سواء.
فريق المعهد اللبناني لدراسات السوق