إحياء الليرة اللبنانية… مسار طويل يبدأ من الثقة

إحياء الليرة اللبنانية… مسار طويل يبدأ من الثقة

في عام 1948، ظهرت الليرة اللبنانية للمرة الأولى في سوق التداول، بعد أن كانت الليرة السورية الصادرة عن بنك سوريا ولبنان هي العملة الوطنية خلال حقبة الانتداب الفرنسي. وقد شهدت العملة استقراراً نسبياً لغاية منتصف الثمانينيات من القرن الـ20، قبل بدء طور الانهيار، علماً بأن موجة السقوط الحر التي بدأت في 2019 كانت الأعنف، حيث زاد سعر الصرف من 1505 ليرات إلى قرابة 90 ألف ليرة لبنانية للدولار الأميركي الواحد.

تقترن الليرة اللبنانية في وجدان كبار السن بـ”أيام العز”، فما إن تبادر إلى سؤال السيد مالك صاحب الـ78 سنة عن العملة الوطنية، حتى يسارع إلى فتح درج صغير في ماكينة الخياطة، ويخرج مجموعته الخاصة من الأوراق النقدية. يرفع قطعة المطاط، ويبدأ بالحديث عن نمط الحياة والامتيازات التي كان يعيشها اللبناني في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية وصولاً إلى منتصف الثمانينيات من القرن الـ20 ومرحلة الانهيار المتسارعة.

 

يقول مالك “تثير الليرة الحنين، كانت تساوي 20 فرنكاً وكنا نشتري بالفرنك الواحد السكاكر أو الكعك، أو البسكويت والحلقوم، أما تنكة البنزين فقد كانت بثلاث ليرات، وكانت ’التفويلة‘ بست ليرات”.

ويضيف “أول ما تبادر إلى مخيلتي عندما وصل الدولار إلى مستوى الـ20 ألفاً، ما قاله يوماً الرئيس كميل شمعون عندما حمل ورق الـ50 ليرة. وقال إنه في حال استمرت الأوضاع على ما هي عليه ستصبح مساوية لدولار واحد، وهو ما أدهش الجميع في حينه عندما كان الدولار بثلاث ليرات أو أقل”. ويعبر مالك عن حزنه لأن “الليرة ماتت ولم تعد لديها أية قيمة، واختنق اللبناني معها، ولا يبدو أن ثمة حلولاً في الأفق”.

ليرة لبنان الكبير

تتجاوز الليرة اللبنانية دورها كعملة، لتؤشر إلى الهوية اللبنانية الجماعية التي بدأت معالمها في الظهور مع إعلان دولة لبنان الكبير خلال الأول من سبتمبر (أيلول) 1920، وبلغت مرحلة التعايش السلمي في حقبة الاستقلال وصولاً إلى الحرب الأهلية اللبنانية، عندما شهدت العملة الوطنية استقلالاً نسبياً، قبل أن تدخل مرحلة الانهيار خلال النصف الثاني من ثمانينيات القرن الـ20، ودخول حقبة الأفول مع الدولرة الشاملة التي بلغت أوجها في مرحلة الانهيار المالي عام 2019 ولغاية زماننا الحاضر.

ارتبطت العملة اللبنانية بالوضع الجيوسياسي للبلاد، إذ عكست موازين القوى المسيطرة على أرض الواقع. وفي الحقبة العثمانية تعاملت البلاد بـ”العملة العثمنلية”، ومع بدء انهيار السلطنة بفعل الهزائم المتزايدة على أرض المعركة في الحرب العالمية الأولى وانسحاب الجيش التركي من البلاد، تعامل لبنان لفترة قصيرة بـ”الجنيه المصري”، إلا أن ميلاً نحو الاستقلال بدأ بالظهور مع تأسيس لبنان الكبير. ومع عام 1920 فرض الانتداب الفرنسي التعامل بـ”الليرة السورية” وكانت تساوي قيمة الليرة الموحدة لسوريا ولبنان 20 فرنكاً فرنسياً. واستمرت الأوضاع على حالها حتى عام 1948، وحينها ظهرت “الليرة اللبنانية” للمرة الأولى على ساحة التعامل.

تقلبات مفاجئة

تشهد الليرة اللبنانية استقراراً ملحوظاً عند مستوى 89500 ليرة لبنانية للدولار الواحد، وهو رقم صادم مقارنة بتاريخ العملة الوطنية التي شهدت تقلبات محدودة خلال قرن من الزمن. وخلال مارس (آذار) 2021 أصدرت “الدولية للمعلومات” تقريراً حول تطور سعر الصرف، إذ لاحظت مروره بثماني مراحل وشهدت المرحلة الأولى بين عامي 1960 و1981 “قوة الليرة”، إذ تميزت باستقرار سعر الصرف وبلغت ثلاث ليرات كمعدل وسطي. وشهدت المرحلة الثانية بين عامي 1982 و1985 “بداية ارتفاع سعر الصرف” إذ ارتفعت من 4.7 ليرة عام 1982 إلى 18 ليرة عام 1985. وخلال عام 1986 بدأت المرحلة الثالثة التي تميزت بـ”الارتفاع الكبير”، إذ ارتفع الدولار من 87 ليرة لبنانية إلى 3 آلاف ليرة خلال سبتمبر 1992.

وبدأت المرحلة الرابعة بـ”تراجع سعر الصرف” إلى حدود 1508 ليرات، واستمرت إلى عام 1999. وفي حينه بدأ لبنان تطبيق سياسة تثبيت سعر الصرف، واقترنت بعملية إعادة الإعمار التي تميزت باندفاعة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري.

ووفق “الدولية للمعلومات” عام 1999 بدأت المرحلة الخامسة التي استمرت إلى أكتوبر (تشرين الأول) 2019، وهي مرحلة “الاستقرار” بين 1505 – 1515 ليرة لبنانية للدولار الواحد. وخلال المرحلة السادسة بدأت حقبة “الارتفاع” بعد أن وصل الدولار إلى ألفي ليرة لبنانية بين سبتمبر وديسمبر (كانون الأول) 2019، وصولاً إلى المرحلة السابعة التي شهدت “الارتفاع الكبير” من 2000 لغاية 8500 ليرة، وامتدت من يناير (كانون الثاني) 2020 إلى يناير 2021، وصولاً إلى “الانهيار الكبير” وهو ما يعرف بالمرحلة الثامنة، بين يناير 2021 ومارس (آذار) من العام نفسه بعد أن ارتفع سعر الدولار إلى 15000 ليرة لبنانية.

ومن جهته، رصد الباحث الإحصائي عباس الطفيلي تطور سعر الصرف على منصة صيرفة التي أطلقها مصرف لبنان، ففي نهاية عام 2021 وصل سعر الدولار إلى 17200 ليرة، بينما خلال عام 2022 تراوح ما بين 23380 ليرة في يناير 2022 وصولاً إلى 31750 ليرة خلال ديسمبر 2022. وشهد عام 2023 دخول لبنان مرحلة الانهيار السريع لسعر صرف الليرة، إذ بلغ 38 ألفاً خلال يناير، وتجاوز 43 ألفاً في فبراير، أما في مارس 2023 فقد وصل عتبة 80 ألف ليرة، وفي أبريل بلغ 86 ألف ليرة لبنانية، وحافظ على مستواه المستقر نسبياً خلال مايو (أيار) ويونيو (حزيران) ويوليو (تموز) على منصة صيرفة، علماً أن السعر تجاوز تلك الحدود في السوق الموازية.

فاقم انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار من معاناة المواطن اللبناني، وبلغت البلاد مرحلة “الدولرة الشاملة” بفعل انعدام الثقة في العملة الوطنية. ويلاحظ غياب الليرة عن دائرة التعاملات مقتصرة على بعضها الضيقة، فيما يسود استخدام الدولار داخل مختلف الأماكن. ويضع الباحث الاقتصادي باتريك مارديني إعادة الثقة بالليرة اللبنانية ضمن التحديات التي تواجه العهد الرئاسي والحكومي الجديد، مشيراً إلى أن “الانهيار السريع لسعر الصرف جاء في حدود 60 ضعفاً كنتيجة طبيعية للسياسات المتبعة، بدءاً بمضاعفة الكتلة النقدية 20 ضعفاً من 4 إلى 5 تريليونات ليرة لبنانية إلى 85 تريليون ليرة وهو ما زاد النقود المتداولة، إلى جانب عامل آخر ألا وهو فقدان الثقة في العملة الوطنية والهرب من الليرة، مما أدخلنا في حلقة جهنمية خلال 2021 – 2022 وقت أن بدأ المواطن بتصريف أجوره بالليرة ما إن يقبضها لعدم خسارة قيمتها”.

ورداً على سؤال “هل يعد سعر الصرف الحالي نهائياً”، يجزم مارديني “لا وجود لسعر صرف نهائي إذ تشهد مختلف العملات تقلباً في قيمتها، وفي وقت يلاحظ تقلبات شديدة داخل البلدان النامية، فإن التقلبات بطيئة في تلك المتطورة”، مشيراً إلى أن “سعر صرف العملة متصل بكمية النقد في التداول، ومستويات الثقة، والنمو الاقتصادي ولبنان يعاني ضعفاً من كل تلك العوامل في آن”.

الاستقرار غير المدروس

 شهد سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار استقراراً نسبياً منذ مارس 2023، وفق ما لاحظه الباحث الاقتصادي أيمن عمر متحدثاً عن وجود جملة عوامل مؤثرة في سعر الصرف، بعض منها سلبي والآخر إيجابي، و”هذه العوامل منها غير موضوعي ولا علمي وهي على الطريقة اللبنانية والأخرى هي عوامل موضوعية وعلمية”.

يتطرق الدكتور أيمن عمر إلى ما يسميه “العوامل غير الموضوعية”، التي يندرج ضمنها “العامل النفسي للشعب اللبناني الذي خسر كثيراً من أمواله وثرواته خلال أعوام الأزمة هذه بسبب تدهور سعر صرف الليرة، ومن هنا شهدنا هذا التهافت الكبير على بيع الدولارات ليلة انتخاب رئيس الجمهورية جوزاف عون تجنباً لخسائر جديدة مع بدء سريان إشاعات أو توقع اللبنانيين تحسن سعر الصرف نتيجة انتخاب الرئيس. أما العامل الثاني فهو مضاربات المافيا التي امتهنت وبرعت في التلاعب بسعر الصرف في مناسبات معينة ناتجة من أحداث أو وقائع ما، واستغلال العنصر النفسي في ذلك”.

في المقابل، يشدد أيمن عمر على عوامل موضوعية عدة ذات صبغة علمية “منها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي ومالي، إذ يجب أن تتضافر وتتكامل جميعاً لتحقيق الهدف المطلوب وهو تحسين قيمة الليرة اللبنانية”، ويلفت إلى العوامل السياسية التي أعقبت انتخاب رئيس للجمهورية مما يعد الخطوة الأساس في إعادة تكوين السلطة، وتشكيل حكومة متجانسة وفاعلة ترسخ حال الطمأنينة والثقة، ناهيك بإعادة الانتظام العام للإدارات والمؤسسات العامة واستكمال التعيينات الإدارية، وتفعيل عمل القضاء واستقلاليته وكذلك المؤسسات الرقابية مما يحد من المضاربات النقدية والاقتصاد الأسود”.

ويشدد على أهمية “البدء في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من المنظمات الدولية والمجتمع الدولي وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، ومنها الحوكمة والحكم الرشيد والشفافية وغيرها، مما ينتج منه التحسن في تصنيف لبنان الائتماني من قبل وكالات التصنيف العالمية، وصولاً إلى عودة الثقة في الاقتصاد اللبناني وماليته العامة وسندات الدين وبخاصة بالدولار، من ثم إمكانية ازدياد الطلب على الأخيرة وجذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة العرض في الدولار”.

الاقتصاد في خدمة الاستقرار

يتحدث الدكتور أيمن عمر عن العوامل الاقتصادية والمالية التي تسهم في الاستقرار المستدام، وتؤدي إلى “زيادة في عرض الدولار والسيولة النقدية بعد شح كبير، مما يعكس تحسناً في قيمة العملة الوطنية”، واصفاً مسار التعافي بـ”التراكمي والطويل”، علماً أن هذا التحسن سيحدث تدريجاً كما تدهورت قيمتها بالتدرج، لأن سوق الصرف لا يحمل هذه التذبذبات الكبيرة فيه حتى لو كانت إيجابية.

ويشير عمر إلى تلك العناصر التي يأتي في مقدمها “هيكلة القطاع المصرفي ويجب أن تبدأ بالمصرف المركزي وتطوير قانون النقد والتسليف، وتحديد طبيعة نظام الصرف عبر تحريره لكن بطريقة مدارة وموجهة، وتفعيل السياسة النقدية عبر أدواتها المختلفة في عملية توجيه وإدارة سعر الصرف، وإنشاء منصة “بلومبيرغ” وهي لازمة وضرورية عند تحرير سوق القطع”، إضافة إلى “إعادة الثقة في القطاع المصرفي من أجل إعادة تكوين الودائع من جديد، ومنها يتكون الاحتياط من العملات الأجنبية، من ثم زيادة العرض والقدرة في التأثير في سعر الصرف”، و”مكافحة الاقتصاد النقدي (الكاش إيكونومي)، والعودة إلى الاقتصاد النقدي الطبيعي عبر القطاع المصرفي، ومنها إدخال التحويلات النقدية من الخارج عبره أيضاً، مما يسهم في زيادة عرض النقد الأجنبي”، وتطوير التشريعات الضريبية لجذب الاستثمارات الأجنبية، إلى جانب دعم القطاع السياحي وعودته إلى القيام بدوره الريادي وتوفيره إيرادات مالية وصلت إلى نحو 5.5 مليار دولار عام 2023، وتشجيع القطاعات الإنتاجية والصناعات التنافسية لتقليل الاستيراد وزيادة التصدير، وهيكلة الدين العام خصوصاً بالدولار وضبط العجز المالي، ناهيك بالاستفادة من دعم المجتمع الدولي في عمليات إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، ومكافحة الاقتصاد الأسود وتنشيط الدورة الاقتصادية.

تجفيف المليارات

يعتمد اللبناني في تعاملاته على الدولار، إذ تشهد الليرة تراجعاً كبيراً في مكانتها ووظيفتها. ويعتقد الدكتور باتريك مارديني أن “الاعتماد على الدولار ليس بسبب الانهيار، وإنما نتيجة لفقدان الثقة في العملة الوطنية”، مضيفاً “المواطن يهرب نحو العملة الآمنة، ولو لم يكن هناك دولار لبحث اللبناني عن عملة أخرى يثق فيها”.

ويعقب مارديني على اقتراحات “إحياء الليرة” من قبيل إجراء “شطب أصفار”، أو “إصدار عملة جديدة” بديلة عن الليرة اللبنانية، إذ يضعها في خانة “الأفعال التجميلية الصورية التي لا نفع منها، ولا تقدم أو تؤخر”، ففي غياب الثقة ستعاود العملة الانهيار وقد تحتاج الدولة إلى مواجهة الانهيار المستمر والمتكرر. ويرى أنه لا بد من “اتباع سياسة نقدية صارمة تمنع زيادة الكتلة النقدية اللبنانية، وهي ما نرى بوادرها بدءاً من صيف 2023، ولغاية نهاية 2024″، منتقداً “الإجراءات العشوائية” التي بدأها مصرف لبنان أخيراً لناحية زيادة حجم الكتلة النقدية، من ثم لا بد من العودة إلى وقف طباعة الليرة.

ويخلص مارديني إلى ضرورة توقف مصرف لبنان عن “المضاربة” على الليرة اللبنانية صعوداً أو هبوطاً، وترك التحكم بالسوق والتدخل عند الضرورة، والالتزام بعدم الشراء مطلقاً للدولار أو البيع إلا وفق سعر الصرف في حال طلب منه بعض العملاء والمصارف القيام بتلك المهمة لصالحهم، ويجب وقف إقراض الحكومة اللبنانية أو شراء سندات خزانة إضافية، وجميع العمليات المؤثرة في ملاءته والتي تجعله بديلاً أو منافساً للمصارف التجارية. ويعتقد أن “تجفيف السوق من المليارات وسحب الفائض النقدي من التداول، مما يسهم في استقرار سعر الصرف وزيادة الاحتياطات بالعملات الأجنبية، ومن ثم يجب الحفاظ عليه من خلال سياسات التقشف الحكومية.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع اندبندنت عربية