حين تتغيّر خرائط السياسة، وتعيد القوى الكبرى ضبط بوصلتها تجاه الشرق، لا يكون الأمر تفصيلاً عابراً في يوميات الشعوب المنهكة، بل لحظة فارقة تُعيد تشكيل المصير. ففي أيار الجاري، انفرج الأفق السوريّ بعد سنواتٍ عجافٍ من الحصار والعزلة، لتلوح في الأفق بداية جديدة، عنوانها: “رفع العقوبات الدوليّة عن دمشق”.
ليس هذا القرار مجرّد خطوة إجرائيّة في دفاتر السياسة الخارجيّة الأمريكيّة أو الأوروبيّة، بل انعكاسٌ لتحوّلات كبرى في المواقف والرؤى، واعتراف ضمنيّ بأنَّ الوقت قد حان لسوريا أن تستعيدَ مكانها الطبيعيّ في الخريطة الاقتصاديّة والسياسيّة للعالم.
بداية النهاية للعقوبات
في الثالث عشر من أيار الجاري، وبينما كانت عيون العالم تترقب التطورات الإقليميّة المتسارعة، باغت الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب الجميع بإعلانه من العاصمة السعودية، الرياض، رفع العقوبات المفروضة على سوريا. لم يكن القرار عادياً، ولم تأتِ كلماته من فراغ. فقد جاءت بعد مشاورات رفيعة المستوى جمعته بولي العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان، في لقاء طغت عليه الملامح الاستراتيجية أكثر من المجاملات الدبلوماسية. لسنوات طويلة، خيمت العقوبات الأمريكيّة على سوريا كغيمة رمادية كثيفة، بدأت منذ إعلانها دولة راعية للإرهاب في عام 1979، وتوالت من بعد ذلك فصول العقاب الاقتصاديّ والسياسيّ، ليتجدد في العام 2004، ثم يتضاعف ويتشعب بعد اندلاع النزاع الدموي عام 2011، الذي أحال سوريا إلى ساحة صراعات محليّة وإقليميّة ودوليّة، ودفع شعبها إلى التشظي والشتات. لكن؛ الإعلان الأمريكيّ الجديد، والذي بدا أشبه بلحظةٍ سياسيّةٍ تاريخيّةٍ، أعاد بعث الأمل في أوساط السوريين، وفتح الأبواب أمام تحولاتٍ اقتصاديّةٍ لم تكن في الحسبان، بعدما كاد العالم أن ينسى بلدهم الغارق في الدمار والعزلة.
لم يمر قرار ترامب مرور الكرام داخل أروقة واشنطن. فبمجرد خروجه إلى العلن، بدأتِ الإدارةُ الأمريكيّةُ سلسلةَ مراجعاتٍ دقيقةً للعقوباتِ المفروضة على دمشق. وأكّد ثلاثة مسؤولين أمريكيّين أنّ فرقاً فنية بدأت بعمليةِ تحليل تفصيليّة لكلّ القيودِ السابقة، تمهيداً لإلغائها تدريجيّاً، وتقديم مسودة واضحة المعالم للكونغرس الأمريكيّ، تشمل تفصيلات تتعلق بالقطاعات الاقتصاديّة، وشروط التعامل الماليّ، وآليات الرقابة.
[…]
نتائج يترقّبها السوريّون
من بين النتائج المباشرة لقرار رفع العقوبات الأمريكيّة والأوروبيّة عن سوريا، يبرز تحسين الوصول إلى السلعِ والخدماتِ الأساسيّة كإحدى أولى العلامات الفارقة التي ينتظرها السوريون بعد أعوامٍ طويلة من الحصار الاقتصاديّ. فمن الغذاء إلى الأدوية، ومن المعدات الطبيّة إلى مشتقات الطاقة، عانى المواطن السوريّ من شحٍّ قاسٍ في هذه المواد، ارتفعت معه الأسعار وانخفضتِ الجودة، وسط تفشّي السوق السوداء التي هيمنت عليها شبكات فساد داخليّة، تغذت على غياب الرقابة الدوليّة وقيود العزلة المفروضة على البلاد.
اليوم، ومع فتح المعابر التجاريّة وإزالة القيود التي كانت تمنع تدفّق السلع، يفتح الأفق أمام سوريا لتستعيد موقعها الطبيعيّ كمركز توزيعٍ إقليميّ في الشرق الأوسط، وتعيد لمستشفياتها وصيدلياتها ومخازن غذائها توازناً غاب طويلاً. وقد لمس الشارع السوريّ بعض هذه المؤشرات في الأيام الأولى عقب الإعلان، إذ شهدت الليرة السوريّة تحسناً مفاجئاً أمام الدولار في السوق الموازية، بعد أن فقدت أكثر من 99% من قيمتها منذ عام 2011، وأصبحت رمزاً لانهيار القدرة الشرائيّة وتضخم الأسعار. هذا التحسن، وإن كان رمزياً في بداياته، يعكس توق السوريين إلى أي بارقة أمل تعيد التوازن لحياتهم اليوميّة.
وفي هذا السياق، كان لصحيفتنا “روناهي” تصريح خاص من الدكتور إيهاب إسمندر، الباحث في الشأنين الاقتصاديّ والسياسيّ، للوقوف على الأبعاد الأعمق لهذا التحول المفصليّ. يقول الدكتور إسمندر: “إنَّ قرار الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب في 13 من شهر أيار الجاري برفع العقوبات عن سوريا، يُعد تهيئة لنقلة نوعيّة في العلاقات بين البلدين؛ وبين سوريا ومختلف بلدان العالم نتيجة التأثير القوي للولايات المتحدة على مختلف الدول. من المميز في هذا القرار أنه يُلغي عقوبات أمريكيّة مستمرة على سوريا منذ العام 1979، لكن لا بد من النظر إلى أن قرار رفع العقوبات الأمريكيّة عن سوريا، وبالرغم من أهميته؛ إلا أنه في النهاية لا يعدو كونه فرصة؛ وبالتالي القسم الأكبر من تأثير هذه الفرصة، سواء كانت إيجابية أم لا، مرتبط بطريقة تعاطي الحكومة السوريّة معها، وبما تهيئه من مناخ اقتصاديّ ملائم في البلاد للحصول على المنفعة الممكنة من هذا القرار.
وفيما يتعلق بانسياب السلع، في الماضي كان هناك الكثير من العوائق التي تعرقلُ وصولَ السلع، سواء الغذائيّة أو الدوائيّة أو غيرها إلى السوقِ السوريّة بسببِ العقوبات، ما يرفع تكاليفَ النقل والتأمين والمدفوعات وما إلى ذلك، ما يؤدي إلى حصولِ نقصٍ في السلعِ من ناحية، وارتفاع أسعارها من ناحية أخرى. ومع بعض الإجراءاتِ الداخليّة التي كانت تُساهم في الاحتكار، والذي يعني المزيد من نقصِ السلع والمزيد من رفع أسعارها؛ وكلُّ ذلك كان يضرُّ بالمستهلك السوريّ ويؤثر على مستوى معيشته ويشكّل ضغطاً أكبر على الليرة السوريّة”.
وأضاف: “يُفترض، مع رفع العقوبات الأمريكيّة عن سوريا وتحسين العلاقات التجاريّة السوريّة مع بقية الدول؛ أن يحصلَ انسيابٌ أكبر للبضائع، سواء الغذائيّة أو الدوائيّة أو غيرها، وتخفيض تكاليف وصولها إلى السوقِ السوريّة وبسهولةٍ أكبر، سواء لجهةِ النقلِ أو التأمين أو تسديدِ قيمِ السلع، ما يعني عرضاً أكبر منها من الناحيةِ الكميّة وأسعاراً أفضل من ناحية القيمة.
أما بخصوص تأثير القرار على العملةِ السوريّة؛ فمنذ صدوره كسبت الليرة حوالي 16% من قيمتها أمام الدولار، لكن هذا انعكاسٌ للبعد المعنويّ للقرار. وبالتالي، فإنَّ أيّ تطويرٍ حقيقيّ على قيمةِ الليرةِ السوريّة أمام الدولار الأمريكيّ، مرتبطٌ بردمِ فجوةِ الاقتصادِ الحقيقيّ في الاقتصاد السوريّ، وحجم الاستثمارات في سوريا، والعديد من الخطوات المتعلقةِ بالسياساتِ الاقتصاديّةِ والنقديّةِ والماليّةِ التي ستتبعها الحكومة.
القرار بحدِّ ذاته يُلغي أحدَ الأسباب التي تمنع الشركات من الاستثمار في سوريا؛ ويمكن النظر له على أنّه يعطي عدم ممانعة لقيامِ الشركات بالاستثمار في السوق السوريّ. أما قدوم هذه الشركات للاستثمار إلى سوريا، فهو مرتبطٌ بالعديدِ من الإجراءاتِ، وقد تمّت مناقشتها من قبل مجموعة من الباحثين والمختصين في إطار مبادرة “سراج” (سوريا: رحلة نحو اقتصادٍ جديد)، وبيّنت الدراسات المرتبطة بالمبادرة حاجة سوريا لإجراءات إعادة بناء اقتصادها ليكون جاذباً للاستثمارات. ومن ذلك: تحرير الاقتصاد السوريّ، تخفيف القيود الجمركيّة وغير الجمركيّة على التجارة الخارجيّة السوريّة، تطوير سياسة مالية تنافسيّة، تسهيل ممارسة الأعمال، تقليل المركزيّة وتفكيك الاحتكارات وتعزيز التنافسيّة، زيادة كفاءة العاملين الحكوميين وتقليل الترهل والتضخم في الجهاز الحكوميّ، خلق فرص عمل مناسبة للسوريين في القطاع الخاص، تمكين السوريين لإدارة اقتصادهم بشكل أفضل، تأهيل العمالة السوريّة لتلبية متطلبات الشركات الاستثماريّة. نستطيع القول: إن إلغاء العقوبات على سوريا يُهيّئ فرصة لدخول الشركات الاستثماريّة إليها، لكنه غير كافٍ إذا لم تتطور بيئة الأعمال السوريّة”.
واختتم الباحث في الشأنين الاقتصاديّ والسياسيّ الدكتور إيهاب إسمندر: “أعتقد أن هذا جزء من ثمن قرار رفع العقوبات، أي أنَّ رفعَ العقوباتِ الأمريكيّةِ، ما كان ليتم بدون اشتراطاتٍ معينة، ومنها إجراء إصلاحات في بنية الدولةِ السوريّة وتطوير بعدها السياسيّ ليتوافق مع النظرة الأمريكيّة؛ وتحسين علاقاتها مع مختلفِ الدول، ولا سيما دول الجوار، والسماح بعودةٍ مناسبةٍ وطوعيّة للاجئين السوريين من دول اللجوء. إذاً، لقرار رفع العقوبات علاقة جدليّة مع تطوير حالة سلطة دمشق؛ فهو تأثر ببوادر صدرت عنها، وبالوقت نفسه سيكونُ له دورٌ في تعميقِ التغيير لدى الحكومة، لتصبحَ أكثر انضماماً إلى المنهج الأمريكيّ في المنطقةِ”.
بهذا التقدير الواقعي، لا يُنظر إلى رفع العقوبات على أنه معجزة تنقذ الاقتصاد السوريّ، بل كنافذة مؤقتة يمكن أن تفتح على مستقبل مختلف، شريطة أن يُبنى لها الداخل السوريّ المؤسسيّ والبنيويّ القادر على استثمارها، وأن تُواكبها خطوات جريئة وحقيقية في الإصلاح، لا سيما في السياسة والاقتصاد والإدارة العامة.
هل ينقذ الاقتصاد السياسة؟
قد يكون رفع العقوبات خطوةً اقتصاديّةً في ظاهرها، ولكنها في جوهرها تحملُ أبعاداً سياسيّة بامتياز. فهي تكرّسُ الاعترافَ الدوليّ بالتحوّلِ السياسيّ في سوريا، وتمنحُ السلطة الجديدة شهادة عبور نحو الشرعيّة، وتُبعد شبحَ العزلة عن دمشق. كما تُعيد رسم خريطة العلاقات الإقليميّة، حيث تصبح سوريا لاعباً فاعلاً في معادلات الشرق الأوسط.
ما حدث في أيار لم يكن حدثاً عابراً. إنّه لحظة انعطاف في تاريخ سوريا الحديث. من دولة معزولةٍ، محاصرة، مثقلة بالحروب والدمار، إلى دولة تبدأ رحلتها في التعافي، والانفتاح، والبناء. ولكن؛ الطريق طويل، والمعركة الأهم لم تبدأ بعد: معركة الإصلاحِ الداخليّ، ومكافحة الفساد، وتثبيت دعائم العدالة والحرية. فرفع العقوبات ليس نهاية المطاف، بل بدايته. وسوريا، التي دفعت ثمناً باهظاً في الحرب، تستحق اليوم أن تحصد ثمار السلام.