صندوق النقد حاضر… والمحاسبة غائبة؟ قراءة نقدية في مشروع قانون الفجوة المالية

صندوق النقد حاضر… والمحاسبة غائبة؟ قراءة نقدية في مشروع قانون الفجوة المالية

في خضم النقاش حول مشروع قانون “الانتظام المالي واسترداد الودائع”، تتعدّد القراءات والتقييمات الاقتصادية لهذا النص الذي يُفترض أن يشكّل مدخلًا لمعالجة الفجوة المالية الهائلة التي يعاني منها النظام المالي في لبنان.
الخبير الاقتصادي باتريك مارديني يقدّم عبر “المدى” قراءة نقدية لمضامين المشروع، متوقفًا عند مدى تلبيته لمتطلبات صندوق النقد الدولي، وتأثيره على توزيع الخسائر بين الدولة، المصارف والمودعين، مع تساؤلات جوهرية حول غياب المحاسبة، واللجوء إلى الذهب كضمان للودائع.

فهل يشكّل المشروع خطوة إصلاحية مطلوبة؟ أم أنه يفتقر إلى العدالة في توزيع الأعباء ومحاسبة المسؤولين؟
فقد أكد مارديني بداية أن إعادة الانتظام المالي تُشكّل خطوة مفصلية لإطلاق عجلة النمو الاقتصادي في لبنان، بغضّ النظر عن تفاصيل الـ قانون. وشدّد على أن حسم هذا الملف، وبأي صيغة كانت، بات ضرورة ملحّة، لأن استمرار الوضع الراهن يجعل من شبه المستحيل إعادة تحريك سوق القروض.
وأوضح أن الاقتصاد اللبناني يعاني من عطش حاد للتمويل؛ فالشركات تحتاج إلى قروض للعمل والتوسّع وتوفير فرص العمل، كما يحتاج الأفراد إلى تمويل لشراء الشقق. لكن هذا كله متوقّف اليوم، وهو ما يُفسّر ضعف النمو الاقتصادي في البلاد، بل وسلبيته في معظم السنوات الأخيرة. ومن المؤكد أن لبنان كان بحاجة إلى قانون كهذا منذ ست سنوات، لكن التأخير في إقراره كلّف الاقتصاد ثمناً باهظاً.
واعتبر مارديني أن مشروع قانون الانتظام المالي يندرج ضمن متطلبات صندوق النقد الدولي من حيث الشكل، أي أن الصندوق كان قد اشترط على الحكومة إقرار هذا الـ قانون، أقلّه داخل مجلس الوزراء، قبل الشروع بأي تعاون فعلي مع لبنان. وهذا ما يفسّر الضغوط التي يمارسها رئيس الحكومة لإقراره سريعاً.
وبالتالي، من حيث المبدأ، يمكن القول إن هناك محاولة جدية للالتزام بالشروط المسبقة التي وضعها الصندوق، والتي تبدأ بإقرار هذا المشروع داخل الحكومة.
أما من حيث المضمون، فرأى مارديني أنه لا يزال من المبكر إصدار حكم نهائي حول مدى توافق الـ قانون مع رؤية صندوق النقد، لافتاً إلى ضرورة انتظار الموقف الرسمي للصندوق، إذ قد تكون هناك تفسيرات متعددة، أو ما أسماه “وجهان للمقاربة”.
وعن الجهة التي ستتحمّل العبء الأكبر من الخسائر: الدولة، المصارف، أم المودعون؟ وكيف توزّعت فعلياً بحسب النص؟ أوضح مارديني أن الـ قانون ينص أولاً على شطب جزء من الودائع المصنفة كـ”غير منتظمة”، وهي تلك التي استفادت من فوائد مرتفعة جداً. في هذه الحالة، تُلغى الفوائد الزائدة وتُحتسب فقط ضمن سقف معيّن، فيما تُعاد الوديعة الأساسية لأصحابها.
كما يشمل الاقتطاع (الهيركات) فئات أخرى، أبرزها الأشخاص الذين استفادوا من التلاعب بالعملات، أو من تحويل أموالهم إلى الدولار بأسعار صرف تفضيلية، إضافة إلى من حققوا أرباحاً مفرطة من خلال تعاملات مشبوهة، أو المتاجرة بالشيكات.
كما يتضمّن المشروع اقتطاعًا من أرباح المصارف التي تحققت في السنوات الماضية، إضافة إلى سعي حكومي لاستعادة جزء من الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج، خصوصًا بعد عام 2019.
في المقابل، فإن المودع العادي، الذي لم يتاجر بالشيكات أو يحوّل أمواله إلى الخارج، وتلقّى فوائد ضمن المعدلات الطبيعية، فسيُعاد إليه الجزء الأكبر من وديعته، إلى جانب جزء من الفوائد.
بالتالي، يمكن القول إن العبء الأكبر سيتحمّله من استفاد بشكل غير طبيعي من النظام المصرفي، بينما يُفترض أن تُصان حقوق المودعين العاديين.
ولفت مارديني إلى أنه، بعد تنقية ما يُسمّى في الـ قانون بـ”الودائع غير المنتظمة”، سيتم ردّ ما يصل إلى 100 ألف دولار لكل مودِع خلال أربع سنوات، أي بمعدل 25 ألف دولار سنويًا، ما يعادل نحو 2000 دولار شهريًا. أما المبالغ التي تتجاوز هذا السقف، فسيتم تحويلها إلى سندات صادرة عن مصرف لبنان ومضمونة بالذهب. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن هناك نوعًا من الضمان للودائع التي تفوق 100 ألف دولار.
وقال: “السؤال المطروح هنا هو: هل من المناسب استخدام احتياطي الذهب لضمان هذه السندات؟ هذا موضوع قابل للنقاش. لكن مبدئيًا، أعتقد أن ودائع المودعين قد أُمنت بهذه الآلية. أما ما إذا كانت هذه المقاربة صحّية أو لا، فهو نقاش آخر يحتاج إلى تقييم منفصل”.
وأشار إلى أن الطبقة السياسية أنفقت عمليًا أموال الذهب مسبقًا، موضحًا أن الهدر والفساد في السنوات الماضية لم يكن من أموال الدولة فحسب، بل من أموال المودعين، سواء عبر النفقات العامة المفرطة أو من خلال سياسة تثبيت سعر الصرف، التي كانت عمليًا وسيلة غير مباشرة لتمويل إنفاق الدولة.
على سبيل المثال، عندما كانت الحكومة تقترض لشراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان، كان مصرف لبنان يثبّت سعر صرف الدولار على 1500 ليرة، ما يعني أن الخسائر الناتجة عن هذا التثبيت كانت تُحمّل على القطاع المصرفي، وبالتالي على أموال المودعين. وبذلك، سواء من خلال الإنفاق العام أو عبر سياسة تثبيت سعر الصرف، تم استنزاف أموال المودعين بشكل غير مباشر.
بمعنى آخر، الحكومات السابقة أنفقت عمليًا أموال الذهب من دون أن تلمسه فعليًا، أما اليوم، فالمودعون يُطالبون بتسديد فاتورة تلك السياسات.
وتابع مارديني: من هنا، هناك نقاش جوهري يجب أن يحصل حول مبدأ المحاسبة. فهناك مسؤولون تسببوا بفجوة مالية ضخمة عبر إنفاق أموال المودعين بشكل عشوائي على مشاريع وقرارات غير مدروسة. وبدل أن ينصبّ الجهد على محاسبتهم، بات النقاش محصورًا بكيفية استخدام الذهب لسدّ الخسائر، وكأن المطلوب فقط نقل الأموال من جهة إلى أخرى، من دون محاسبة من تسبّب بالكارثة.
لقد تحوّل الأمر إلى مجرّد عملية حسابية تقنية، وهو ما يُعدّ أمرًا مؤسفًا للغاية، لأنه يوازي منح صك براءة لأولئك الذين كانوا في قلب الأزمة وساهموا في صناعتها.
وهل سيساهم هذا المشروع في إعادة الثقة بالقطاع المصرفي؟ أجاب مارديني: يمكن لهذا المشروع أن يُعيد نوعًا من التوازن إلى القطاع المصرفي، بشرط أن يلتزم هذا الأخير بتطبيق ما هو مطلوب منه، خصوصًا لجهة تسديد جزء من مبلغ الـ100 ألف دولار للمودعين، وهو مبلغ كبير نسبياً. من هذا المنطلق، نعم، نظرياً، قد يُعيد المشروع بعضاً من التوازن.
لكن، هل هو مشروع عادل؟ الجواب: لا. لأن تحقيق العدالة كان يقتضي إجراء تدقيق حقيقي في أداء الوزارات والمؤسسات العامة التي أنفقت أموال المودعين بعد اقتراضها من مصرف لبنان. هذا الأمر لم يحصل.
بالتالي، نحن قد نعيد التوازن إلى القطاع المصرفي، لكننا لا نحاسب الجهات التي استنزفت أمواله وصرفتها على النفقات العامة، ما يشكل خللاً بنيوياً في مقاربة الحل.

اضغط هنا لقراءة المقال على موقع المدى