لا تقتصر معاناة اللبنانيين على عدم تأمين الكهرباء لهم بشكل مستدام على نحو يضطرهم الى الاستعانة بالمولدات، بل يتعداها الى المياه التي وإن حصلوا عليها من الدولة فإن ذلك لا يعني عدم الاستعانة بصهاريج المياه الخاصة. وفي الحالين يتكبدون كلفة اضافية تزيد من الاعباء المالية عليهم.
في العام 2011، وضعت وزارة الطاقة والمياه الإستراتيجية الوطنية لقطاع المياه ووعدت بمعالجة للمشكلة في حلول سنة 2020 بكلفة بلغت نحو 10 مليارات دولار بينها 7.74 مليارات دولار استثمارات و2.1 مليار دولار صيانة. وقد شارفت هذه المهلة على الانتهاء في حين تتجه مشكلة المياه الى المزيد من التأزم نظراً الى عجز الخزينة عن التمويل، اضافة الى الإشكالات التي رافقت بناء السدود وتنظيف البحيرات ومجاري الأنهر.
في هذا الوقت، يتزايد التلوث في الانهر ومصادر المياه الأخرى بسبب غياب شبكة الصرف الصحي وتسرب المجارير اليها، وهذا ما أضاءت عليه الدراسة التي اعدها المعهد اللبناني لدراسات السوق، التي أشارت الى أن المواطن اللبناني يستخدم مياهاً ملوثة بالمجارير وعصارة النفايات للشرب وللاستحمام وغسيل الخضر والفواكه وموكونات الطعام والتنظيف. وهذا الامر ليس خافياً على أحد إذ سبق وأكدته دراسة أعدتها مصلحة الأبحاث الزراعية، أن “نتيجة عصارة النفايات وعدم معالجة مشكلة النفايات المستمرة منذ سنتين أدت الى وجود نسبة جراثيم مرتفعة وصلت الى المليارات، وهذا رقم خيالي ومخيف. كما سُجل وجود الملوثات الثلاثة معاً (الجرثومية والكيميائية والمعادن الثقيلة) في بعض المناطق.
هذه المياه الملوثة بغالبيتها تصل الى منازل اللبنانيين من طريق شبكة الدولة المهترئة التي يعود بعضها إلى أيام السلطنة العثمانية والانتداب الفرنسي فتهدر50% منها، وتؤمّن البقية حاجة نحو 35% من السكان فقط، بما يضطر المواطن الى الاستعانة بشركات تعبئة المياه، أي الصهاريج، فتكون النتيجة أن يدفع المواطن فاتورتين للحصول على مياه ملوثة. فكيف ترى الدراسة الحل؟ الدراسة التي تم الكشف عنها خلال مؤتمر صحافي في نادي الصحافة تحت عنوان كيفية معالجة واقع المياه وتلوثها في لبنان، إقترحت اعتماد سياسة جديدة لإدارة قطاع المياه توفر على موازنة الدولة 10 مليارات دولار كلفة الخطة التي وضعتها وزارة الطاقة، وتخرج هذا القطاع الحيوي من دائرة التجاذب السياسي.
الحل مقسم وفق الدراسة الى 3 أجزاء: إنتاج وتوزيع ونقل. فعلى صعيد الانتاج وبدل الهدر الحالي، تستثمر شركات الإنتاج ثروة لبنان المائية الضخمة التي تبلغ نحو 4.5 مليارات متر مكعب سنوياً، وتعمل على معالجة المياه السطحية مثل البحيرات والأنهار والينابيع التي تشكل 84% والمياه الجوفية (16%) على نفقتها الخاصة، لتبيعها لاحقاً الى شركات التوزيع.
ووفق الدراسة التي فصلها رئيس المعهد باتريك مارديني والمحلل الاقتصادي فيه مجدي عارف، فإنه من مصلحة شركات الإنتاج زيادة كمية المياه المتاحة عبر بناء السدود أو تحلية المياه الجوفية وحتى مياه البحر إذا دعت الحاجة. ويسمح نظام منتجي المياه المستقلين (Independent Water Producers IWP) باستغلال الموارد المائية في كل المناطق على نحو فعال، بما يخفض كلفتها على الموزعين نظراً الى التنافس بين المنتجين.
بالنسبة الى التوزيع، تقوم شركات التوزيع بشراء المياه من شركات الإنتاج بالجملة وتبيعها بالمفرق وفق الاستهلاك مع خدمة جباية الفواتير، بما يجعلها تتأكد من أن زبائنها يدفعون الفواتير وإلا ستتحمل هي خسارة من لا يدفع. وهذه العملية برأي المعهد تحسن من نسبة الجباية التي لا تتخطى حالياً 50%. وهنا لا بد من الاشارة الى أهمية السماح لأكبر عدد من شركات التوزيع بإستخدام الشبكة بدل الصهاريج وبيع المياه للمواطن ضمن عروض تنافسية. فإذا رفعت شركة ما سعرها أو تدهورت نوعية خدمتها، يلجأ المواطن الى شركة أخرى. وهذه المحاسبة المباشرة تضع المواطن في سدة القيادة وتتنافس الشركات على خدمته وإرضائه.
على صعيد النقل، تتولى شركات خاصة إدارة شبكة النقل وتضعها بتصرف الموزعين والمنتجين لقاء بدل إيجار، فيما تسعى شركات النقل إلى تحديث الشبكة وصيانتها وتوسيعها لتشمل كل المنازل مقارنة بنحو 35% من الطلب فقط اليوم لأن وارداتها مرتبطة بكمية المياه المستهلكة. ويضمن هذا الحل وقف الهدر على الشبكة لأن المياه التي يضخها المنتج تقاس بالعداد، وينبغي أن تتطابق مع كمية الاستهلاك، كما أن أي فرق بين الكميتين ستتحمل تكلفته شركات النقل. ويزيل تحسّن الشبكة فاتورة الصهاريج عن كاهل المواطن ويمنع اختلاط المياه بالمجارير وعصارة النفايات عند النقل، بما يساهم حتماً في خفض نسب الأمراض في لبنان.
هذه الصيغة الجديدة التي اقترحتها الدراسة تكفل وفق المعهد “معالجة الكارثة البيئية وخفض السعر وزيادة ساعات التغذية وإصلاح الشبكة وتوفير الـ4.85 مليارات دولار المقرر إنفاقها على المياه من خلال قروض “سيدر”. كما تسمح باستقطاب الاستثمارات إلى المياه ووقف نزيف الدولة وتحويله إلى قطاع ناجح وفعال”.
تجربة طرابلس
بين عامي 2003 و2007 تم تسليم قطاع المياه في طرابلس الى شركة فرنسية، التي استطاعت ان تخفض الهدر بنسبة 20% في خلال سنتين، وترفع الجباية من 30% الى 80%، وايرادات القطاع من 2 مليوني دولار الى 4.4 ملايين دولار سنوياً.
310 ملايين متر مكعب كمية الصرف الصحي التي ينتجها لبنان، تتم معالجة %8 فقط منها والبقية تذهب الى الانهر والبحر بشكل اساسي.