يسعى لبنان للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي الذي يعد المنقذ الاقتصادي الأول للحصول على قروض تسمح له بتوفير سيولة دولارية وتعيد له ثقة الأسواق الدولية، وسط مطالبات الصندوق بمجموعة من الإصلاحات اللازمة.
وأعلن رئيس مجلس الوزراء اللبناني نجيب ميقاتي، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، أن حكومته باشرت إعداد خطة التعافي المالي والاقتصادي التي تتضمن الإصلاحات الأساسية التي تحتاجها البلاد.
وقال ميقاتي في بيان إن “الخطة تتضمن الإصلاحات الأساسية في البنية الاقتصادية والمالية ووقف النزيف المالي الذي يسببه قطاع الكهرباء، إضافة إلى إعداد مشاريع قوانين جديدة والتعاون مع مجلس النواب لإقرارها في أسرع وقت”.
ولفت إلى أن “لبنان يعول كثيرا على إقرار خطة تعاون مع صندوق النقد الدولي لمساعدته على تجاوز الأزمة المالية والاقتصادية التي بلغت مستويات غير مسبوقة”.
وترى الحكومة اللبنانية الجديدة برئاسة نجيب ميقاتي أن استئناف المفاوضات مع الصندوق قد يمهد الطريق أمام الحصول على قروض ومنح مالية من المجتمع الدولي.
ويصنف البنك الدولي أزمة لبنان على أنها أسوأ من نظيرتها في اليونان، التي اندلعت في عام 2008، وتسببت في تشريد عشرات الآلاف من الأشخاص ودخول سنوات من الاضطرابات الاجتماعية.
كما أنها أكثر حدة من أزمة عام 2001 في الأرجنتين، والتي أسفرت أيضا عن اضطرابات واسعة النطاق، وفق البنك.
إصلاحات لازمة
ولكن تظل اتفاقية صندوق النقد الدولي رهينة مجموعة من الشروط للحصول على الدعم المالي الذي يحتاجه لبنان لإنهاء الأزمة المالية والاقتصادية الطاحنة التي أثقلت كاهل اللبنانيين خاصة في ظل وباء كورونا.
ووفق المدير التنفيذي في الصندوق محمود محيي الدين، فإن هذه الإصلاحات تتمثل في 4 أولويات قال إنها تشكل أركان التعامل المستقبلي مع الصندوق؛ وهي:
أولا، السياسات المالية العامة وكل ما يتعلق بإعادة هيكلة الدين العام، وإعداد موازنة منضبطة وفقا للمعايير الدولية، ويكون فيها مكون رئيس خاص بدعم النشاط الاجتماعي وكل الأنشطة الخاصة بالخدمات الاجتماعية الرئيسة.
ثانيا، الإصلاحات الخاصة بالقطاع المالي، عبر التركيز على الجهاز المصرفي ودور “مصرف لبنان” المركزي، وتحديد الخسائر وفق دراسات فنية معتمدة وللمعايير الدولية.
وهناك تفاهم جيد في هذا الأمر بين أعضاء الحكومة ومصرف لبنان.
ثالثا، أهمية توحيد نظام سعر الصرف، وهذا يكون عادة منتجا من منتجات الإصلاحات الاقتصادية الشاملة، الذي تتم المباشرة به بالنقاش مع صندوق النقد، وفيها أيضا قانون مهم خاص بضبط التحويلات من داخل البلاد وخارجها.
وهذا أيضا جرى مناقشته مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس لجنة المال والموازنة النيابية إبراهيم كنعان.
رابعا، الإصلاحات الهيكلية وتأكيد موضوع الحوكمة والشفافية والأمور القطاعية ذات الأولوية التي تحددها الدولة.
إلا أن تلك النتائج الأولية التي تحدث عنها محيي الدين، لم تكن بداية للتفاوض رسميا مع الصندوق.
وقال: “أنا لا أتفاوض مع الحكومة أو مع مصرف لبنان، لكن دوري هو التعرف على أولويات الدولة من خلال لقاءاتي التي استهللتها بلقاء رئيس الجمهورية ميشال عون”.
وحول قيمة القرض الذي تسعى بيروت للحصول عليه من صندوق النقد، قال سمير الضاهر المستشار الاقتصادي لرئيس الحكومة في برنامج “المشهد اللبناني” عبر قناة “الحرة”، إن “هذا المبلغ يكون تبعا للكوتا الخاصة بلبنان وهي تتراوح ما بين 3 و4 مليارات دولار”.
بينما قال وزير الاقتصاد اللبناني، أمين سلام، في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2021، إن بلده يستهدف الحصول على أكثر من ملياري دولار من صندوق النقد الدولي، ولكن الأموال لن تصل قبل الانتخابات البرلمانية في مارس/آذار 2022، بحسب وكالة رويترز.
وحول إمكانية توصل لبنان لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، يرى رئيس المعهد اللبناني لدراسات السوق، باتريك مارديني، أن الصعوبات التي تواجه البلاد مع الصندوق ليس لها علاقة بالصندوق ولكن تتعلق بالبلد نفسه، فالقوى السياسية لم تتفق على الإصلاحات التي تريد العمل عليها.
وأضاف مارديني، لـ”الاستقلال”، أن هناك خلافات داخلية جوهرية بين تلك القوى وبخاصة فيما يتعلق بإعادة إصلاح القطاع المصرفي.
وأشار إلى أن حكومة حسان دياب السابقة أقرت خطة تقضي بموجبها تصفية المصارف إلا أن القوى السياسية رفضت، الأمر الذي عقد المفاوضات السابقة مع الصندوق.
وتوقع أن تواجه الحكومة الحالية صعوبة في التوصل لاتفاق توافق عليه القوى السياسية حول إصلاح القطاع المصرفي لأن هناك من يريد أن يحمل خسائر هذا القطاع للمصارف، بينما البعض الآخر يريد تحميلها للمودعين وغيرهم يريد تحميلها للدولة اللبنانية.
وهو ما أشار إليه توفيق كاسبا وزير المالية السابق والخبير الاقتصادي الذي عمل مستشارا لصندوق النقد الدولي في إحدى تصريحاته، بالقول إن “الأزمة في لبنان بالأساس انهيار مصرفي في المقام الأول”.
وبدأت أزمة القطاع المصرفي بعد أن عملت حكومات متعاقبة على تراكم الديون دون أن يكون لديها ما تستند إليه مقابل انغماسها في الإنفاق.
إذ اقترضت تلك الحكومات المتعاقبة من المصارف عبر البنك المركزي لسداد نفقاتها، إلا أنه في نهاية المطاف عجزت الدولة عن سداد تلك القروض.
وأدت الأزمات الاقتصادية الكبرى التي شهدتها لبنان إلى ضرورة اللجوء لإصلاحات صعبة على المستوى الاجتماعي والمعيشي تحديدا.
وبالتالي الحكومات السابقة لم تكن قادرة على تطبيق الإصلاحات، لأغراض سياسية وانتخابية رغم وعودها بذلك.
لذا يرى الخبير الاقتصادي، أنه في ظل هذا القصور والعجز الذي يواجه الحكومات اللبنانية، تحتاج إلى صندوق النقد الذي يوجهها.
بالإضافة إلى أن الحكومة ستكون قادرة على تحميل تلك الإصلاحات الصعبة على الصندوق بدلا منها أمام الشعب مما يسهل العمل أو البدء فيها مباشرة، وبالتالي “الصندوق ليس هو الحل الكافي ولكنه الوحيد”.
يأتي هذا وسط وجود العديد من المتطلبات اللازمة لإرضاء الصندوق مثل زيادة الدولة مداخيلها عبر الضرائب والرسوم الجمركية، وتوسيع قاعدتها الضريبية.
إلى جانب التوصل إلى حل لإعادة الدين الخارجي، وتنفيذ إصلاحات في قطاعات كالكهرباء، في وقت يعاني فيه المواطن اللبناني المطحون من أعباء معيشية صعبة.
وهو ما ظهر في دراسة نشرتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا “الإسكوا” في 3 سبتمبر/أيلول 2021، تحت عنوان “الفقر المتعدد الأبعاد في لبنان: واقع أليم وآفاق مبهمة”.
وقالت الدراسة إن نسبة الذين يعيشون في فقر متعدد الأبعاد تصل إلى 82 بالمئة من السكان، إذا تم أخذ أبعاد أوسع في الاعتبار، مثل الصحة والتعليم والخدمات العامة.
ويرى مارديني، أن التكلفة قد دفعها المواطن اللبناني حتى الآن، بسبب عدم الخوض في هذه الإصلاحات التي تأخرت جدا كونها تزداد صعوبة مع مرور مزيد من الوقت.
وأشار إلى أن لبنان لو استفاد من الخوض في مفاوضات مبكرة مع صندوق النقد الدولي لكانت الكلفة الاجتماعية أدنى، فاليوم المجتمع اللبناني “غير قادر على تحمل كلفة الانهيار الاقتصادي وتبعاته”.
وأشارت دراسة الإسكوا إلى أن التضخم ارتفع إلى 281 بالمئة بين يونيو/حزيران 2019 وذات الشهر من عام 2021 في لبنان، مضيفة أن انخفاض قيمة العملة والتضخم أدى إلى انخفاض كبير في مستويات المعيشة.
وارتفعت نسبة الأسر المحرومة من الرعاية الصحية إلى 33 بالمئة، بينما زادت نسبة غير القادرين على الحصول على الأدوية إلى أكثر من النصف.
لكن رغم صعوبة فاتورة الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، فإنه بدون تلك الإجراءات سيزداد الوضع الاقتصادي سوءا يوما بعد يوم، لذا يطالب كثيرون بالشروع فيها لتفادي مزيد من التدهور والفقر.
ويدعو مختصون الحكومة اللبنانية إلى العمل بإرادة حقيقية على تنفيذ تلك الإصلاحات للتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي للخروج من عنق الزجاجة.
وأوضح مارديني، أنه في حال عدم توصل الحكومة لاتفاق مع الصندوق فهذا يعني أن لبنان غير جدي في إجراء إصلاحات هيكلية، ما يعني استمرار البلد في أزمته لفترة طويلة جدا قد تصل إلى 20 عاما.
وأشار إلى أنه لا خيار أمام الحكومة اللبنانية، مطالبا إياها بضرورة العمل على اتخاذ الخطوة الإيجابية بتنفيذ تلك الإصلاحات للاستفادة أيضا من مساعدات المجتمع الدولي، ولن “يحدث ذلك دون تجرع كأس صندوق النقد الدولي”.